نفحات الولایه (شرح عصری جامع لنهج البلاغه) المجلد 4

اشارة

عنوان و نام پدیدآور:نفحات الولایه: شرح عصری جامع لنهج البلاغه المجلد 4/ ناصرمکارم شیرازی، بمساعده مجموعه من الفضلاء؛ اعداد عبدالرحیم الحمدانی.

مشخصات نشر:قم : مدرسه الامام علی ابن ابی طالب (ع) ، 1426ق.-= 1384.

مشخصات ظاهری:10 ج.

شابک:30000 ریال : دوره 964-813-958-X: ؛ ج. 1 964-813-907-5 : ؛ ج. 2 964-813-908-3 : ؛ ج. 3 964-813-917-2 : ؛ ج. 4 964-813-918-0 : ؛ ج.5 : 964-813-941-5 ؛ 70000 ریال: ج. 6 978-964-533-120-5 : ؛ 70000 ریال: ج. 7 978-964-533-121-2 : ؛ 70000 ریال: ج. 8 978-964-533-122-9 : ؛ 70000 ریال: ج. 9 978-964-533-123-6 : ؛ 70000 ریال: ج. 10 978-964-533-124-3 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج 1- 5 ( چاپ دوم: 1384).

یادداشت:ج. 6- 10 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390).

یادداشت:کتابنامه.

مندرجات:.- ج. 6. من خطبة 151 الی 180.- ج. 7. من خطبة 181 الی 200.- ج. 8. من خطبة 201 الی 241.- ج. 9. من رسالة 1 الی 31.- ج. 10. من رسالة 32 الی 53

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق -- خطبه ها

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- کلمات قصار

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- نامه ها

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه -- نقد و تفسیر

شناسه افزوده:حمرانی، عبدالرحیم

شناسه افزوده:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه. شرح

شناسه افزوده:مدرسة الامام علی بن ابی طالب (ع)

رده بندی کنگره:BP38/02 /م7 1384

رده بندی دیویی:297/9515

شماره کتابشناسی ملی:م 84-40347

ص :1

اشارة

ص :2

نفحات الولایه: شرح عصری جامع لنهج البلاغه المجلد 4

ناصرمکارم شیرازی، بمساعده مجموعه من الفضلاء

اعداد عبدالرحیم الحمدانی

ص :3

ص :4

الخطبة الحادیة و التسعون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

تعرف بخطبة الأشباح وهی من جلائل خطبه علیه السلام

روی عن مسعدة بن صدقة عن الصادق، جعفر بن محمد علیه السلام أنّه قال: خطب أمیرالمؤمنین علیه السلام بهذه الخطبة علی منبر الکوفة، وذلک أنّ رجلاً أتاه فقال له: یا أمیرالمؤمنین صف لنا ربّنا مثلما نراه عیاناً لنزداد له حبّاً وبه معرفة، فغضب ونادی: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس حتی غص المسجد بأهله، فصعد المنبر وهو مغضب متغیر اللون، فحمداللّه وأثنی علیه وصلی علی النبی صلی الله علیه و آله ثم قال. . .

نظرة إلی الخطبة

هذه من الخطب القیمة التی تفیض رقة وفصاحة وبلاغة وعذوبة، وهی شهادة اُخری علی

ص:5


1- 1) سند الخطبة: قد کفانا الرضی (ره) مؤنة البحث عن مصادر هذه الخطبة إذ ذکر أنّه نقلها عن مسعدة بن صدقة العبدی عن أبی عبداللّه علیه السلام ومسعدة هذا له کتب منها کتاب (خطب امیرالمؤمنین علیه السلام) کما ذکرنا ذلک فی أوائل هذا الکتاب تحت عنوان الکتب المؤلفة فی کلام أمیر المؤمنین علیه السلام وقلنا هناک إنّ کتاب مسعدة هذا کان باقیاً إلی زمن السید هاشم البحرانی (ره) إذ نقل عنه کثیراً فی تفسیره المعروف بالبرهان کما نوه به فی مقدمة الکتاب المذکور ثم صار فی ضمائر الغیوب. وعلی کل حال ان الخطبة الاشباح هذه من خطب أمیر المؤمنین المشهورة رواها العلماء قبل الرضی أیضاً أحمد بن عبد ربّه المالکی فی العقد الفرید والشیخ الصدوق فی التوحید باختلاف فی بعض الألفاظ والفقرات مع روایة الرضی. ورواها الزمخشری فی ربیع الأبرار وإبن الأثیر فی النهایة. و الخطبة شاهدة لنفسها لا تحتاج مع لفظها الباهر، ومعناها الظاهر، إلی اسناد متواتر کما قال السید ابن طاووس (حیث من المستبعد إن تصدر مثل هذه المضامین من غیر المعصوم) (مصادر نهج البلاغة 2/168) . [1]

عظمة أمیر المؤمنین علی علیه السلام وإرتباطه بالعالم القدسی وانفتاحه علی خزائن العلم الإلهی.

قال ابن أبی الحدید فی تعلیقه علی هذه الخطبة : «إذا جاء هذا الکلام الربانیّ، واللفظ القدسی، بطلت فصاحة العرب، وکانت نسبة الفصیح من کلامها إلیه، نسبة التراب إلی النضار الخالص؛ ولو فرضنا أنّ العرب تقدر علی الألفاظ الفصیحة المناسبة، أو المقاربة لهذه الألفاظ، من أین لهم المادة التی عبرت هذه الألفاظ عنها؟ ومن أین تعرف الجاهلیة بل الصحابة المعاصرون لرسول اللّه صلی الله علیه و آله هذه المعانی الغامضة السمائیة؛ لیتهیأ لها التعبیر عنها أمّا الجاهلیة فانّهم إنّما کانت تظهر فصاحتهم فی صفة بعیر أو فرس أو حمار وحش، أو ثورة فلاة، أو صفة جبال أو فلوات؛ ونحو ذلک. وأمّا الصحابة فالمذکورون منهم بفصاحة إنّما کان منتهی فصاحة أحدهم کلمات لا تتجاوز السطرین أو الثلاثة، إمّا فی موعظة تتضمن ذکر الموت أو ذم الدنیا، أو ما یتعلق بحرب وقتال؛ من ترغیب أو ترهیب. . .» .

ثم أضاف ابن أبی الحدید بعد أن أشاد بالخطبة قائلاً : «وأقسم أنّ هذا الکلام إذا تأمله اللبیب اقشعر جلده، ورجف قلبه، واستشعر عظمة اللّه العظیم فی روعه وخلده، وهام نحوه وغلب الوجد علیه وکاد أن یخرج من مسکه شوقاً؛ وأن یفارق هیکله صبابة ووجداً» (1).

علی کل حال فانّ هذه الخطبة تشتمل علی عدّة أقسام، یکمل کل واحد منها الآخر. وهی علی عشرة أقسام:

القسم الأول: فی جانب من صفات اللّه سبحانه وتعالی من أجل إعداد الأفکار لتقبل ما یرد علیها من حقائق.

القسم الثانی: یتضمن إجابة عن سؤال السائل عن صفات اللّه و یجعل القرآن میزانا فی دائرة أسماء اللّه و صفاته، و یوصیه بالتمسک بآیاته سیّما فی هذا البحث.

القسم الثالث: الإشارة إلی عجز الإنسان عن الاحاطة العلمیة بکنه الذات و الصفات

ص:6


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 6/425. [1]

الإلهیة المقدسة وما تنطوی علیه من صفات.

القسم الرابع: بحث القدرة الإلهیة فی تدبیر عالم الخلقة - الذی یمثل المرآة التی تعکس صفاته سبحانه -.

القسم الخامس: الحدیث عن خلق السموات العلی والتی تمثل جانباً من عظمة البارئ سبحانه.

القسم السادس: الحدیث عن خلق الملائکة وصفاتهم وخصائصهم.

القسم السابع: لفت انتباه الناس إلی العالم العلوی؛ إلی جانب الحدیث عن خلق الأرض.

القسم الثامن: خلق آدم علیه السلام وبعث الأنبیاء وارسال الرسل.

القسم التاسع: یتحدث عن علم اللّه سبحانه بالغیب واحاطته بکافة أسرار وجود الإنسان وخفایاه و ما یضمره من أعمال و أفکار ونیات.

والقسم العاشر: والأخیر حیث یختتم الإمام علیه السلام خطبتة العمیقة المضامین بأدعیه روحیة عظیمة، لتشکل الخطبة بکافة أقسامها لوحة روحیة سامیة تلطف روح الإنسان وتأخذ بیده إلی السیر نحو اللّه واصلاح فکره وأعماله (1).

وأمّا سبب تسمیة هذه الخطبة بالاشباح فهناک اختلاف بین الشرّاح بهذا الخصوص. فقد ذهب البعض إلی أنّ «الاشباح» کنایة عن الملائکة، حیث تضمنت الخطبة جانباً مهما فی الحدیث عنها ومن هنا سمیت هذه الخطبة بالأشباح.

کما رأی البعض الآخر أنّ مفردة الأشباح ذکرت فی الخطبة، وحیث اعتاد السید الرضی (ره) علی اختیار قطوف من الخطبة، فقد اسقط تلک العبارة والتی احتمل البعض أنّها وردت بهذا الشکل فی الخطبة «وکیف یوصف بالأشباح وینعت بالألسن الفصاح» . وهی العبارة التی أوردها المرحوم الشیخ الصدوق فی کتاب التوحید ضمن خطبة قسما من خطبة الاشباح (2).

الاحتمال الآخر فی سبب هذه التسمیة هو أنّ الخطبة طویلة، وأحد معانی الشبح هو الطول

ص:7


1- 1) لابدّ من الالتفات هنا إلی أنّ الخطبه تقسم بشکل عام إلی عشرة أقسام، حیث تقسم هذه الأقسام بدورها إلی عدّة أقسام اُخری. ولذالک عمدنا فی النهایة إلی شرحها علی أساس جعلها أربعة وعشرین قسماً.
2- 2) توحید الصدوق /79 ح 34.

والامتداد. حیث أورد ابن فارس فی مقاییس اللغة فی تفسیر «الشبح» قائلاً: «أصل صحیح یدل علی إمتداد الشی فی عرض، من ذلک الشبح» وهو الشخص سمی بذلک، لأنّه فیه إمتداد أو عرضاً (1).

وهنا یبرز هذا السؤال: ورد فی مقدمة الخطبة أنّ رجلاً سأل أمیرالمؤمنین علیه السلام صف لنا ربّنا مثلما نراه عیاناً لنزداد له حبّاً وبه معرفة. فغضب ونادی: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر وخطب بهذه الخطبة. والسؤال مم کان غضب الإمام علیه السلام؟

یبدو أنّ هناک بعض النقاط التی ینبغی الالتفات إلیها لتتضح الإجابة علی هذا السؤال ومنها: صیغة السؤال تفید أنّ السائل کان یتوقع للّه صفات علی غرار صفات مخلوقاتة، حیث عبر عن ذلک بالرؤیة «مثلما نراه عیانا» ؛ الأمر الذی یکشف عن عقیدة المجسمة الذین کانوا یرون اللّه جسماً.

أمّا النقطة الثانیة فلعل غضبة علیه السلام کان لهذا السبب وهو: لم لایزال بعض المسلمین لا یملکون الرؤیة الواضحة عن صفات اللّه سبحانه رغم تقادم الزمان علی انبثاق الدعوة الإسلامیة وسعة المعارف والعلوم والخزین الدینی.

أو تأسفاً علی تلک الحادثة التی أقصت الإمام علیه السلام عن الساحة وجعلته رهین الدار مدة خمس وعشرین سنة لیحول دونه ودون تعلیم أبناء الاُمّة الإسلامیة وتعریفهم بالمفاهیم الإسلامیة الحقة والمعارف الدینیة.

ص:8


1- 1) ابن فارس، مقاییس اللغة. [1]

القسم الأول: جوده لا ینضب

اشارة

«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لا یَفِرُهُ الْمَنْعُ وَالْجُمُودُ وَلا یُکْدِیهِ الْإِعْطاءُ وَالْجُودُ إِذْ کُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِواهُ وَکُلُّ مانِعٍ مَذْمُومٌ ما خَلاهُ وَهُوَ الْمَنّانُ بِفَوائِدِ النِّعَمِ وَعَوائِدِ الْمَزِیدِ وَالْقِسَمِ عِیالُهُ الْخَلائِقُ ضَمِنَ أَرْزاقَهُمْ وَقَدَّرَ أَقْواتَهُمْ وَنَهَجَ سَبِیلَ الرّاغِبِینَ إِلَیْهِ وَالطّالِبِینَ ما لَدَیْهِ وَلَیْسَ بِما سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِما لَمْ یُسْأَلْ الْأَوَّلُ الَّذِی لَمْ یَکُنْ لَهُ قَبْلٌ فَیَکُونَ شَیْءٌ قَبْلَهُ وَالْآخِرُ الَّذِی لَیْسَ لهُ بَعْدٌ فَیَکُونَ شَیْءٌ بَعْدَهُ وَالرّادِعُ أَناسِیَّ الْأَبْصارِ عَنْ أَنْ تَنالَهُ أَوْ تُدْرِکَهُ ما اخْتَلَفَ عَلَیْهِ دَهْرٌ فَیَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحالُ وَلا کانَ فِی مَکانٍ فَیَجُوزَ عَلَیْهِ الِانْتِقالُ وَلَوْ وَهَبَ ما تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعادِنُ الْجِبالِ وَضَحِکَتْ عَنْهُ أَصْدافُ الْبِحارِ مِنْ فِلِزِّ اللُّجَیْنِ وَالْعِقْیانِ وَنُثارَةِ الدُّرِّ وَحَصِیدِ الْمَرْجانِ ما أَثَّرَ ذَلِکَ فِی جُودِهِ وَلا أَنْفَدَ سَعَةَ ما عِنْدَهُ وَلَکانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخائِرِ الْأَنْعامِ ما لا تُنْفِدُهُ مَطالِبُ الْأَنامِ لِأَنَّهُ الْجَوادُ الَّذِی لا یَغِیضُهُ سُؤالُ السّائِلِینَ وَلا یُبْخِلُهُ إِلْحاحُ الْمُلِحِّینَ» .

الشرح والتفسیر

أنّ الدافع إیراد من هذه الخطبة کما وردفی مقدمتها هو أنّ شخصاً سأل الإمام علیه السلام قائلاً: صف لنا ربّنا مثلما نراه عیاناً؛ الکلام الذی تشم منه رائحة القول بالتجسم علی اللّه، أو علی الأقل الاشتمال علی صفات الممکنات. فغضب الإمام علیه السلام غضباً شدیدا و تغیر وجهه وأورد هذه الکلمات من أجل تهذیب هذه العقائد الفاسدة والأفکار المنحرفة وهدایتها إلی الصراط المستقیم من خلال استعراض صفاته الحقه سبحانه ولذالک فقد استهل علیه السلام الخطبة بأدق

ص:9

صفاته سبحانه التی تشیر إلی مباینتها لصفات کافة مخلوقاته. فقد قال علیه السلام بادئ ذی بدء: «الحمداللّه الذی لا یفره (1)المنع والجمود، ولا یکدیه (2)الاعطاء والجود» . ثم خاض علیه السلام فی الدلیل علی ذلک قائلاً: «إذ کل معط منتقص سواه، وکل مانع مذموم ما خلاه» . نعلم جمیعاً أنّ أحد الأرکان الأصلیة لمعرفة صفات اللّه سبحانه وتعالی یکمن فی الاعتقاد بأنّه وجود مطلق من جمیع الجهات ولیست هناک من حدود لذاته المقدسة وصفاته. فمن الطبیعی أنّ اللامحدود یبقی کذلک مهما أخذ منه؛ أی لیس للنقصان والقلة من سبیل إلیه. وعلی هذا الضوء فلو وهب کل إنسان عالماً من المادة، لما نفدت خزائن نعمه. ولهذا أیضاً إذا منع أحد شیئاً فلا یذم علیه. لتعذر تصور البخل علی الذات المطلقة. فلیس هنالک من سبیل سوی إسناد المنع إلی الحکمة والمصلحة. بعبارة اُخری فانّ عطائه ومنعه یتوقف علی الاستعداد والاستحقاق والأهلیة، وعلیه ینقطع کل کلام ویخرس کل لسان عن الخوض فی هذا الموضوع. جاء فی الحدیث القدسی: «یا عبادی لو أنّ أولکم وآخرکم وانسکم وجنکم قاموا فی صعید واحد، فسألونی فأعطیت کل إنسان مسألته ما نقص ذلک ممّا عندی شیئاً إلّاکما ینقص المخیط إذا دخل البحر» (3)، فمن الطبیعی أن لا یعلق شی من الماء بالاُبرة إذا ما القیت فیه سوی بمقدار الرطوبة العالقة بها. وهذا أروع مثال لأدنی نقص یطیل أعظم مصدر ومنبع للماء. فالمثال صورة واضحة لعدم تناهی الخزائن الإلهیة التی لا تزیدها کثرة العطاء إلّازیادة. کما ورد فی حدیث قدسی آخر: «إن من عبادی من لا یصلحه إلّاالفاقة، ولو أغنیته لأفسده ذلک» (4)، ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه عن سائر صفاته سبحانه ذات الصلة بجوده وکرمه وعطائه فقال: «وهو المنان بفوائد النعم، وعوائد المزید والقسم» فالالتفات إلی النعم الإلهیة علی أساس أنّ وجدان الإنسان یوجب علیه شکر هذه النعم ویشده إلی الحق سبحانه، نری الإمام علیه السلام یطرق بادیء الأمر هذا المعنی لیعد القلوب لما سیرد علیها من حقائق. والتعبیر «منان» من مادة من بمعنی کثیر العطاء. أمّا فوائد النعم فتنطوی علی مفهوم واسع یشمل کافة النعم المادیة

ص:10


1- 1) «یفره» من مادة «وفور» بمعنی الکثرة والزیادة.
2- 2) «یکدیه» من مادة «کدی» علی وزن کسب بمعنی البخل، وهی هنا بمعنی یفقره وینفد خزائنه.
3- 3) منهاج البراعة 6/288.
4- 4) بحار الانوار 68/140 ح 31. [1]

والمعنویة. وأمّا الفارق بین هذه العبارة وقوله: «عوائد المزید والقسم» فقد وردت بشأنه عدّة احتمالات: الأول: أنّ العبارة الاولی إشارة إلی ضروریات الحیاة، والثانیة إلی الرفاه والدعة وما یدعو إلی الاستقرار واللذة والراحة؛ أی کمالیات الحیاة. والاحتمال الثانی: أن یکون المراد بالعبارة الاولی النعم الفردیة، والعبارة الثانیة: «بالنظر إلی مفردة القسم من مادة قسمة» المنافع والنعم الاجتماعیة. والاحتمال الثالث: أن یکون المقصود بفوائد النعم الأرزاق التی تشمل الإنسان من قبیل الماء والهواء ونور الشمس وضیاء القمر وبالتالی مایصله من رزق دون سعی وجهد، والعبارة: «عوائد المزید والقسم» ناظرة إلی الارزاق التی یحصل علیها الإنسان بفعل جده واجتهاده وسعیه ونشاطه وإدارته الصحیحة لشؤون حیاته. ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بهذا الخصوص فقال: «عیاله الخلائق، ضمن أرزاقهم، وقدر أقواتهم» فالتعبیر بعیال تشیر من جانب إلی محبّة اللّه ولطفه بعباده، کما أنّها مقدمة لبیان ضمان أرزاقهم من جانب آخر، وذلک لأنّ کل فرد یشعر بعظم مسؤولیته إزاء عیاله وأهل بیته. فلا یمکن علی اللّه أنّ یخلق عبداً دون أن یتکفل برزقه. وأمّا ما نراه من جوع فی عالمنا المعاصر و فیما مضی قدأدی بحیاة الناس، فذلک ممّا تفرزه طبیعة الحرص والظلم التی انطوت علیها سیرة الطغاة والظلمة والاستغلال الذی یمارسونه بحق الضعفاء والفقراء ونهب أموالهم وخیراتهم. کما لا ینبغی أن ننسی خنوع البعض وعدم السعی الجاد فی هذه الحیاة والافتقار إلی الإدارة الصحیحة. وإلّا فانّ السفرة الإلهیة علی درجة من السعة والشمول بحیث تلبی احتیاجات کافة العباد إلی یوم القیمة. ثم خاض علیه السلام فی النعم المعنویة لیکشف اللثام عن فتح باب المیسرة إلی اللّه والفوز بقربه وجواره فقال علیه السلام: «ونهج سبیل الراغبین إلیه، والطالبین ما لدیه» . وهکذا أبان علیه السلام توفر کافة أسباب سعادة الناس علی الصعید المادی والمعنوی لیهدیهم إلی الطریق دون أن یکون هناک من اجبار لنهج هذا السبیل أو ترک ذاک، فللإنسان بمحض إرادته أن یستثمر هذه النعم ویوظفها فی الاتجاه الصحیح. ثم اختتم کلامه بشأن هذه النعم حیث تعرض إلی صفة أخری من صفاته قائلاً: «ولیس بما سئل باجود منه بما لم یسأل» . فالعبارة تختزن إشارة لطیفة إلی حقیقة وهی أنّ جوده وکرمه علی أساس الاستحقاق والاستعداد لا علی ضوء الطلب والسؤال، وإن کان الدعاء أحد أسباب نزول النعم الإلهیة

ص:11

فذلک لأنّ الداعی إذا أعد فی نفسه شرائط الدعاء إنّما یکون قد وسع دائرة استحقاقه واستعداده؛ فالدعاء الصحیح یسوق الإنسان إلی التوبة والإنابة وإصلاح الذات وذکر اللّه، وکل من هذه المعانی یسهم بقدر فی اتساع حجم الاستحقاق.

قال ابن أبی الحدید فی تفسیره للعبارة: «ولیس بما سئل بأجود. . .» فیه معنی لطیف، وذلک لأنّ هذاالمعنی ممّا یختص بالبشر: «لأنهم یتحرکون بالسؤال وتهزهم الطلبات، فیکونون بما سألهم السائل أجود منهم بما لم یسألهم إیاه. وأمّا البارئ سبحانه فانّ جوده لیس علی هذا المنهاج، لأنّ جوده عام فی جمیع الأحوال» (1).

أضف إلی ذلک فانّ الناس وإثر نقصهم وحاجتهم إنّما یشحون فی العطاء بما هم إلیه أحوج من سائر الأشیاء التی لا حاجة لهم فیها؛ الأمر الذی لیس به من سبیل إلی الذات الإلهیة المطلقة المنزهة عن کل نقص وحاجة. ثم انتقل الإمام علیه السلام إلی بیان أربع صفات من صفات الذات فقال: «الأول الذی لم یکن له قبل فیکون شی قبله، والآخر الذی لیس له بعد فیکون شی بعده» . فالمفروغ منه هو أنّ الأساس فی معرفة ذات وصفات اللّه یکمن فی کونه مطلقاً سبحانه لایعرف القیود والحدود واللامتناهی، و هو الکمال المطلق والوجود الدائم من جمیع الجهات، فهو کائن ویکون إلی أبد الأبدین.

فالأول فی عالم الممکنات یقال للشیء بالنسبة لمایلیه، وفی نفس الوقت لما سبقه بعض الأشیاء لأنّ البدایة والنهایة فی الممکنات أمر نسبی؛ وتنفرد الذات الإلهیة المطلقة بعدم وجود شی قبلها ولا بعدها. ومن البدیهی علی هذا الاساس أنّ أولیته وآخریته لا تعنی الأول الزمانی ولا الآخر الزمانی و ذلک لأن الزمان یأتی من حرکة الموجودات حیث أن الزمان یمثل مقدار الحرکة؛ فلا یطلق علیه البعدیة والقبلیة کما یطلق علی الزمانیات؛ وإنّما لم یکن وجوده زمانیاً لأنّه لا یقبل الحرکة، والزمان من لواحق الحرکة، وإنّما لم تطلق علیه البعدیة والقبلیة إذا لم یکن زمانیاً؛ والحرکة إمّا نحو الکمال أو النقصان. ونعلم أنّه کمال مطلق لا یشوبه أی نقص. ثم قال علیه السلام فی الصفة الثالثة: «والرادع أناسی (2)الأبصار عن أن تناله أو تدرکه» فلا العین

ص:12


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 6/400. [1]
2- 2) «اناسی» جمع «إنسان» و یطلق علی أفراد بنی الإنسان کما یطلق هذا اللفظ علی بؤبؤ العین، لانعکاس صورة الأفراد فیها.

الظاهرة تراه لأنه لیس بجسم فلا مکان له ولا جهة، ولا العین الباطنه یسعها مشاهدة کنه ذاته. فالمحدود یعجز عن رؤیة اللامحدود. فالتعبیر بالرادع لا یعنی إنّ اللّه تعالی خلق فی الأبصار مانعاً عن إدراکه، بل کنایة عن ذاته أعظم واسمی من أن تری بالعین الظاهرة أو الباطنة. فقد قال القرآن الکریم بهذا الشأن: «لا تُدْرِکُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ یُدْرِکُ الأَبْصارَ» (1)ولما سأل بنو إسرائیل موسی علیه السلام رؤیة اللّه، جاء الخطاب: «انْظُرْ إِلی الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَکانَهُ فَسَوْفَ تَرانِی فَلَمّا تَجَلّی رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَکّاً وَخَرَّ مُوسی صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَک َ تُبْتُ إِلَیْک َ وَأَنَا أَ وَّلُ الْمُؤْمِنِینَ» (2)، ثم قال علیه السلام فی الصفة الرابعة والخامسة المکملة للصفات السابقة: «ما اختلف علیه الدهر فیختلف منه الحال، ولا کان فی مکان فیجوز علیه الانتقال» فالواقع هو أنّ هاتین الصفتین إنّما تشیران إلی نفی الزمان والمکان وعوارضهما عن الذات الإلهیة المقدسة؛ الذات المطلقة التی تأبی الحرکة، ومن هنا لم تخضع لسیطرة الزمان، ولذلک أیضاً لم یکن للحالات المختلفة والحرکة نحو الکمال أو النقصان من سبیل إلی هذه الذات. فاللّه لیس بجسم لیحتاج إلی مکان. لیس بمحدود لیضمه موضع معین، ومن هنا انعدم تصور المکان علیه سبحانه. ثم عاد الإمام علیه السلام ثانیة إلی وصف جوده وعطائه سبحانه لیحدث عن سعة نعمه استثاره لحس الشکر والحمد لدی العباد والأمل بهذه الذات إلی جانب الإرشاد للمعرفة بصفات الجلال والجمال فقال علیه السلام: «ولو وهب ماتنفست عنه معادن الجبال، وضحکت عنه أصداف البحار، من فلز اللجین (3)والعقیان (4)ونثارة (5)الدر، وحصید المرجان، ما أثر ذلک فی جوده، ولا انفد سعة ما عنده، ولکان عنده من ذخائر الانعام، مالا تنفده مطالب الأنام، لأنّه الجواد الذی لا یغیضه (6)سؤال السائلین، ولا یبخله الحاح الملحین» .

ص:13


1- 1) سورة الانعام/103. [1]
2- 2) اقتباس من سورة البقرة/255؛ [2]سورة الاعراف/142. [3]
3- 3) «لجین» علی وزن حسین بمعنی الفضة.
4- 4) «عقیان» الذهب الخالص.
5- 5) «نثارة» من مادة «نثر» علی وزن نصر التناثر والتشتت، حیث تتشقق أغلفة الأصداف فتتناثر منها حبیبات الدر هنا وهناک.
6- 6) «یغیض» من مادة «غیض» علی وزن فیض النقصان وذهاب الماء فی الأرض ووردت فی العبارة بمعنی عدم نقصان منابع الفیض الإلهی بالعطاء.

حقاً لیس هناک من تعبیر أروع وأبلغ من هذا التعبیر لوصف جوده وکرمه سبحانه وسعة رحمته وشمول آلائه. فلو صبت الدنیا بما فیها من کنوز ومعادن مستترة فی بطون الأرض وأودیتها وجبالها علی شخص، لما کان لها تأثیر قطرة فی بحر بالنسبة لعظم خزائنه وسعة بحر جوده وکرمه. کیف لا وقوله «کن» الذی یتبدل إلی «فیکون» یخلق ما لا نهایة من هذه الخزائن فی عالم الوجود ومن هنا أیضاً فانّ الحاح الملحین وکثرة طلبات السائلین لاتدعوه ال القبض والبخل أو الغضب والغیظ، فانما یغضب من کانت مصادر جوده محدودة ینقصها السؤال والعطاء فتشرف علی الانتهاء وعلیه فاذا کانت لدینا من حاجة لابدّ من طرحها علی الکریم فهو الکریم والجواد الرحیم فی عطائه وکرمه، والتعبیر بالتنفس عن معادن الجبال إشارة لطیفة إلی طرحهاالمعادن من جوفها بفعل تصدعها والزلازل و التعریة التی تصیبها مع مرور الزمان و أما تعبیر «ضحک» فهی إشارة إلی الشقوق التی تحدث فی فوهات الصدف لیستخرج منها اللؤلؤ. وهی علی غرار الأسنان الناصعة التی تبدو کحیات اللؤلؤ حین یضحک الإنسان ذا الجمال. فاذا ما ضحکت هذه الاصداف بانشقاقها ظهرت حبات لؤلؤها وقذفتها خارجاً.

تأمّل: شمول النعم الإلهیة

اشتمل هذا القسم من الخطبة علی عدّة اُمور مهمّة بشأن سعة نعمه سبحانه وافاضتها علی العبید من معادن الفیض الازلی الجیاش؛ لیثیر الإمام علیه السلام بذلک أحاسیس السامعین ویوقظ ضمائرهم، فیستشعروا ضرورة الشکر بحکم بداهة العقل، وهذا ما یقودهم بالتالی إلی الانفتاح علی معرفة اللّه سبحانه والالمام بصفاته. فقد أشار فی موضع آخر إلی سؤاله عن کل ماترید ودون سؤال غیره وذلک أنّ کثرة الجود والعطاء لیس لها أن تنقص خزائن کرمه ولو مثقال ذرة، بل أنّها لتربو علی الجود والعطاء. وصرح فی موضع آخر بأنّه علی درجة من الجود والکرم بحیث لایحتاج إلی السؤال کما هی طبیعة الممکنات، فحیثما کان الاستحقاق والاستعداد کان الفیض والعطاء. ولعلنا نلمس هذا المعنی فی بعض الأدعیة الرجبیة: «یا من

ص:14

یعطی من سأله، یا من یعطی من لم یسأله ومن لم یعرفه تحننا منه ورحمة» (1)، وقد عبر الإمام علیه السلام عن ذلک بقوله: «ولیس بما سئل بأجود منه بما لم یسأل» ، وأخیراً ما أروع عبارته علیه السلام التی تعرضت لسعة جوده وکرمه وعدم تأثرها من قریب أو بعید بکثرة السؤال: «ولو وهب ما تنفست عنه معادن الجبال وضحکت عنه أصداف البحار، من فلز اللجین والعقیان ونثارة الدر وحصید المرجان، ما أثر ذلک فی جوده، و لا أنفذ سعة ما عنده ما لا تنفذه مطالب الأنام» . والحال لیس الإنسان کذلک مهما کان جوده وکرمه وعطائه، فمثل هذه الاُمور تؤثر مباشرة علیه، ولیس ذلک إلّالأنّ کافة إمکاناته ومصادره محدودة، ینقصها العطاء. بینما تتصف نعمه سبحانه بالدوام وعدم التناهی والانقطاع فهی کذاته سبحانه مطلقة لاتعرف من معنی للحدود والقیود.

ص:15


1- 1) مفاتیح الجنان، [1] أعمال شهر رجب.

ص:16

القسم الثانی: معرفة اللّه عن اللّه

اشارة

«فانْظُرْ أَیُّها السّائِلُ فَما دَلَّکَ الْقُرْآنُ عَلَیْهِ مِنْ صِفَتِهِ فائْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِیْ بِنُورِ هِدایَتِهِ وَما کَلَّفَکَ الشَّیْطانُ عِلْمَهُ مِمّا لَیْسَ فِی الْکِتابِ عَلَیْکَ فَرْضُهُ وَلا فِی سُنَّةِ النَّبِیِّ صلی الله علیه و آله وَأَئِمَّةِ الْهُدَی أَثَرُهُ فَکِلْ عِلْمَهُ إِلَی اللّهِ سُبْحانَهُ فَإِنَّ ذَلِکَ مُنْتَهَی حَقِّ اللّهِ عَلَیْکَ وَاعْلَمْ أَنَّ الرّاسِخِینَ فِی الْعِلْمِ هُمُ الَّذِینَ أَغْناهُمْ عَنِ اقْتِحامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُیُوبِ الْإِقْرارُ بِجُمْلَةِ ما جَهِلُوا تَفْسِیرَهُ مِنَ الْغَیْبِ الْمَحْجُوبِ فَمَدَحَ اللّهُ تَعالَی اعْتِرافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَناوُلِ ما لَمْ یُحِیطُوا بِهِ عِلْماً وَسَمَّی تَرْکَهُمُ التَّعَمُّقَ فِیما لَمْ یُکَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ کُنْهِهِ رُسُوخاً فاقْتَصِرْ عَلَی ذَلِکَ وَلا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللّهِ سُبْحانَهُ عَلَی قَدْرِ عَقْلِکَ فَتَکُونَ مِنَ الْهالِکِینَ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا الکلام إلی قاعدة کلیة مهمّة وخالدة فی فهم صفات الحق سبحانه وتعالی، بحیث لو انطلق الجمیع فی حرکتهم الفکریة من خلالها لما بقی هناک من اختلاف بما یرتبط بصفاته سبحانه، فقال علیه السلام: «فانظر أیّها السائل فما ذلک القرآن علیه من صفته فأنتم به، واستضئ بنور هدایته، وما کلفک الشیطان علمه ممّا لیس فی الکتاب علیک فرضه، ولا فی سنة النبی صلی الله علیه و آله وائمة الهدی أثره؛ فکل عمله إلی اللّه سبحانه، فان ذلک منتهی حق اللّه علیک» . فالواقع أنّ الإمام علیه السلام قد حدد وظیفة الجمیع فی ضرورة معرفة صفات اللّه بالاستناد إلی القرآن وسنة النبی صلی الله علیه و آله وهدی أئمة العصمة علیهم السلام، والابتعاد تماماً عن الاستبداد

ص:17

والتمسک بالرأی والتعویل علی الأفکار الإنسانیة المحدودة بهذا الخصوص، فکل هذه الاُمور من وساوس الشیطان ومکائده. لأنّ صفات اللّه مطلقة کذاته لیست محدودة من جانب، ومن جانب آخر فانّ معارف الإنسان وعلومه إنّما تقتصر علی المخلوقات، فاذا اتجهوا صوب صفات اللّه خشی علیهم السقوط فی مستنقع التشبیه علی غرار صفات مخلوقاته، ومن هنا فانّ أغلب من ولی ظهره لهذا الأصل الأساسی المتمثل بالرجوع إلی القرآن والوحی وکلمات المعصومین علیهم السلام بُلی بالانحراف وإجراء صفات المخلوق علی الخالق، من جهة اُخری فهذا القرآن یهتف بأندیتنا صباح مساء: «لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیءٌ» (1)و «وَلا یُحِیطُونَ بِهِ عِلْماً» (2)فأنی للإنسان بهذا الفکر القاصر أن یطمع فی معرفة ذات اللّه وصفاته ولا یکتفی بمعرفته الإجمالیة علی ضوء نور الوحی وهدی العصمة الذی ینأی به بعیدا عن الزلل. فلا یمکن معرفة اللّه إلّا به، وهو کما عرف نفسه وصفاته. وهنا یبرز هذا السؤال: هل صفات اللّه توقیفیة؟

یعنی لا یجوز وصفه إلّامن خلال ما ورد فی الکتاب والسنة؟

ونقول فی الإجابة علی هذا السؤال نعم هذا ما علیه أغلب المحققین والعلماء الأعلام، إلی جانب ضرورة مراعاة الحیطة والحذر فی مبحث صفات اللّه والانفتاح علیها انطلاقاً من الوحی وکلمات المعصومین علیه السلام. بعبارة اُخری فانّ السبیل إلی معرفة اللّه وصفاته إنّما یمر عبر خط مستقیم یقع علی جانبیه مطبین عظیمین؛ مطب التشبیه ومطب التعطیل.

وتوضیح ذلک: إنّ مبحث معرفة ذات اللّه وصفاته کسائر المباحث التی اکتنفها الإفراط والتفریط. فقد شبه البعض صفات اللّه بصفات مخلوقاته، حتی اعتبروا صفاته سبحانه زائدة علی ذاته علی غرار صفاتنا الزائدة علی ذاتنا من قبیل العلم والقدرة وسائر الصفات، فقد کنا لانعلم یوماً ثم أصبح لنا علم، ولم نکن أقویاء ثم أصبحنا کذلک، وهکذا اعتقدوا اشتماله سبحانه علی هذه الصفات المشوبة بأنواع النقص، ثم اندفعوا أکثر من ذلک لیصوروا له سائر ما لخلقه من جسم وزمان ومکان وجهة، بل وید ورجل وشعر مجعد وأمثال ذلک.

بینما خالف البعض الآخر هذا الاتجاه تماماً حتی قال بتعطیل معرفة صفات اللّه، فزعم أننا

ص:18


1- 1) سورة الشوری/11. [1]
2- 2) سورة طه/110. [2]

لانعرف شیئاً عن صفات اللّه ولا یسعنا ادراکها، وکل ذلک حذراً من التورط فی مستنقع التشبیه الذی هوی فیه الفریق الأول.

والحق أنّ الفریقین الأول والثانی علی خطأ، فهما لم یستضیئا بنورالوحی وهدی أئمة العصمة علیهم السلام، ومن هنا غرقا فی هالة من الظلام الدامس والجهل المطلق. ولو التزما وصیة أمیرالمؤمنین علی علیه السلام لما قالا بالتعطیل ولا التشبیه، ولا قتنعا بالمعرفة الإجمالیة - التی وردت فی العبارات القادمة من هذه الخطبة - ولرکنا إلی القرآن وکلمات المعصومین علیهم السلام لیصونا أنفسهما من الزلل والانحراف ولاکتفیا بما وردت عنهم علیهم السلام من کلمات فی صفاته سبحانه، دون أن یحکموا عقولهم القاصرة بهذا المجال فلیس للعقل من فعالیة تذکرفی هذا الخصوص دون الاستناد إلی الوحی ومعادنه الواضحة، فالحق أنّ هذا الوادی خطیر فلا ینبغی أن یقتصوه، وأنّه بحر لجی لا ینبغی لسهم أن یلجوه. فهی ظلمات بعضها فوق بعض ولا یمکن اختراقها الا بمعونة من کشفت له.

جدیر بالذکر أنّ الإمام علیه السلام عبر عما ورد فی القرآن بالفرض وسنة المعصومین علیهم السلام بالأثر، ولعل هذا الاختلاف فی التعبیر بینها یشیر إلی حقیقة وهی لزوم ووجوب التعرف علی ما جاء فی القرآن فی باب صفات اللّه سبحانه. وما وصل عن المعصومین علیهم السلام إنّما هو مبین ذلک الذی جاء فی القرآن.

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی نقطة بالغة الأهمیة وهی هدایة الراسخین فی العلم عن الانحراف فی معرفة الحقائق القرآنیة وذلک لتسلیمهم واقرارهم بما خفی عنهم، فاذعنوا لعجزهم عن الخوض فیما غاب عن علمهم. فمدح اللّه سبحانه هذا الاذعان والاعتراف «واعلم ان الراسخین فی العلم هم الذین اغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغیوب، الاقرار بجملة ما جهلوا تفسیره من الغیب المحجوب فمدح اللّه تعالی اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم یحیطوا به علماً، وسمی ترکهم التعمق فیما لم یکلفهم البحث عن کنهه رسوخاً» ، ثم أوصی علیه السلام بالاکتفاء والقناعة بهذا المقدار دون تحکیم العقل فی الاحاطة بعظمة اللّه؛ الأمر الذی یؤدی إلی الهلاک «فاقتصر علی ذلک، ولا تقدر عظمة اللّه سبحانه علی قدر عقلک فتکون من الهالکین» . فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام قد حذر ذلک السائل الذی سأل عن

ص:19

صفات اللّه فی أنّ صفات اللّه - وعلی غرار کنه ذاته - لیست میسرة لأی من الناس؛ وذلک لأنّها غیر محدودة، بینما محدود هو الإنسان فی وجوده وذاته وعلمه، لیس للمحدود أن یحیط بکنه وحقیقة الذات والصفات اللامحدودة. وبناءاً علی ماسبق فالسبیل الوحید فی مثل هذه الاُمور هو الاکتفاء بالمعرفة الإجمالیة، ونعنی بذلک الوقوف علی هذا الأمر من خلال آثاره سبحانه التی ملأت عالم الوجود، دون إدعاء معرفة کنه الذات، فنقف علی علمه سبحانه وقدرته وسائر صفاته علی نحو الإجمال دون الاحاطة بهذا العلم والقدرة وما إلی ذلک من الصفات، من خلال تأمل النظام العجیب والمذهل الذی یسود عالم الوجود. ولا بأس هنا بالاستعانة بهذا المثال من عالم المخلوقات؛ فاننا نعلم بوجود ذات وصفات أغلب موجودات وکائنات عالم الخلقة، بینما لانعلم کنهها وحقیقتها. کما نعلم بوجود الزمان والمکان الذان یجریان علی حیاتنا، ولکن ماحقیقة الزمان والمکان؟ هذا هو الموضوع الذی عجز عن إدراکه کبارالفلاسفة فقدموا لهما عدّة نظریات. کلنّا نعلم بوجود الجاذبیة و نلمس آثارها إلّاأنّ أحد لا یعرف ماهی حقیقة الجاذبیة؟ فهل هی أمواج خاصة؟ أم ظاهرة مجهولة تؤثر من مسافات بعیدة؟ وأوضح من ذلک أننا ندرک جمیع الأشیاء بعقولنا، لکن ماحقیقة العقل؟ لیس هناک من إجابة واضحة فالواقع هو أننا نکتفی بالمعرفة الإجمالیة فی أغلب ظواهر عالم الممکنات دون العلم التفصیلی بها، وعلیه فلیس من الغرابة أن نتعرف سطحیا علی نحو الإجمال علی ذات وصفات الحق سبحانه واجب الوجود دون أن یکون لنا علم تفصیل بها.

وعلیه فمن الواضح أنّ الاصرار علی إدراک کنه هذه الذات والتعمق فی الصفات امّا أن تزید من حیرتنا وذهولنا، أو أن تقذف بنا فی متاهات الضلال ومستنقع التشبیه و تشبیه الخالق بالمخلوق؛ و هو الهلاک المعنوی الذی حذر منه الإمام علیه السلام بقوله: «فتکون من الهالکین» .

تأمّل: الراسخون فی العلم وتفسیر المتشابهات

هنا یقتدح إلی الأذهان هذا السؤال: صرح الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة قائلاً: «ان الراسخین فی العلم هم الذین اغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغیوب، الاقرار بجملة ما

ص:20

جهلوا تفسیره من الغیب المحجوب فمدح اللّه تعالی اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم یحیطوا به علما» ونعلم أنّ عبارته علیه السلام إشارة إلی الآیة السابعة من سورة آل عمران «وَما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلّا اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِی العِلْمِ یَقُولُونَ آمَنّا بِهِ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» فتأویل الآیة هو أنّ اللّه وحده العالم بتأویل آیات القرآن المتشابهة والراسخون فی العلم یعربون عن عجزهم إزاء ذلک؛ أی أنّ جملة والراسخون إستثنافیة. إلّاأنّ ما ورد فی أغلب روایات الأئمة المعصومین علیهم السلام ولعلها تربو علی الثلاثین روایة أنّهم علیهم السلام قالوا: «نحن الراسخون فی العلم» معطوفة علی اللّه. والسؤال المطروح: کیف یمکن حل هذا التضارب بین ما ورد فی خطب نهج البلاغة وما جاء فی الروایات؟ وبعبارة اُخری: هل للراسخین فی العلم من معرفة بمتشابهات القرآن واسرار صفات الحق سبحانه وتعالی؟ أم أنّهم استحقوا صفة الرسوخ فی العلم بسبب قناعتهم بذلک العلم الإجمالی وعدم التعمق فی ماوراء ذلک؟

هناک عدّة روایات ذهبت إلی التصریح بالمعنی الأول، ویصعب تجاهل کل هذه الروایات. هذا من جانب، ومن جانب آخر فانّ الخطبة التی نحن بصددها تؤید المعنی الثانی، وهذا ما أصاب أغلب محققی المسائل الإسلامیة والمفکرین بالحیرة والذهول. إلّاأنّ قدراً من الدقة من شأنه أن یجمع بین المعنیین وإزالة ذلک التضارب، ولا یتیسر ذلک من طریق واحد بل من طریقین:

الأول: أنّ الراسخین فی العلم مهما کانت منزلتهم وعلو مقامهم حتی الأئمة المعصومین علیهم السلام فلیس لهم ذاتاً العلم بمتشابه القرآن وأسرار صفات الحق سبحانه؛ وما علمهم إلّامن ذلک التعلیم الإلهی و الوحی والالهام الغیبی. وهذا ما ذکرناه مسبقاً فی بحث علم الغیب والشفاعة بشأن الآیات القرآنیة النافیة لعلم الغیب عن أولئک الکرام علیهم السلام والآیات المثبتة لهم علم الغیب فی أنّهم لا یتمتعون ذاتیاً بهذا العلم، وان کان لدیهم من علم فبتعلیم اللّه، کما أنّهم لا یمتلکون الشفاعة ذاتاً، ولا یشفعون إلّاباذنه وإلّا لمن ارتضی له اللّه.

الثانی: أنّ المتشابهات و أسرار المعارف الدینیة المعقدة علی نوعین: نوع یعلمه الراسخون فی العلم (کتفسیر أغلب متشابه القرآن) . أمّا النوع الثانی المرتبط بتفسیر الآیات القرآنیة ذات الصلة بذات اللّه وصفاته. فالعلم التفصیلی به لیس میسرا لأی إنسان، وکل ما یسع الإنسان

ص:21

إدراکه فعلی أساس المعرفة السطحیة والعلم الإجمالی الذی ورد بیانه سابقاً. بعبارة اُخری: فانّ المتشابهات علی قسمین؛ قسم یعلمه المعصومین علیهم السلام والراسخون فی العلم، وآخر یتعلق بذات البارئ وصفاته لا یعلمه أحد من الناس، والروایات المذکورة ناظرة إلی القسم الأول، بینما التی نشرحها واردة فی القسم الثانی.

والنتیجة فانّ الواو فی الآیة الشریفة عاطفة، ومفاد الآیة هی علم اللّه والراسخین فی العلم بتفسیر المتشابهات، أمّا العبارة الواردة فی الآیة: «یَقُولُونَ آمَنّا بِهِ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» فهی عبارة منفصلة تعالج بعض المسائل من قبیل کنه الذات والصفات أو زمان القیامة وأمثال ذلک (1).

ومن هنا یتضح ما تعارف بین العلماء الأعلام من أنّ صفات اللّه توقیفیة؛ أی لا ینعت سبحانه إلّابتلک النعوت والأسماء التی وردت فی الکتاب والسنة. وإلّا لو فسح المجال أمام الأفکار البشریة لتأخذ سبیلها إلی أسماء اللّه وصفاته، لنعتته بما لایلیق بشأنه بفعل قصر هذه الأفکار واقتصار تعاملها مع الممکنات المعروفة بالحدود. ومن هنا وردت التحذیرات التی تمیط اللثام عن مدی المخاطر التی تعترض هذا السبیل لو سلک دون الاستضاءة بنور الکتاب وهدی السنة المطهرة. لذلک ردّ الإمام علیه السلام علی السائل عن صفات الحق سبحانه وتعالی بالقول «فما دلّک القرآن علیه من صفته فائتم به، واستضئ بنور هدایته، . . . إلی أن یقول علیه السلام فاقتصر علی ذلک، ولا تقدر عظمة اللّه سبحانه علی قدر عقلک فتکون من الهالکین» .

ص:22


1- 1) قال ابن أبی الحدید فی شرح هذه الخطبة یمکن أن تکون جملة یقولون نصباً علی أنّه حال من الراسخین، ویمکن أن یکون کلاماً مستأنفاً، أی هؤلاء العالمون بالتأویل، یقولون: آمنا به (6/404) .

القسم الثالث: العالی علی الخیال والقیاس والظن والوهم

«هُوَ الْقادِرُ الَّذِی إِذا ارْتَمَتِ الْأَوْهامُ لِتُدْرِکَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ وَحاوَلَ الْفِکْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَراتِ الْوَساوِسِ أَنْ یَقَعَ عَلَیْهِ فِی عَمِیقاتِ غُیُوبِ مَلَکُوتِهِ وَتَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَیْهِ لِتَجْرِیَ فِی کَیْفِیَّةِ صِفاتِهِ وَغَمَضَتْ مَداخِلُ الْعُقُولِ فِی حَیْثُ لا تَبْلُغُهُ الصِّفاتُ لِتَناوُلِ عِلْمِ ذاتِهِ رَدَعَها وَهِیَ تَجُوبُ مَهاوِیَ سُدَفِ الْغُیُوبِ مُتَخَلِّصَةً إِلَیْهِ سُبْحانَهُ فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لا یُنالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسافِ کُنْهُ مَعْرِفَتِهِ وَلا تَخْطُرُ بِبالِ أُولِی الرَّوِیّاتِ خاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِیرِ جَلالِ عِزَّتِه» .

الشرح والتفسیر

واصل الإمام علیه السلام کلامه بالتطرق إلی ما أورده سابقاً بشأن عجز العقول البشریة عن إدراک صفات اللّه سبحانه بعبارات عمیقة ورصینة. کاشفاً النقاب عن حقیقة من خلال قضیة شرطیة - بأربع جمل شرطیة معطوفة علی بعضها وجزائین للشرط - وهی أنّ الإنسان مهما کان عمیقاً فی تفکیره جاداً عن طریق العقل والشهود لبلوغ کنه صفات اللّه سبحانه، فانّ ذلک لن یتکلل بالنجاح ولا ینبغی أن یکتب له النجاح؛ وذلک لأنّه ذات فوق: «ما لا یتناهی بما لا یتناهی» ، فعقول الناس قاصرة من جمیع الجهات فقد قال علیه السلام : «هو القادر الذی إذا ارتمت (1)

ص:23


1- 1) «ارتمت» من مادة «رمی» علی وزن نهی تعنی اطلاق السهم، ولما کان السهم یتحرک بسرعة فان جملة «ارتمت» تعنی سرعة حرکة الأفکار.

الأوهام، لتدرک منقطع (1)قدرته. وحاول الفکر المبرأ من خطرات الوساوس أن یقع علیه فی عمیقات غیوب ملکوته، وتولهت (2)القلوب إلیه، لتجری فی کیفیة صفاته، وغمضت مداخل العقول فی حیث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته، ردعها وهی تجوب (3)مهاوی (4) سدف (5)الغیوب، متخلصة إلیه سبحانه» .

فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام أشار إلی أربعة عوامل للبحث فی إطار السعی لمعرفة کنه الصفات؛ الأول: الأفکار العادیة الملوثة، والثانی الأفکار المنزهة عن الوساوس، والثالث: القلوب المفعمة بحب اللّه والتی تحث الخطی باتجاه الشهود، والرابع: والأخیر العقول الحادة والدقیقة التی تعتمد الطرق الاستدلالیة والنظریة فی تعاملها مع المسائل، لیصفها الإمام علیه السلام فی خاتمة المطاف بالعجز عن إدراک کنه ذاته وصفاته، وأنّ لتلک الذات والصفات أنوار خاطفة تسلب العقول لبها وتردع أصحاب هذا السبیل من الخوص والتقدم. فهو کما قال الشاعر: فیک یا أعجوبة الکون غدا الفکر کلیلاً

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بأنّ عاقبة حرکة هذه العقول والقلوب والأوهام هو العجز، فلا تری أمامها سوی الاعتراف بسذاجة السعی وتفاهة الحرکة التی لیس من شأنها الانفتاح علی ذاته وصفاته، فعقول البشر قاصرة عاجزة لیس لها إدراک ذلک بل لاتخطر عظمته وعزته علی أفکار العلماء: «فرجعت إذ جبهت (6)معترفة بأنّه لاینال بجور الاعتساف (7)کنه معرفته، ولا

ص:24


1- 1) «منقطع» الشی ما إلیع ینتهی حیث یحصل القطع عادة آخر الشی.
2- 2) «تولهت» من مادة «وله» بمعنی العشق و شدة حب الشی حتی تجعل الإنسان حیراناً وتصیبه بالذهول.
3- 3) «تجوب» من مادة «جوب» علی وزن ذوب بمعنی القطع والثقب. فقد ورد فی الایة التاسعه من سورة الفجر [1]بشأن قوم الثمود «و ثمود الذین جابوا الصخر بالواد» فی اشارة الی دورهم التی کانوا یبنوها فی الجبال من جراء قطع الحجر والصخر.
4- 4) «مهاوی» جمع «مهواة» و «مهوی» تعنی فی الأصل الوادی بین جبلین، أو الحفرة بین جدارین، و لما کان مثل هدا المکان مطبا، فقد وردت هذه الکلمه بمعنی الهلاک.
5- 5) «سدف» جمع «سدفة» بمعنی الظلمة.
6- 6) «جبهت» من مادة «جبهة» بمعنی الجبین با البناء للمجهول ضربت جبهتها والمراد عادت خائبه.
7- 7) «اعتساف» السلوک علی غیر جادة، کما وردت بمعنی مطلق الانحراف والعدول عن الشی.

تخطی ببال أولی الرویات (1)خاطرة من تقدیر جلال عزته» . فالعبارة «إرتمت الأوهام» إشارة إلی سرعة حرکة الأفکار العادیة للناس من أجل کشف عمق وسعة صفات اللّه. والعبارة: «حاول الفکر المبرأ. . .» إشارة إلی أفکار العلماء والمفکرین الذین طهروا أرواحهم من وساوس الشیطان فاصبحت أفئدتهم علی درجة من الصفاء بحیث عادت کالمرآة تعکس الحقائق. والعبارة: «تولهت القلوب إلیه. . .» اشتد عشقها حتی أصابها الوله وهو الحیرة، فهی دائبة السعی وحث الخطی لمعرفة اللّه والانفتاح علی ذاته وصفاته والعبارة: «وغمضت مدخل العقول. . .» إشارة إلی العقول المقتدرة التی انطوت علی أدق السبل النظریه الاستدلالیة. فالإمام علیه السلام أشار إلی أنّ الإنسان وإن حکم هذه الطرق الأربع فانّها قد تمکنه من إدراک بعض الحقائق. إلّاأنّ أی من هذه الطرق لا یمکنها إدراک کنه الذات وحقیقة الصفات. والحق أنّ هذا أروع بیان وأبلغه یصور عجز البشر عن إدراک کنه ذاته وصفاته سبحانه. طبعاً هذا لیس معلولاً لخفاء ذاته وصفاته سبحانه، بل اشتد ظهوره حتی حارت الأبصار عن الوقوف علی کنهه؛ الأمر الذی نلمسه فی تعذر رؤیتنا لقرص الشمس وهل ذاک لظلامها أم لشدة نورها وضوئها. فاذا کان هذا وضع الشمس التی تعد کوکباً ضائعاً ضمن ملایین الکواکب والمجرات، فما ظنک بذات الحق؟ وبعبارة اُخری: فالإنسان کلما إقترب اکثر غرق فی بحر وهالة من النور والعظمة، لکی لا یجد من سبیل أمامه سوی الاعتراف بالعجز.

وبالطبع فهذا لا یعنی أننا نعتقد بتعطیل صفاته وذاته ونزعم أننا لا نستطیع مطلقاً التعرف علی اللّه، بل ملأت آثار علمه وقدرته وذاته وصفاته عالم الوجود، بحیث نراه فی کل مکان ونستمع لتسبیحه وتنزیهه فی کل موضع؛ وإن کان علمنا علی نحو الإجمال لا التفصیل.

ص:25


1- 1) «رویات» جمع «رویة» وهی الفکر.

ص:26

القسم الرابع: الحدیث عن تدبیره

«الَّذِی ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَی غَیْرِ مِثالٍ امْتَثَلَهُ وَلا مِقْدارٍ احْتَذَی عَلَیْهِ مِنْ خالِقٍ مَعْبُودٍ کانَ قَبْلَهُ وَأَرانا مِنْ مَلَکُوتِ قُدْرَتِهِ وَعَجائِبِ ما نَطَقَتْ بِهِ آثارُ حِکْمَتِهِ وَاعْتِرافِ الْحاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَی أَنْ یُقِیمَها بِمِساکِ قُوَّتِهِ ما دَلَّنا بِاضْطِرارِ قِیامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَی مَعْرِفَتِهِ فَظَهَرَتِ الْبَدائِعُ الَّتی أَحْدَثَتْها آثارُ صَنْعَتِهِ وَأَعْلامُ حِکْمَتِهِ فَصارَ کُلُّ ما خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَدَلِیلاً عَلَیْهِ وَإِنْ کانَ خَلْقاً صامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِیرِ ناطِقَةٌ وَدَلالَتُهُ عَلَی الْمُبْدِعِ قائِمَةٌ» .

الشرح والتفسیر

جری حدیث الإمام علیه السلام سابقاً عن التحذیر فی التعمق فی کنه الذات والصفات، وذلک لتعذر إدراکها علی العقل البشری مهما کانت إمکاناته. فواصل هنا الکلام وبغیة عدم تصور غلق باب معرفة اللّه فتطرق علیه السلام علی نحو الإجمال إلی طرق معرفة ذاته وصفاته لیکشف عن حقیقة فحواها سمو هذه الذات وغناها المطلق عن الحدود. فهو الذی أفاض الوجود علی المعدومات دون الاحتذاء بمثال سابق، أو الاستمداد من خالق آخر «الذی ابتدع الخلق علی غیر مثال امتثله ولا مقدار احتذی علیه، من خالق معبود کان قبله» . فالعبارات إشارة إلی أزلیه ذاته المقدسة سبحانه من جانب، ومن جانب آخر أنّ مخلوقاته قد وجدت دون تجربة وسابقة؛ فهو خلق جدید وتام بکل معنی الکلمة.

وتعتبر مسألة «الابداع» (الخلق دون تجربة) من المسائل المهمّة. حیث تتضح هذه الأهمیة من خلال العلم بانّ کافة الابداعات والاختراعات البشریة إنّما تستند لما قبلها من الأمثلة فی

ص:27

عالم الخلیقة. فهی تقتدی أحیاناً فی عملها بظاهرة من ظواهر مختلفة فی ما تقوم به من إبداع، و أحیانا أخری بظواهر ترکیبیة و تلفیقیة مختلفة بالضبط کالرسام الماهر الذی یعکس بریشته بعض الصور الرائعة والجمیلة بالاستناد إلی من سبقه فی الرسم والتصویر. فبالطبع لولا وجود هذه الصور والأشیاء لما وسع ذلک الرسام هذا الابداع والجمال. أمّا الحق سبحانه فلیس کذلک فعمله الابداع دون الاقتداء بالمثال ولیس ذلک لأحد سواه. وقد مرّ علینا شبیه هذا المعنی البدیع فی الخطبة الاولی من نهج البلاغة بعبارته علیه السلام «أنشأ الخلق إنشاءاً، وابتدأه إبتداءاً. . .» . ثم قال علیه السلام موضحاً ما أورده أن أرانا من عجائب قدرته والآثار الحالیة عن تناهی حکمته وحاجة کافة الأشیاء إلیه بما یدعونا تلقائیا إلی معرفته: «وأرانا من ملکوت قدرته، وعجائب مانطقت به آثار حکمته، واعتراف الحاجة من الخلق إلی أن یقیمها بمساک قوته، ما دلنا باضطرار قیام الحجة له علی معرفته» بعبارة اُخری فانّ اللّه سبحانه قد أبان آثار قدرته فی عالم الوجود وهی تجری وفقاً لنظام دقیق وقوانین معقدة تفید أنّ الابقاء علیها یتطلب علمه وتدبیره الحکیم. فذرات الکون برمتها محتاجه إلیه فی خلقها وکذلک فی ادامة حیاتها واستمرارها، وهی تحکی بکافة تفاصیلها عن تناهی قدرته وحکمته. بما یجعل الإنسان یقر بضعفه وعجزه والاستضاءة بنور معرفته. ثم واصل الإمام علیه السلام قائلاً: «فظهرت البدائع التی أحدثتها آثار صنعته وأعلام حکمته، فصار کل ما خلق حجة له، ودلیلاً علیه؛ إن کان خلقاً صامتاً، فحجته بالتدبیر ناطقة، ودلالته علی المبدع قائمة» (1)نعم فقد غصت أرجاء العالم بعلمه وقدرته وشع نور التوحید من جبین کافة مخلوقاته وکائناته سبحانه. کما عطر فضاء العالم بحمده وتسبیحه «سَنُرِیهِمْ آیاتِنا فِی الآفاقِ وَفِی أَنْفُسِهِمْ حَتّی یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَ نَّهُ الحَقُّ» (2).

وهو المعنی الذی عبر عنه أبوالعتا هیة حین أنشد قائلاً: (3)فیا عجبا کیف یعصی الاله

ص:28


1- 1) الضمیر فی حجته ودلالته یعود إلی الخلق لا الخالق.
2- 2) سورة فصلت/53. [1]
3- 3) الکنی والالقاب 1/121. [2]

نعم فاینما ولیت وجهک طالعتک آیات اللّه، وإذا أعرت أذنک أی کائن طرقت سمعک ألسنة حال التسبیح والتقدیس. فما أکثر الأدلة والبراهین التی تجعلک تدرک تلک الذات المقدسة، أنّهاتمتد لتشمل عدد أوراق الأشجار وقطرات المطر والذرات وخلایا البدن ونجوم السموات والمجرات، وبالتالی جمیع ذرات وجود هذا العالم.

والعبارة «ما دلنا باضطرار قیام الحجة» لا تعنی أننا نذعن علی نحو الإجبار بوجوده المقدس، بل تعنی أنّ الدلائل علی وجوده علی درجة من الظهور بحیث لم یبق معها مجال لانکار. کمثل من أحضر إلی المحکمة وقد نصبت للشهادة علیه الأفلام والأشرطة والشهود والقرائن المختلفة، بحیث لا یسعه التنکر لاعماله وأفعاله. فیعبر هنا بانه مضطر للاقرار، فهذا لا یعنی أنّه ارغم علی الاقرار من خلال ممارسة الضغوط والتعذیب، حیث أنّ المسألة علی قدر من الوضوح، بحیث لا یسعه الانکار.

والعبارة: «فحجته بالتدبیر ناطقة، ودلالته علی المبدع قائمة» إشارة إلی أنّ تدبیر عالم الوجود دلیل علی علمه المطلق وقدرته، کما أن تنوع موجودات العالم المفعمة بالابداعات المذهلة هو الآخر دلیل علی قدرته المطلقة وعلمه.

ص:29

ص:30

القسم الخامس: انت المنزه عن الشبیه والثمیل

اشارة

«فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَکَ بِتَبَایُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِکَ وَتَلاحُمِ حِقاقِ مَفاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِیرِ حِکْمَتِکَ لَمْ یَعْقِدْ غَیْبَ ضَمِیرِهِ عَلَی مَعْرِفَتِکَ وَلَمْ یُباشِرْ قَلْبَهُ الْیَقِینُ بِأَنَّهُ لا نِدَّ لَکَ وَکَأَنَّهُ لَمْ یَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التّابِعِینَ مِنَ الْمَتْبُوعِینَ إِذْ یَقُولُونَ تاللّهِ إِنْ کُنّا لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ إِذْ نُسَوِّیکُمْ بِرَبِّ الْعالَمِینَ کَذَبَ الْعادِلُونَ بِکَ إِذْ شَبَّهُوکَ بِأَصْنامِهِمْ وَنَحَلُوکَ حِلْیَةَ الْمَخْلُوقِینَ بِأَوْهامِهِمْ وَجَزَّءُوکَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّماتِ بِخَواطِرِهِمْ وَقَدَّرُوکَ عَلَی الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَی بِقَرائِحِ عُقُولِهِمْ» .

الشرح والتفسیر

عاد الإمام علیه السلام هنا ثانیة إلی بیان صفات اللّه سبحانه وتعالی، محذراً من الاقتراب من وادی التشبیه، فلعل دلائل وجود اللّه فی عالم الخلقة والبحث عن آثار عظمته فی کل موضع من مواضع هذا العالم توسوس للإنسان أن یعتقد ببعض الصفات للّه علی غرار صفات مخلوقاته، حتی أنّه لیسقط فی مطب التجسیم علی اللّه، لیراه جسماً کسائر مخلوقاته.

ومن هنا ابتهل الإمام علیه السلام إلی اللّه قائلاً: «فاشهد أن من شبهک بتباین أعضاء خلقک وتلاحم (1)حقاق (2)مفاصلهم المحتجبة لتدبیر حکمتک، لم یعقد غیب ضمیره علی معرفتک، ولم یباشر قلبه الیقین بأنه لا ند لک، وکأنه لم یسمع تبرؤ التابعین من

ص:31


1- 1) «تلاحم» من مادة «لحم» بمعنی الاتصال، شبیه اتصال عضلات الجسم.
2- 2) «حقاق» جمع «حقه» وهو رأس العظم عند الفصل.

المتبوعین إذ یقولون تاللّه إن کنا لفی ضلال مبین إذ نسویکم برب العالمین» .

فهذه العبارات إشارة واضحة إلی ضلال المجسمة أو المشبهة وشرکهم وکفرهم، حیث جعلوا اللّه جسماً ذا أعضاء وید ورجل وعین واذن فهووا وافی وادی التشبیه لیروه سبحانه مخلوقاً ضعیفاً وعاجزاً فانیاً، حتی عبر عنهم القرآن فی الآیة الشریفة بأنّهم علی ضلال مبین.

والعبارة: «من شبهک بتباین أعضاء خلقک» إشارة إلی من له جسم، وجسمه مرکب من أعضاء مختلفة. والعبارة: «تلاحم حقاق مفاصلهم» إشارة إلی الإرتباط السائد بین الأعضاء وبناء علی هذا فانّ أعضاء البدن منفصلة عن بعضها البعض ومنظمة مع بعضها أیضاً، وهذا من حکمة اللّه فی خلقه المخلوقاته، بحیث لولا اشتماله علی الأعضاء المختلفة لتحددت أعمالها، کما لو کانت منفصلة تماماً لتعذر تعاضدها وتعاونها فی القیام بانشطتها وفعالیاتها. کما أنّ البارئ بحکمته ولطفه قد أخفی هذا الإرتباط بین الأعضاء تحت طبقات اللحم لیصونها من مختلف الحوادث الخارجیة. ولا یمکن تصور هذا الأمر إلّافی عالم الخلیقة، تعالی اللّه عن ذلک علواً کبیراً، فهو منزه عن الأجزاء والأعضاء ولایحتاج إلی الجسم.

فالإمام علیه السلام یشیر إلی أنّ هؤلاء الأفراد الجهال قد إصیبوا بثلاثة انحرافات: الأول: عدم معرفتهم الحقیقیة للّه، الثانی: عدم اعتقادهم بوحدانیته، الثالث: أنّهم لم یسمعوا آیات القرآن ولم ینفتحوا علی تعلیمات هذا الکتاب السماوی، ومن هنا شهدوا علی أنفسهم بأنّهم «فِی ضَلالٍ مُبِینٍ» . أمّا یوم القیامة حین ترفع الحجب وتتضح الحقائق سرعان ما یقفون علی خطأهم، فیتبرأ التابع من المتبوع ویلعن بعضهم بعضا ولا یملکون سوی الندم والخجل یوم لا ینفع الندم؛ الأمر الذی ورد بشکل صریح فی هذه الخطبة.

الجدیر بالذکر أنّ الإمام علیه السلام قد نسب کلامه السابق إلی الناس، ثم انتقل هنا إلی اللّه؛ الأمر الذی ینبه إلی خطورة القضیة التی حذر منها لأنّ التأمل فی الکلام یتوقف علی درجة ومکانة المخاطب فکیف به إذا صدر من المشفق. ثم واصل علیه السلام الحدیث عن طائفة اُخری من المنحرفین - أی المشرکین والوثنیین الذین یعدون جزء من المشبهة - فقال «کذب العادلون (1)بک، إذ

ص:32


1- 1) «عادل» مادة «عدل» علی وزن قشر بمعنی المعادل والشبیه والنظیر والعادلون بک الذین عدلوا بک غیرک، أی سووه بک وشبهوک به.

شبهوک بأصنامهم، ونحلوک (1)حلیة المخلوقین باوهامهم، وجزأوک تجزئة المجسمات، بخواطرهم، وقدروک علی الخلقة المختلفة القوی بقرائح (2)عقولهم» فقد نفی الإمام علیه السلام بهذه العبارات الرصینة القاطعة - والتی بینت بأربع صور - کافة أنواع الشرک والتشبیه للّه سبحانه بمخلوقاته، وتحذر الجمیع من السقوط فی مستنقع الشرک و التشبیه، إلی جانب تعیین الحد الفاصل بین توحید الموحدین وشرک المشرکین. فقی العبارة الاولی نفی التشبیه بالأصنام.

والعبارة الثانیة صرحت ببطلان اضفاء صفات الزینة للمخلوقات علی اللّه (من قبیل وصفه من بعض الجهال بأنّه فتی جمیل أمرد له شعر مجعد) .

والعبارة الثالثة التی تنفی عنه الترکب من الأجزاء والأعضاء من قبیل الید والرجل. والعبارة الرابعة سذاجة الاعتقاد باتصافه بمختلف الحواس (التی لمخلوقاته) من قبیل الباصرة والسامعة والشامة وهکذا تتحطم معاقل الشرک من مختلف الجوانب.

تأمّل: من هم المجسمة؟

تطلق المجسمة (بکسر السین) علی من نسب الجسمیة للّه و هم الذین یقولون بأنّ له ید ورجل واذن وعین، کما یقال لهؤلاء المشبهة بکسر الباء، وذلک أنّهم یشبهون اللّه سبحانه بمخلوقاته المادیة. ویبدو أنّ مثل هذا الاعتقاد کان سائدا بین أفراد البشر منذ قدیم الزمان حیث جعلهم قصر فکرهم یعجزون عن تصور ماوراء هذه الطبیعة المادیة، حتی ألفوا المادیات والجسام فظنوا أنّ اللّه سبحانه مثلهم أو کسائر الأجسام المادیة. ومن هنا نشأ الاعتقاد بسائر المعبودات کالشمس والقمر والکواکب وسائر أجسام المشابهة. ویفید تأریخ الیهود رسوخ عقیدتهم بجسمیة الحق سبحانه وتعالی، ومن ذلک مدی اصرارهم علی نبیهم موسی علیه السلام فی أن یریهم اللّه سبحانه جهرة ولا تخفی علینا قصة جبل الطور والصاعقة التی

ص:33


1- 1) «نحلوا» من مادة «نحل» بمعنی الهبة والعطیة، وحلیة المخلوقین صفاتهم الخاصة بهم من الجسمانیة ومایتبعها.
2- 2) «قرائح» جمع «قریحه» تعنی فی الأصل أول ماء یسحب من البئر، ثم اطلقت علی النتاجات الفکریةوالذوقیة للإنسان.

أخذت طائفة من بنی إسرائیل فبعد أن نجی بنی اسرائیل من البحر أتوا موسی علیه السلام وقد مروا بقوم یعکفون علی أصنام لهم فقالو لنبیهم موسی علیه السلام اجعل لنا إلها کما لأولئک، بل لم یثوبوا إلی رشدهم حتی بعد أن أخذتهم الصاعقة، ثم سارعوا لعبادة العجل الذی أخرجه لهم السامری، حتی ضلت فیه جماعة من بنی اسرائیل. فرجع الیهم موسی علیه السلام غضبان أسفاً وآخذهم بما فعلوا.

تاریخ النصاری أیضاً یشهد بأنّ عقیدة التثلیث (اللّه والابن والروح القدس) کانت شائعة بین النصاری والتی تفید القول بالجسمیة علی اللّه. فهم یصرحون جهرة بأنّ المسیح علیه السلام ابن اللّه وأنّه أحد الآلهة الثلاث. والحال لم یکن المسیح علیه السلام سوی بشراً من سائر الناس.

ولما نزل القرآن الکریم علی صدر الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله أبطل هذه العقائد الفاسدة بما فیها القول بالتجسیم والتشبیه. والشاهد علی ذلک الآیات القرآنیة: «لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیءٌ» (1)و: «لا تُدْرِکُهُ الأَبْصارُ» (2)و «لَنْ تَرانِی» (3)و «وَهُوَ مَعَکُمْ أَیْنَ ما کُنْتُمْ» (4)و «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِیدِ» (5)و «فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ» (6)التی تنفی جسمیة اللّه سبحانه وتعالی. إلّاأنّ المؤسف له هو أنّ بعض الأفکار الانحرافیة الموروثة من الاُمم الوثنیة والیهودیة والنصرانیة والمجوسیة قد وردت الإسلام لتخترق عقائد بعض السذج من المسلمین الذین اصطلح علیهم بالمجسمة أو المشبهة.

ولعل بعض التعبیرات الکنائیة التی وردت فی بعض الآیات القرآنیة من قبیل الآیة الکریمة: «یَدُ اللّهِ فَوْقَ أَیْدِیهِمْ» (7)والآیة: «الرَّحْمنُ عَلی العَرْشِ اسْتَوی» (8)قد أصبحت ذریعة لدی بعض المنحرفین من أصحاب النظرة القاصرة والأفکار الضیقة و المنحرفة لیحثوا الخطی نحو هذه المذاهب المشرکة الفاسدة؛ والحال من المسلم به أنّ الید فی الآیة تعنی القوة

ص:34


1- 1) سورة الشوری/11 [1]
2- 2) سورة الانعام/103. [2]
3- 3) سورة الأعراف/143. [3]
4- 4) سورة الحدید/4. [4]
5- 5) سورة ق/16. [5]
6- 6) سورة البقرة /115. [6]
7- 7) سورة الفتح/10. [7]
8- 8) سورة طه /5. [8]

والقدرة واستوی بمعنی السلطة والسیطرة، لا بمعنی الجلوس والاستقرار علی الشی، وبالطبع فانّ هذه الکنایات کانت سائدة لدی مختلف الأقوام قبل نزول القرآن وبعده، من قبیل قولهم، لیس له ید علی هذا الأمر، وهکذا فإن مفردة الاستواء التی تستعمل بشأن استیلاء سلطان وسیطرته علی بلاد.

وناهیک عما سبق فانّ الأدلة العقلیة والمنطقیة هی الاُخری تنفی بوضوح أیة جسمیة عن اللّه؛ لأنّ کل جسم محدود وله زمان ومکان واجزاء، وعلیه فهو محتاج من مختلف الجهات، ونعلم أن لیس للحاجة والمحدودیة من سبیل إلی ذاته المطلقة سبحانه. والأهم من کل ذلک أنّ کافة الأجسام یعتریها التغییر بل وحتی الزوال، فی حین لیس لهذا التغییر والزوال أن یدنس ساحة کبریائه وعظمته.

ورغم کل ما مرّ من أدلة واضحة، فمما یؤسف له - کما أشرنا إلی ذلک سابقاً - فانّ عقیدة الجسمیة المنحطة قد طالت جمعاً من جهال المسلمین حتی أوغلوا فی الانحراف والضلال، و حسب ما نقله «المحقق الدوانی» فان البعض یعتقد بأنّه جسم مرکب من لحم ودم تنبعث منه أشعة قضیة شفافة وله قامة من سبعة أشبار، کما اعتقد البعض الآخر بانه علی هیئة شاب أمرد له شعر مجعد حسب ما ذکره المحقق الدوانی بشأن هذه الفئات الضالة.

فقد أورد العلّامة الحلی فی کتابه منهاج الکرامة قصة عن بعض المجسمة، لا بأس أن أنقلها. فقد حکی عن بعض المنقطعین التارکین من شیوخ الحشویة أنّه إجتاز علیه فی بعض الأیام نفاط ومعه أمرد حسن الصورة قطط الشعر علی الصفات التی یصفون ربّهم بها. فألح بالنظر إلیه لیلا وکرره، فتوهم منه النفاط أمراً، فجاء إلیه لیلاً وقال له: رأیتک تلح بالنظر إلی هذاالغلام وقد أتیتک به، فان کان لک فیه نیة فأنت الحاکم. فرد علیه وقال: إنّمأکررت النظر لأنّ مذهبی: أن اللّه ینزل علی صورة هذا الغلام، فتوهمت أنّه اللّه. فقال له النفاط: واللّه ما أنا علیه من النفاطة أجود ممّا أنت علیه من الزهد مع هذه المقالة. (1)

ص:35


1- 1) شرح نهج البلاغة للعلّامة التستری 1/333

ص:36

القسم السادس: الممتنع علی احاطة العقول

«وَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ ساواکَ بِشَیْءٍ مِنْ خَلْقِکَ فَقَدْ عَدَلَ بِکَ وَالْعادِلُ بِکَ کافِرٌ بِما تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْکَماتُ آیاتِکَ وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَواهِدُ حُجَجِ بَیِّناتِکَ وَإِنَّکَ أَنْتَ اللّهُ الَّذِی لَمْ تَتَناهَ فِی الْعُقُولِ فَتَکُونَ فِی مَهَبِّ فِکْرِها مُکَیَّفاً وَلا فِی رَوِیّاتِ خَواطِرِها فَتَکُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً» .

الشرح والتفسیر

عاد الإمام علیه السلام هنا مرة اُخری إلی قضیة انحراف المشرکین والقائلین بالتشبیه، لیشهد عند اللّه ثانیة بانحرافهم، وما ذلک الا لسماع المخاطبین وتحذیرهم من الوقوع فی هذا المستنقع النتن. فقد قال علیه السلام: «وأشهد أن من ساواک بشی من خلقک فقد عدل بک، والعادل بک کافر بما تنزلت به محکمات آیاتک، ونطقت عنه شواهد حجج بیناتک» .

یبدو أنّ هناک فارقا بین شهادة الإمام علیه السلام هنا فی انحراف المشرکین، وتلک الشهادة السابقة. حیث وردت فی طائفتین. فالشهادة السابقة إنّما وردت بشأن الوثنیین الذین شبهوا اللّه بالأوثان والأصنام واتخذوها أرباباً من دون اللّه. أی کانوا یسألونها حاجاتهم ومن هنا عبدوها واتخذوها آلهة. أمّا الشهادة التی وردت هنا فهی ناظرة لاُولئک الذین سووا به بعض خلقه فی جمیع الجهات، کالثنویة من الوثنیین الذین یعتقدون بوجود إلهین هما إله الخیر وإله الشر، والنصاری القائلین بالتثلیث (الأب والابن والروح القدس) . فقد اعتبر الإمام علیه السلام هؤلاء کافرین بمحکمات القرآن والحجج البینة: «کافر بما تنزلت به محکمات آیاتک، ونطقت عنه شواهد حجج بیناتک» یمکن ان تکون العبارة «محکمات الآیات» و «الحجج البینات» کلاهما

ص:37

إشارة إلی آیات تنفی صراحة أی نظیر وشبیه للّه، من الآیة الشریفة «قُلْ أَ إِنَّکُمْ لَتَکْفُرُونَ بِالَّذِی خَلَقَ الأَرْضَ فِی یَوْمَیْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً» (1)والآیة: «فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أنْداداً وَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (2).

کما یحتمل ان یکون المراد بالآیات المحکمات آیات توحید صریح القرآن الکریم والحجج البینات الأدلة العقلیة التی تنفی عن اللّه سبحانه أی شبیه ونظیر.

ویؤید هذا الاحتمال العبارات اللاحقة: «وأنک أنت اللّه الذی لم تتناه فی العقول، فتکون فی مهب (3)فکرها مکیفاً، ولا فی رویات خواطرها فتکون محدوداً مصرفاً» .

فقد أشار الإمام علیه السلام فی العبارة الاولی إلی عدم إدراک العقول لکنه ذاته وصفاته سبحانه التی أشیر إلیها فی بدایة الخطبة. کما أشار فی العبارة الثانیة إلی عدم إحاطة الأفکار بهذه الذات المطهرة، وذلک لأنّ هذه الأفکار لو أحاطت به، لکان محدوداً بالضرورة، وما کان محدوداً طرأ علیه التغییر والزمان والمکان والجهات الاُخری.

ص:38


1- 1) سورة فصلت /9. [1]
2- 2) سورة البقرة/22. [2]
3- 3) «مهب» اسم مکان من مادة «هبوب» بمعنی موضع هبوب الریاح، وقد شبهت العبارة المذکور الفکر بالنسیم الذی یهب من موضع؛ إلّاأنّ کنه ذات اللّه وصفاته سبحانه خارجة عن ذلک الموضع.

القسم السابع: کلی شیء یستند إلی ارادة اللّه

ومنها: «قَدَّرَ ما خَلَقَ فَأَحْکَمَ تَقْدِیرَهُ وَدَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِیرَهُ وَوَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ یَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ وَلَمْ یَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهاءِ إِلَی غایَتِهِ وَلَمْ یَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِیِّ عَلَی إِرادَتِهِ فَکَیْفَ وَإِنَّما صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِیئَتِهِ» .

الشرح والتفسیر

ذکرَّ الإمام علیه السلام هنا مرّة اُخری بعالم الخلیقة والتدبیر الإلهی فی تنظیم شؤون الخلق وأنّ هذا التدبیر والنظام إنّما یستند إلی جلال الحق وجماله، الذی خلق کل شی بمقدار واخضعه لتدبیره وهداه إلی سبیله: «قدر ما خلق فأحکم تقدیره، ودبره فألطف تدبیره، ووجه لِوِجهته» وهکذا یکون الإمام علیه السلام قد بین المراحل الثلاث «التقدیر» و «التدبیر» و «التوجیه» . فالتقدیر خلق الکائنات بمقدار، والتدبیر إدارة شؤونها وفق الخطة والمسیرة المرسومة لها، والتوحید تمهید السبیل وإعداد الظروف اللازمة لهذه الحرکة من أجل بلوغ الهدف وتحقیق الغایة، حیث تسیر کل هذه المراحل علی ضوء برنامج معین منظم غایه فی الدقة بالشکل الذی لم یدع مجالا لکائن من کان أن یسیر بطریق عشوائی، لا فی انبثاق خلقه ولا فی دیمومته بحیث یشذ عن ذلک النظام والقانون. ومن هنا أشار الإمام علیه السلام إلی هذا الأمر فی أنّ أحداً من الموجودات لم یتجاوز حدوده، ولم یقصر فی بلوغ الهدف، ولم ینطلق فی حرکته الاعلی أساس ارادة اللّه سبحانه وأنی له التمرد علی هذه الإرادة التی تستند إلیها جمیع الإرادات: «فلم یتعد حدود منزلته، ولم یقصر دون الانتهاء إلی غایته، ولم یستعصب إذ أمر بالمضی علی إرادته، فکیف وإنّما صدرت الاُمور عن مشیئته؟» . فالواقع هذه العبارات تحول دون التصور بأنّه حرکات کافة

ص:39

الکائنات الأرضیة والسماویة بما فیها النباتات والحیوانات والناس والکواکب واجتیازها لمراحل النحو والتکامل یجری بصورة عشوائیة. فهی تسیر بوحی من أمره وإرادته علی ضوء الخطة المعدة لها سلفاً ولایسعها تخطی تلک الخطة بأی حال من الاحوال. وعلیه فعالم الوجود یدار بمنتهی النظام والدقة. و لعلنا نلمس الإشارة إلی المراحل الثلاث المذکورة فی الآیات القرآنیة، ومن ذلک الآیات 38-40 من سورة یس: «وَالشَّمْسُ تَجْرِی لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذ لِکَ تَقْدِیرُ العَزِیزِ العَلِیمِ* وَالقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّی عادَ کَالْعُرْجُونِ القَدِیمِ * لا الشَّمْسُ یَنْبَغِی لَها أَنْ تُدْرِکَ القَمَرَ وَلا اللَّیْلُ سابِقُ النَّهارِ وَکُلٌّ فِی فَلَکٍ یَسْبَحُونَ» .

ناهیک عن سائر الآیات القرآنیة التی أشارت إلی هذه الحقیقة وهنا لابدّ من الالتفات إلی أمرین: الأول هو أنّ ما ورد فی العبارات المذکورة بشأن الأوامر و تبعیة المخلوقات للمشیئة الإلهیة إنما هو إشارة إلی الاوامر التکوینیة، أو بعبارة اُخری: إشارة إلی القوانین التی أجراها اللّه سبحانه فی عالم الوجود وسیره علی أساسها، بالشکل الذی یحول دون تجاوزها لهذه القوانین. والأمر الثانی أنّ هذا الکلام لا یعنی إجبار الإنسان علی أفعاله وذلک لأنّ اللّه سبحانه جعل صفة الاختیار وحریة الإرادة أحد تلک القوانین التی تسیر عالم الوجود، ولیس للإنسان قط أنّ یسلب نفسه هذه الصفة، وبعبارة اُخری فانّ حریة الإنسان أیضاً بأمره سبحانه وتعالی.

ص:40

القسم الثامن: سر الخلق

اشارة

«الْمُنْشِیُ أَصْنافَ الْأَشْیاءِ بِلا رَوِیَّةِ فِکْرٍ آلَ إِلَیْها، وَلا قَرِیحَةِ غَرِیزَةٍ أَضْمَرَ عَلَیْها، وَلا تَجْرِبَةٍ أَفادَها مِنْ حَوادِثِ الدُّهُورِ وَلا شَرِیکٍ أَعانَهُ عَلَی ابْتِداعِ عَجائِبِ الْأُمُورِ، فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ، وَأَذْعَنَ لِطاعَتِهِ، وَأَجابَ إِلَی دَعْوَتِهِ، لَمْ یَعْتَرِضْ دُونَهُ رَیْثُ الْمُبْطِیِ، وَلا أَناةُ الْمُتَلَکِّیِ، فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْیاءِ أَوَدَها، وَنَهَجَ حُدُودَها، وَلاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَیْنَ مُتَضادِّها، وَوَصَلَ أَسْبَابَ قَرائِنِها، وَفَرَّقَها أَجْناساً مُخْتَلِفاتٍ فِی الْحُدُودِ وَالْأَقْدارِ، وَالْغَرائِزِ وَالْهَیْئاتِ، بَدایا خَلائِقَ أَحْکَمَ صُنْعَها وَفَطَرَها عَلَی ما أَرادَ وَابْتَدَعَها!» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة فی کیفیة خلق الموجودات علی أنّ اللّه سبحانه وتعالی خلقها من دون حاجة إلی التفکیر، أو غریزة مستترة فی الباطن، إلی جانب الغنی عن تجارب الماضی وسالف الدهور، وبالتالی دون الحاجة إلی عضید وشریک «المنشی أصناف الأشیاء بلا رویة فکر آل إلیها، ولا قریحة (1)غریزة أضمر علیها، ولا تجربة أفادها من حوادث الدهور، ولا شریک أعانه علی ابتداع عجائب الأمور» .

فالواقع هو أنّ أُسس علمنا ومعرفتنا بالحقائق إنّما تستند إلی أحد أربع: الفکر والتروی، أو الالهام الباطنی الذی یصطلح علیه بالغریزة، أوالتجربة التی یحصل علیها الإنسان من

ص:41


1- 1) قریحة: کما أسلفنا سابقاً فی الأصل، بمعنی أول ماء یخرج من البئر عند ما یحفر، و کذلک یطلق علی مایتفتق من أعمال فکر و ذوق الانسان. و یشمل ذلک الغریرة التی هی بمعنی الطبیعة، و هو الشیء الذی یحصل علیه الانسان بمساعدة ذوقه و طبعه. و یصح هذا المعنی أیضاً علی غیر الانسان، فمثلاً أکثر الطیور تقوم ببناء أعشاشها و تربیة فراخها و الهجرة الطویلة و بشکل جماعی و أمثال ذلک، کل هذا یتم بواسطة القریحة و الغریزة.

خلال تکرار الحوادث، و أخیرا العون الذی یحصل علیه من الاستعانة الخارجیة لأصحاب الفکر الذین یعینونه فی القیام ببعض الأعمال والابداعات. وبالطبع فانّ الحق سبحانه وتعالی لیس بحاجة لأی من هذه الاُسس والمصادر فهو العالم بکل الأشیاء، وهی حاضرة عنده، ولیس هنالک من حقیقة خارجة عن دائرة علمه المطلق. فالفکر إنّما یستفیده من کان له معلومات ومجهولات، یروم توظیف معلوماته لکشف أسرار هذه المجهولات. والالهام الغریزی إنّما یعتمده من غابت عنه الحقائق ولاتتضح له إلّامن خلال هذا الالهام. وأمّا التجربة وتکرار العمل للوقوف علی النتائج فانما ترتبط بمن یجهل نتائج الاُمور وأخیراً فان الاستعانة بافکار الآخرین إنّما یختص بضعف الأفراد وعجزهم إلی جانب قصور فکرهم؛ فما حاجة الذات المطلقة لمثل هذه الاُمور وهی بتلک الخصائص والصفات؟

وبغض النظر عما سبق فانّ العبارات بدورها ترشد الإنسان الجاهل إلی الظفر بمصادر المعرفة، وأنّ هذه المصادر الأربعة تمکننا من حل المشاکل التی تواجهنا فی حیاتنا الیومیة. ثم أشار الإمام علیه السلام إلی نقطة اُخری بهذا الشأن وهی قطعیة حاکمیة قوانین الخلق علی کافة الکائنات: «فتم خلقه بأمره وأذعن لطاعته، وأجاب إلی دعوته، لم یعترض دونه ریث (1)المبطئ، ولا أناة (2)المتلکی» (3).

فهذا الموضوع إشارة أیضاً إلی قدرة اللّه ونظامه الرصین فی عالم الخلق، حیث تسیر کافة هذه الموجودات علی ضوء قوانین معینة وهی مؤتمرة بأمره، فهی لا تتخلف عن هذه القوانین ولا تتقدم علیها. فقد صرح القرآن الکریم بهذا الخصوص قائلاً: «ثُمَّ اسْتَوی إِلی السَّماءِ وَ هِیَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِیا طَوْعاً أَوْ کَرْهاً قالَتا أَتَیْنا طائِعِینَ» (4).

أضف إلی ذلک فهی تشتمل علی رسالة واضحة لکافة الناس فی الانسجام وعالم الخلق وتبعیة هذه القوانین الإلهیة، دون التقدم علیها أو التخلف عنها، بهدف بلوغ الغایة والظفر بالفلاح والسعادة.

ثم اختتم علیه السلام کلامه بالاشارة إلی خمسة اُمور جدیرة بالتأمل بشأن نظام الخلق وأسرار عالم

ص:42


1- 1) «الریث» التثاقل عن الامر والقیام بالعمل.
2- 2) «أناة» بمعنی الوقار المقرون بالفکر حین القیام بالعمل.
3- 3) «متلکئ» من مادة «لکأ» علی وزن هدف الوقوف فی مکان، ثم اطلقت علی من یتوقف فی مسألة ویفکر فیها.
4- 4) سورة فصلت/11. [1]

الخلقة، الأول: استواء هذه الموجودات دون أی اعوجاج او انحراف: «فأقام من الأشیاء أودها» (1)الثانی: أنّه عین لها المسار الذی ینبغی لها أن تسلکه «ونهج حدودها» . الثالث: تألیفه بین الأشیاء المتضادة بقدرته «ولاءم یقدرته بین متضادها» . الرابع: ربطها مع نظائرهأ «ووصل أسباب قرائنها» . والخامس: تقسیمها إلی أنواع مختلفة علی أساس الحدود والأجناس والمقادیر والغرائز والاشکال والهیئات «وفرقها أجناسا مختلفات فی الحدود والأقدار والغرائز والهیئات» وهکذا تمّ نظام الخلق وتکامل من جمیع الجهات لیقوم بوظائفه علی اختلاف أنواعه وأجناسه کوحدة واحدة ضمن قانون واحد. وأبعد من ذلک تعاضدت وتعاونت حتی الأشیاء المتضادة لتفرز نتائج باهرة، کما إتصلت الأشباه والنظائر، لتشکل بالتالی مجموعة بدیعة عجیبة تشیر إلی مدی قدرته المطلقة سبحانه وعلمه التام.

ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بالقرائن فی العبارة هی نفوس البشر التی أقرها اللّه فی الأبدان، حیث یبدو فی الظاهر أنّ هناک تضاد بین البدن الذی ینتمی إلی عالم المادة والنفس التی تنتمی إلی عالم المجردات.

طبعاً وان کان أحد معانی القرینه (وجمعها قرائن) فی اللغة هو النفس الإنسانیة إلّاأننا لا نمتلک الدلیل الذی یجعلنا نصرف المعنی المذکور لیقتصر علی هذه النفس: بل الهدف هو بیان جمع الأضداد ووصل القرائن والأشباه فی جمیع أنحاء عالم الوجود والذی یعد الوجود الإنسانی أحد مصادیقه، وأنّ أصل إطلاق القرینة علی نفس الإنسان إنّما یعزی لاقترانها ببدنه.

ثم إختتم علیه السلام کلامه بالقول علی أساس الخلوص إلی نتیجة واضحة: «بدایا خلائق أحکم صنعها، وفطرها علی ما أراد وابتدعها» (2).

تأمّل: أوضح طریق إلی معرفة اللّه

یعتبر تأکید الإمام علیه السلام علی التفکیر فی عالم الخلق والتأمل فی خلق المخلوقات دون

ص:43


1- 1) «أود» بمعنی الاعوجاج.
2- 2) الجملة من حیث النحوهی أنّ «بدایا» خیر لمبتدأ محذوف تقدیره هذه، واضافة بدایا إلی الخلائق من قبیل اضافة الصفة إلی الموصوف، التی تعنی فی الأصل خلائق بدایا، وبدایا جمع بدیئه المصنوع البدیع.

الاستغراق فی ذات اللّه، من الاُصول الأساسیة فی الأبحاث ذات الصلة بمعرفة اللّه. وذلک لأنّ الأول یقود الإنسان إلی الإیمان والتوحید؛ التوحید المفعم بالعشق والحب والاخلاص، بینما یسوقه الثانی إلی الشرک والتشبیه. أمّا سائر الأدلة والبراهین فی معرفة اللّه من قبیل برهان الوجوب والإمکان والغنی والفقر التی تدور حول محور الدور والتسلسل، فهی دلائل جافة توصل إلی المعرفة إلّاأنّها لا تختزن أی حب أو عشق وإخلاص. والحال لم یقم نظام الخلق سوی علی هذه المفردات. فقد جاء فی الحدیث القدسی: «کنت کنزاً مخفیاً فأجببت أن أعرف، فخلقت الخلق لکی أعرف» . فاذا فکرنا بعظمة السموات والکواکب التی تربو علی الملایین فی مجرتنا فقط والحال یقول العلماء بوجود ملیاردات المجرات فی هذا العالم. وإذا أمعنا النظر فی العالم المذهل لخلایا جسم الإنسان والذی تمتاز کل خلیة فیه بان بنیتها قد تنطوی علیه مدینة صناعیة من الخفایا والأسرار. وعندما نتامل التنوع العجیب للنباتات والحیوانات، وأنّ هناک الملایین من أنواع النباتات والحیوانات التی تعیش فی أعماق الغابات والبحار والتی لم یراها أو یتوصل الیها الإنسان لحد الآن، ونقر بأنّ هذه الموجودات العجیبة إنّما تستمد حیاتها من موجودین بسیطین هما الماء والتراب. وأخیراً حین نتدبر روعة الورود والأزهار ولطافة الأوراق ودقة نظام الدورة الدمویة. وعمل الاوردة والشرایین المخ والدماغ وایعازات الأعصاب، ثم نلتفت إلی أنّ کل هذا لیس إلّاجانباً من عجائب عالم الخلقة، لانملک سوی الالتحاق بقافلة هذا العالم ومشارکتها التسبیح والتقدیس والحرکة نحو اللّه، ونحن نردد ما یردده الملأ الأعلی «سُبْحانَکَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا» (1)و «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً» (2)وقلوبنا مقعمة بحب اللّه والإیمان به والخشوع له والتواضع أمام عظمته وجبروته.

وعبارات الإمام علیه السلام المارة الذکر إشارة عمیقة إلی هذه الحقائق.

ص:44


1- 1) سورة البقرة/32. [1]
2- 2) سورة آل عمران/191. [2]

القسم التاسع: خلق السموات

اشارة

«وَنَظَمَ بِلا تَعْلِیقٍ رَهَواتِ فُرَجِها، وَلاحَمَ صُدُوعَ انْفِراجِها، وَوَشَّجَ بَیْنَها وَبَیْنَ أَزْواجِها، وَذَلَّلَ لِلْهابِطِینَ بِأَمْرِهِ، وَالصّاعِدِینَ بِأَعْمالِ خَلْقِهِ، حُزُونَةَ مِعْراجِها، وَناداها بَعْدَ إِذْ هِیَ دُخانٌ، فالْتَحَمَتْ عُرَی أَشْراجِها وَفَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتاقِ صَوامِتَ أَبْوابِها، وَأَقامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّواقِبِ عَلَی نِقابِها، وَأَمْسَکَها مِنْ أَنْ تُمُورَ، فِی خَرْقِ الْهَواءِ بِأَیْدِهِ وَأَمَرَها أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی المقطع السابق من هذه الخطبة إلی الکلیات فی تدبیر عالم الخلق والقوانین التی تسوده، إلی جانب تنوع الموجودات وکثرتها. ویخوض علیه السلام فی هذا الجزء من الخطبة والجزء القادم فی جزئیات ذلک. فیتعرض بصورة عمیقة بعیدة المعنی لخلق السموات والملائکة والأرض والعالم السفلی وخلق آدم وما إلی ذلک. فقد استهل کلامه بادئ ذی بدء بخلق السموات فقال علیه السلام: «ونظم بلا تعلیق رهوات (1)فرجها، ولاحم (2)صدوع (3)انفراجها»

ص:45


1- 1) «رهوات» جمع «رهوة» ، قال بعض أرباب اللغة (کتاب العین) تعنی المرتفع فوق الجبال، بینما فسرهاأغلب أرباب اللغة علی انها من مادة «رهو» علی وزن سهو بمعنی المکان الخالی والمفتوح. والانسب أن یکون معناها فی الخطبة النقاط المفتوحة. وأخیر اعتبرها البعض من الأضداد؛ أی تعنی المکان المرتفع والمنخضض أیضاً.
2- 2) «لاحم» من مادة «لحم» بمعنی ملأ فراغ الشی، مایصطلح علیه باللحیم، ولعل أصلها اللحم الذی یملأ الفاصلة بین العظام.
3- 3) «صدوع» جمع «صدع» علی وزن حرف بمعنی الشق.

فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام قد أشار بالعبارة الاولی إلی ما ورد فی القرآن الکریم: «اللّهُ الَّذِی رَفَعَ السَّمواتِ بِغَیْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها» (1)ویصرح علماء الفلک بان الکرات السماویة منفصلة عن بعضها وأنّ التوازن القائم بین القوةالجاذبة والطاردة هی التی تبقی علی کل واحدة فی موضعها. بینما أشارت العبارة الثانیة إلی إرتباط أجزاء کل کرة وتماسکها مع بعضها. وعلیه فلیس هنالک من تضاد بین العبارتین «ونظم بلا تعلیق رهوات فرجها، ولاحم صدوع انفراجها» . فالاولی ناظرة للکل والاخری للأجزاء (ووحدة الضمائر هنا لا تسبب أی اشکال، لأنهما تعودان إلی السموات، أحدهما إلی المجموع والآخر إلی الجزاء) (لابدّ من الدقة والتمعن هنا) .

ثم أشار فی العبارة الثالثة إلی الرابطة بین الکرات السماویة القرینة لبعضها، فقال علیه السلام: «ووشج (2)بینها وبین أزواجها» یمکن أن تکون هذه العبارة إشارة إلی منظومات العالم العلوی المتألف من کرات شبیهة لبعضها إلی جانب النظام الذی کل کرة (3)ثم أشار علیه السلام فی العبارة الرابعة إلی طرق هبوط وصعود الملائکة إلی السموات: «وذلل للهابطین بأمره، والصاعدین بأعمال خلقه، حزونة معراجها» (4).

وهنا یتبادر هذا السؤال: هل الملائکة وجودات مادیة ولها صعود وهبوط مادی من وإلی السموات، أم أنّ المراد بهذا الصعود والهبوط هو الصعود والهبوط المعنوی؟ هنالک عدّة أقوال لشرّاح نهج البلاغة بهذا الخصوص.

ظاهر هذه العبارات الواردة فی الخطبة وأغلب الروایات والأخبار والآیات القرآنیة، أنّ الملائکة وجودات نوریة لها بعد جسمی رغم لطافتها التی تحول دون قدرتنا علی مشاهدتها،

ص:46


1- 1) سورة الرعد/2. [1]
2- 2) «وشج» من مادة «وشج» علی وزن نسج أی شبک.
3- 3) فسّر البعض «الأزواج» هنا بمعنی الأرواح (النفوس الفلکیة) وترمز إلی عقیدة بعض الفلاسفة الذین یرون لکل فلک روحا مجردة، إلّاأنّ الانصاف هو عدم ثبوت هذه النظریة بدلیل واضح، کما لا تدل العبارة المذکور علی هذا الأمر.
4- 4) «حزونة» (ولها معنی المصدر واسم المصدر) بمعنی الصعوبة، وقدوردت فی الخطبة بمعنی المشاکل والصعاب.

وعلی هذا الأساس یجوز علیها الصعود والنزول والذهاب والایاب. وسنخوض أکثر فی هذا الموضوع فی المقطع القادم من الخطبة بأذن اللّه السؤال الآخر الذی یطرح نفسه هنا: هل هناک من مکان یضم اللّه فی السموات لتهبط منه الملائکة فتوصل الرسالات والأوامر ثم تصعد إلیه باعمال العباد؟ قطعاً لا یمکن تصور مثل هذا الأمر علی الحق سبحانه الذی یفوق عالم المادة ولا یجری علیه زمان ولا یحویه مکان ولا یترکب من أجزاء. اذن فما معنی هذا الصعود والهبوط؟ یبدو أنّ الإجابة علی هذا السؤال تتضح من خلال الالتفات إلی هذه المسألة الدقیقة وهی: صحیح أنّ السموات والأرضین مخلوقات اللّه، إلّاأنّ هناک بعض المراکز فی هذا العالم المادی التی تعد من مواضع إنعکاس الأنوار الإلهیة. أو بعبارة اُخری هناک بعض المواضع التی لها قداسة خاصة. علی غرار الأرض التی لا تتساوی جمیع بقاعها. علی سبیل المثال فقد اتجه موسی بن عمران علیه السلام إلی الطور حین أراد أن یأخذ الألواح، کما کان نبی الإسلام صلی الله علیه و آله یتجه قبیل انبثاق الدعوة إلی غار حراء؛ والحال هذان الموضعان لیسا باقرب من غیر هما إلی اللّه، إلّاأنّ قدیسة بعض المواضع تجعلها أعظم اشعاعاً للأنوار الإلهیة کالطور وحراء والمسجد الحرام. وهکذا الأمر بالنسبة للملائکة، فهناک بعض المراکز القدسیة فی العالم العلوی تتسلم فیها الملائکة الأوامر الإلهیة، وهی المراکز التی بلغها رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی معراجه، بل جاوزها لما هو أقرب لیفیض اللّه علیه من لطفه وعنایته، وهناک تستودع الأعمال الخیرة للعباد وتحفظ إلی یوم القیامة.

ثم خاض الإمام علیه السلام فی تفاصیل ما أورده سابقا علی نحو الاجمال، حیث عرض بالشرح بخمس عبارات لمراحل خلق السموات. فأشار فی العبارة الاولی إلی أمره (ویراد به الأمر التکوینی لا جتیاز مراحل الخلقة والتکامل) السماء حین کانت علی هیئة دخان «وناداها بعد إذ هی دخان» فهذه العبارة فی الحقیقة أشارت إلی أولی مراحل خلق العالم التی تعرضت لها الآیة من سورة فصلت «ثُمَّ اسْتَوی إِلی السَّماءِ وَهِیَ دُخانٌ» (1)وهو الأمر الذی یقره العلم المعاصر فی أنّ العالم برمته کان فی البدایة کتلة عظیمة جداً من الغاز. وقال فی العبارة الثانیة (حیث وردت الخلقة مرحلة جدیدة) «فالتحمت عری أشراجها» .

فبالنظر إلی أنّ معنی الالتحام هو الوصل، والعری جمع عروة بمعنی المقبض، والاشراج جمع

ص:47


1- 1) لابدّ من الالتفات هنا إلی أنّ ثم الواردة فی الآیة تعنی التأخیر فی البیان لا الزمان. وعلیه فهی لا تدل علی أنّ خلق السموات جاء بعد خلق الأرض (راجع التفسیر الأمثل/11 [1] من سورة فصلت) .

شرج بمعنی الشق. فانّ مفهوم الجملة المذکورة هو أنّ اللّه ضغط تلک الکتلة العظیمة للدخان. ثم أدال الشقوق وربط أطرافها مع بعضها، وکأنّ هذه الشقوق کالصنادیق التی تغلق مقابضها وتوصل مع بعضها لحفظ ما فیها. والعبارة تتفق و ما توصل إلیه العلم الحدیث الذی صرح بضغط کتلة الغاز بفعل الجاذبیة الداخلیة. ثم واصل کلامه علیه السلام حول فصل السموات عن بعضها وفتح أبوابها المؤصدة (وقد جعل مسافة بینها) «وفتق بعد الارتقاء صوامت أبوابها» . ولعل هذه العبارة إشارة إلی ما توصل إلیه العلماء الذین یعتقدون أنّ تلک الکتلة الغازیة الهائلة قد شهدت انفجارا داخلیا عظیما لتتلاشی وتظهر منها الکواکب والمجرات. وعلی ضوء الفرضیة الاخری فان بعض أجزائها أخذت بالانفصال عن البعض الآخر إثر حرکتها الدورانیة الشدیدة والقوة الطاردة عن المرکز، فابتعدت عن بعضها البعض فی هذا الفضاء لتتشکل منها الأجرام السماویة. فقد قال القرآن الکریم بهذا شأن «أَوَ لَمْ یَرَ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّ السَّمواتِ وَالأَرضَ کانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» (1).

ثم أشار فی العبارة الرابعة إلی خلق الشهب السماویة (التی تشاهد فی السماء علی هیئة خطوط من النور تتحرک بسرعة) ثم تنطفئ، فقال علیه السلام: «وأقام رصدا من الشهب الثواقب علی نقابها» (2).

لابدّ من الالتفات هنا إلی أنّ الرصد علی وزن الصدف ذات معنی مصدری فی الأصل وتعنی الاستعداد والتأهب لمراقبة الشی وحراسته. کما تطلق علی الفاعل وتستخدم فی المفرد والجمع. ونقاب جمع نقب بمعنی الطریق أو الفاصلة بین شیئین. وعلیه فالعبارة تعنی أنّ اللّه زود طرق السموات بهذه الشهب لتحول دون نفوذ الشیاطین إلی السموات؛ الأمر الذی أشیر إلیه کرارا فی عدة آیات من القرآن الکریم، ومن ذلک الآیة الثامنة من سورة الصافات «لایسمعون إلی الملأ الأعلی ویقذفون من کل جانب دحوراً ولهم عذاب واصب إلّامن خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب» ، فالذی یستفاد إجمالاً من هذه الآیات وسائرها الواردة

ص:48


1- 1) سورة الأنبیاء/30. [1]
2- 2) المراد بالرؤیة هنا تلک التی تحصل عن طریق الفکر والتأمل، لا عن طریق المشاهدة الحسیة؛ وذلک لأنه لم یکن الإنسان فی ذلک الزمان کما احتمل فی تفسیر هذه الآیة ان المراد من رتق السموات عدم وجود المطر ونمو النباتات، والمراد بفتقها هو نزول المطر ونمو النباتات.

بهذا الشأن أنّ هناک أحادیث تدور فی العالم العلوی بین الملائکة المأمورة من قبل اللّه سبحانه فی إدارة شؤون العالم بشأن بعض الأخبار المهمة لهذا العالم، وأنّ الشیاطین تحاول أحیاناً الاقتراب من السماوات لاستراق السمع، إلّاأنّ الشهب تدفعها عن السماوات.

طبعا صحیح أنّ الشهب علی ضوء العلم الحدیث، لیست إلّاصخوراً تائهة تشتعل حین تقترب من الکرة الأرضیة وتصطدم بها، إلّاأنّ هذا لا یمنع أن تکون هذه الشهب ماُمورة بحراسة فضاء السماء من الشیاطین؛ وأنّ تعذرت علینا رؤیة الشیطان، وخفیت علینا علی وجه الدقة حرکات الشهب (للوقوف بصورة أعمق علی هذا الموضوع المهم، علیک بمراجعة الجلد 19 من التفسیر الأمثل ذیل الآیات المذکورة) ثم أشار فی العبارة الخامسة إلی موضوع مهم آخر ذا صلة بنظام کواکب السماء فی أن اللّه سبحانه أمسکها بید القدرة من الحرکات الطائشة فی الفضاء، وأمرها بالتسلیم لأمره: «وامسکهامن أن تمور (1)فی خرق الهواء بأیده (2)وأمرها أن تقف مستسلمة لأمره» .

فالعبارة تنجسم تماما والعلم الحدیث الذی صرح بأنّ الکواکب والمنظومات والمجرات فی حالة حرکة حول مداراتها بفعل تاثرها بالقوة الجاذبیة المتناسبة مع کتلتها والقوة الدافعیة التی تظهر فیها من جراء الحرکة وقوة الطرد المرکزی، دون أن تستند إلی شی أو ادنی انحراف عن مدارتها. بعبارة اُخری فان التوازن الدقیق للقوة الجاذبیة و الطاردیة لاتدعها تبتعد عن بعضها لتصبح کتلة واحدة. وقد یتضح هذا المطلب من خلال مفردة تمور (الحرکة الطائشة) وخرق الهواء. إلّاأنّ بعض قدماء شرّاح نهج البلاغة الذین عاشوا أجواء نظریة الهیئة البطلیموسیة القائلة بالأفلاک التسع کقشور البصل، شهدوا بعض المشاکل فی تفسیر هذه العبارات، فاضطروا لحمل بعض الألفاظ المذکورة علی معناها المجازی، والحال أنّ تفسیرها علی ضوء الهیئة المعاصرة لم یعد خافیاً علی أحد.

والعبارة «أمرها» و «لأمره» أشارة إلی معنیین؛ فالأمر فی بدایة العبارة الأخیرة یعنی الأمر

ص:49


1- 1) «تمور» من مادة «مور» علی وزن قول بعدّة معانی فی اللغة ومنها الحرکة السریعة والغبار الذی تبعثره الریاح هنا وهناک، والذی یستفاد من تعبیرات أرباب اللغة أنها تعنی الاضطراب فی الهواء.
2- 2) «أید» علی وزن صید بمعنی القدرة والنعمة، وجاء فی القرآن ذا الأید بمعنی صاحب القوة وهذا هو المعنی المراد بها فی الخطبة.

الإلهی التکوینی، والأمر فی آخر الجملة یعنی قوانین الخلق. أی أنّ اللّه خلقها بهذا الشکل لتکون منقادة مستسلمة لهذه القوانین.

تأمّل: خصائص السماوات

لقد رسم الإمام علیه السلام بهذه العبارات صورة رائعة بلیغة عن الخلقة العجیبة للسموات، فأشار أولاً: إلی بدایة خلقها علی أنّها کانت فی البدایة بمثابة کتلة غازیة عظیمة.

ثانیاً: الانفجار الهائل الذی وقع فی تلک الکتلة العظیمة، والانفصال الذی شهدته الکواکب والمجرات عن بعضها البعض.

ثالثاً: تعلق الکواکب فی هذا الفضاء الواسع علی أنه آیة من آیات عظیمة وقدرته سبحانه تعالی.

رابعاً: الحرکات المنظمة للکرات السماویة حول مداراتها والخالیة من أیة حرکات عشوائیة (بفعل توازن قوتی الجذب الطرد) .

خامساً: حرکة الملائکة وصعودها وهبوطها بین الأرض والسماء و المراکز المقدسة، حیث تهبط بالاوامر وتصعد بأعمال العباد.

سادساً: ارسال الشهب التی ترجم الشیاطین حین تحاول الصعود إلی السماء بغیة استراق السمع، حیث بینها الإمام علیه السلام علی سبیل الاختصار بعبارات قصیرة وبلیغة حیث یتطلب کل منها بحثا مستقلاً.

ولاینبغی أن ننسی هنا أنّ کل ذلک قد حصل فی زمان لم تکن تحکم العقول والأفکار فیه سوی نظریة بطلیموس فی الأفلاک والسماوات. ولابدّ من الاذعان بأنّ بیان هذه الحقائق فی ذلک الوقت قد یبلغ حدّ الاعجاز، لیدل دلالة واضحة علی مدی علم الإمام علیه السلام الذی استقاه من مصادر غیر عادیة متعارفة (1).

ص:50


1- 1) ورد شرح مفصل لهذا الموضوع فی المجلد الأول من هذا الکتاب / 102 - 120.

القسم العاشر: خلق الشمس والقمر والشهب والکواکب

اشارة

«وَجَعَلَ شَمْسَها آیَةً مُبْصِرَةً لِنَهارِها، وَقَمَرَها آیَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَیْلِها، وَأَجْراهُما فِی مَناقِلِ مَجْراهُما، وَقَدَّرَ سَیْرَهُما فِی مَدارِجِ دَرَجِهِما، لِیُمَیِّزَ بَیْنَ اللَّیْلِ وَالنَّهارِ بِهِما، وَلِیُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِینَ وَالْحِسابُ بِمَقادِیرِهِما، ثُمَّ عَلَّقَ فِی جَوِّها فَلَکَها، وَناطَ بِها زِینَتَها، مِنْ خَفِیّاتِ دَرارِیِّها وَمَصابِیحِ کَواکِبِها، وَرَمَی مُسْتَرِقِی السَّمْعِ بِثَواقِبِ شُهُبِها، وَأَجْراها عَلَی أَذْلالِ تَسْخِیرِها مِنْ ثَباتِ ثابِتِها، وَمَسِیرِ سائِرِها، وَهُبُوطِها وَصُعُودِها، وَنُحُوسِها وَسُعُودِها» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی خلق الشمس والقمر والکواکب وفلسفتها الوجودیة، ثم شرح بعبارات بلیغة الفوائد والبرکات لهذه الکواکب، حیث أشار إلی خلق الشمس وما یختزنه ضیاؤها من برکات: «وجعل شمسها آیة مبصرة لنهارها» .

ثم أضاف علیه السلام قائلاً: «وقمرها آیة ممحوة من لیلها» .

حیث إختلفت أقوال شرّاح نهج البلاغة فی تفسیر هذه العبارة فقال البعض المراد ممحوة بلیالی المحاق اللیالی الظلماء فی آخر الشهر. وقال البعض الآخر القطع السوداء علی سطح القمر. وقیل أیضاً المراد بهوت لون القمر تدریجیاً بعد منتصف اللیل. ولکن لا یبدو أی من هده التفاسیر تاماً، والمراد بقوله ممحوة هو قلّة ضیاء القمر بالنسبة لضیاء الشمس. علی کل حال فانّ هذه العبارة تتفق تماماً والآیات القرآنیة التی عدت اللیل والنهار من آیات اللّه:

ص:51

«وَمِنْ آیاتِهِ اللَّیْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ» (1)ولاتخفی برکات ضیاء النهار وأشعة الشمس علی حیاة البشریة التی یعزی إلیها کافة الأنشطة والفعالیات والسعی والحرکة من أجل العیش والحیاة، کما أنّ الضیاء المتواضع واللطیف للقمر فی اللیالی الظلماء والذی یقود إلی حل أغلب مشاکل الحیاة البشریة، کما کان یستعین الإنسان حین الضرورة فی الطرق بضیاء القمر ولاسیما فی الصحراء. وفی ذات الوقت فانّه لیس علی درجة من القوة بحیث یعیق حرکته ونشاطه فی النهار، وهذه نعمة اُخری من نعمه سبحانه.

ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی حالات الشمس والقمر وفلسفتهما الوجودیة فقال: «واجراهما فی مناقل (2)مجراهما، وقد سیرهما فی مدارج درجهما، لیمیز بین اللیل والنهار بهما، ولیعلم عدد السنین والحساب بمقادیرهما» ، وهو الأمر الذی أشار إلیه القرآن الکریم بقوله: «هُوَ الَّذِی جَعَلَ الشَّمْسَ ضِیاءاً وَالقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِینَ وَالحِسابَ» ، (3)فمعلوم إنفصال اللیل عن النهار بواسطه الشمس. ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی الکواکب فقال: «ثم علق فی جوها فلکها، وناط (4)بها زینتها، من خفیات دراریها (5)، ومصابیح کواکبها» . فقد أشار علیه السلام إلی نوعین من الکواکب السماویة: الأول الکواکب الصغیرة التی عبر عنها الإمام علیه السلام بقوله خفیات دراریها، والثانی الکواکب الکبیرة والتی عبر عنها بالقول مصابیح. ونعلم بالطبع أنّ هذا التقسیم للکواکب إلی صغیرة وکبیر إنّما یستند إلی رؤیتنا، وإلّا فأنّ أغلب هذه الکوکب الصغیرة قد تکون عظیمة الکبر حتی أنّها لتکبر شمسنا

ص:52


1- 1) سورة فصلت/37. [1]
2- 2) «مناقل» جمع «منقل» من مادة «نقل» بمعنی الطریق.
3- 3) سورة یونس / 5. [2]
4- 4) «ناط» من مادة «نوط» علی وزن موت توقف الشی علی آخر.
5- 5) «دراری» جمع «دری» من الدر الکواکب والقمار.

التی تعتبر إحدی الکواکب السماویة المتوسطة إلّاأنّها تبدو صغیرة بسبب بعدها عن أبصارنا، وعلی العکس من ذلک بالنسبة للکواکب التی تبدو لنا کبیرة (من قبیل کوکب الزهرة) والذی یعدّ جزءاً من سیارات المنظومة الشمسیة، وبسبب قربه یبدو شدید الاشعاع، والحال لیست الزهرة إلّاکوکب صغیر. علی کل حال فانّ هذه الکواکب السماویة لتزین اللیل بما یجعله یخطف البصر، فضلاً عن دلالتها علی عظمة الحق سبحانه وعدم تناهی قدرته وحکمته.

طبعا تشکل الکواکب بدورها عالما مستقلاً، ویری أغلب العلماء أنّ معظمها قد یکون مأهولا بالسکان وتسودها الحیاة؛ غیر أنّه یتعذر علینا تصور کیفیة الحیاة علیها، علی کل حال فانّ دور هذه الکواکب فی حیاتنا لا یقتصر علی تزیین السماء لیلاً فحسب، بل یمکن الاهتداء بها فی البحار والصحاری؛ الأمر الذی أشار إلیه القرآن الکریم: «وَهُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُم النُّجومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِی ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالبَحْرِ» (1)و بغض النظر عن ذلک فلعل الجاذبیة بین الکواکب و الأجرام السماویة هی التی ضمنت حفظ و بقاء الکرة الأرضیة ثم أشار الإمام علیه السلام إلی ظاهرة اُخری من الظواهر السماویة العجیبة وهی الشهب «ورمی مسترقی (2)السمع بثواقب شهبها» . تحدثنا سابقاً بالقدر الکافی عن الشهب وارجعنا القارئ إلی المصدر الذی اسهب فی شرح هذا الموضوع، ولکن یبدو تکرارها فی هذا الموضع من کلام الإمام علیه السلام هو أنّها قد تبدو للناظر فی الأرض أحیاناً ککوکب متحرک، ومن هنا أشار إلیها الإمام علیه السلام إلی جانب تقسیمه للکواکب. ثم تناول الإمام علیه السلام بعض خصائص هده الکواکب فقال: «وأجراها علی أذلال (3)، تسخیرها من ثبات ثابتها، ومسیر سائرها، وهبوطها وصعودها، ونحوسها وسعدها» وسنخوض فی المباحث القادمة فی موضوع الکواکب الثابتة والسیارة والهبوط والصعود وکیفیه نحسها وسعدها.

تأمّلات

1- الکواکب الثابتة والسیارة

نعلم أنّ الکواکب التی نراها فی السماء تقسم من جهة إلی قسمین: ثابتة و سیارة وسیار. والکواکب الثابتة هی التی لا تغیر أوضاعها فی السماء؛ فهی تطلع من جانب وتغیب فی آخر دون أن یری تغییر فی مسافتها (طبعا لها حرکة، إلّاأنّ هذه الحرکة لاتؤثر فی المسافات بسبب

ص:53


1- 1) سورة الانعام/97. [1]
2- 2) «مسترقی» جمع «مسترق» بمعنی السارق ومنه استرق السمع، أی سماعة خفیة.
3- 3) «أذلال» جمع «ذل» بکسر الذال المجری والمسیر.

بعدها الشاسع عنا) . أمّا الکواکب السیارة فهی عدة کواکب ضمن مجموعة المنظومة الشمسیة التی تدور حول الشمس، ولما کانت مسافتها قلیلة جداً عن الکرة الأرضیة بالنسبة لسائر الأجرام السماویة، فانّ حرکتها فی السماء واضحة تماماً، وهی فی تغییر مستمر لموضعها بالنسبة إلینا.

2- خصائص الکواکب

هنالک ممیزات اُخری للکواکب والنجوم ومنها الهبوط والصعود. فهی تتجه فی حرکتها نحو الأعلی صاعدة أحیانا وإلی الاسفل نازلة أحیاناً اُخری. وأوضح نموذج علی ذلک الشمس التی تبدأ اوائل الشتاء متألقة فی مدارها لتشاهد کل یوم فی موضع أعلی فی السماء، حتی تکون أحیانا فوق الرأس بالضبط وذلک حتی أوائل فصل الصیف حتی تبلغ ذروتها. ثم تبدأ مسیرتها التنازلیة منذ شروع الصیف لتصل فی أول الشتاء إلی أدنی نقطة فی الأرض (طبعا هذه التغییرات لیست مرتبطة فی الواقع بالشمس، بل ترتبط بتغییر وضع الأرض فی حرکتها المداریه حول الشمس وانحراف محور الأرض بالنسبة لسطح المدار بنسبة 23 درجة) . فهذه العبارات تدل علی إحاطة الإمام علیه السلام بالمسائل الفلکیة، حیث أشار إلی هذه المسائل باروع بیان.

3- سعد ونحس الکواکب

أمّا بشأن سعد هذه الکواکب ونحسها، فلو أردنا النظر إلی بدایة هذا الأمر فانّها تعود إلی جمع من المنجمین القدماء. حیث کانوا یعتبرون بعضها نحساً، ویعتقدون بان طلوعها وتغییر أوضاعها یؤدی إلی وقوع بعض الحوادث فی الحیاة الخاصة لبعض الأفراد (لأنهم یرون لکل فرد کوکباً) ، وبالعکس فانّ ظهور أو تغییر أوضاع البعض الآخر من الکواکب علامة علی السعادة والتوفیق التی تصیب المجتمع أو الفرد؛ والحال نعلم أنّ الإسلام لا یری من تأثیر للکواکب علی مصیر الإنسان. ویعتبر ذلک نوعاً من الشرک. وقد مر علینا فی الخطبة 79 من المجلد الثالث ما قاله أمیرالمؤمنین علی علیه السلام لذلک المنجم الذی قال له حین عزم علی المسیر

ص:54

إلی الخوارج: إن سرت یا أمیرالمؤمنین فی هذا الوقت خشیت ألا تظفر بمرادک من طریق علم النجوم. فغضب علیه السلام ورد کلامه وأنّ من صدقه فقد کذب القرآن الکریم واستغنی عن الاستعانة باللّه فی نیل المحبوب ودفع المکروه. ثم نهی الإمام علیه السلام الناس عن تعلم النجوم إلا ما یهتدی به فی بر أو بحر. کما تظافرت الروایات والأخبار التی وردتنا عن أئمة العصمة علیهم السلام بذم دلک العلم من النجوم، لتجعل المنجم فی مصاف الکاهن والساحر الذی عد کافرا. ومن ذلک ماورد عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «من صدق کاهنا أو منجما فهو کافر بما أنزل علی محمد» (1)، وعدة أحادیث بهذا الشأن، لاشک أنّ قدماء المنجمین کانوا علی مذاهب بالنسبة لإرتباط الکواکب بمصیر الإنسان والتی بینت بصورة تامة فی شرح الخطبة 79. ولعله یمکن القول أنّ هذه الروایات ناظرة إلی الأفراد الذین یرون تدبیر هذا العالم بید هذه الکوکب وأنّ لها نوع من الاُلوهیة. نعم لیس من الکفر أن یقال للکواکب دلالة فقط علی وقوع مثل هذه الحوادث (بأمراللّه) ؛ ولکن لیس هناک من دلیل لاثبات هذا الأمر. فلهذه الکواکب عوالمها، کما للکرة الأرضیة وسکانها عالم. ولم یقم أی دلیل علمی علی الرابطة المذکورة، مثلاً طلوع الکوکب الفلانی وغروب الکوکب الفلانی أو إقتران هذا الکوکب مع ذاک مؤثر فی نشوب الحرب أو السلم؛ کما لایمکن فی نفس الوقت نفی هذا التأثیر بصورة قاطعة وإن سمع ذلک من غیر المعصوم. طبعاً لایسعنا التنکر لما ورد فی بعض الروایات التی صرحت بکراهیة الزواج والقمر فی العقرب، إلّاأننا أشرنا فی حینه إلی عدم وجود أی تضارب بهذا الخصوص. ومن هنا فان السعد والنحس الذی ورد فی الخطبة قد یکون إشارة إلی هذه الاُمور. کما یحتمل أن تکون لاوضاع الکواکب - ولا سیما سیارات المنظومة الشمسیة - فی مداراتها مقارنة مع بعضها البعض الآخر بعض التأثیرات الطبیعیة علی الکرة الأرضیة. فمثلاً نعلم أن ظاهرة المد والجزر التی تشهدها البحار إنّما تنشأ بفعل تأثیر جاذبیة القمر (إثر اقتراب الشمس من القمر أوائل الشهر وآخره) ولعل تأثیرها یتجاوز البحار لتوثر حتی علی سطح الأرض ممّا یؤدی إلی تشققها وحدوث بعض الزلازل. کما قد یسبب ذلک التأثیر هطول بعض الأمطار الغزیرة علی الأرض وعلیه فقد یکون السعد والنحس للکواکب إشارة إلی هذا التاثیر الطبیعی الخاص.

ص:55


1- 1) وسائل الشیعة 12/104. [1] للوقوف علی سائر الأحادیث الواردة بهذا الشأن راجع الباب 24 من أبواب مایکتسب به.

ص:56

القسم الحادی عشر: خلق الملائکة

«ثُمَّ خَلَقَ سُبْحانَهُ لِإِسْکانِ سَماواتِهِ، وَعِمارَةِ الصَّفِیحِ الْأَعْلَی مِنْ مَلَکُوتِهِ، خَلْقاً بَدِیعاً مِنْ مَلائِکَتِهِ، وَمَلأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا، وَحَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوائِها، وَبَیْنَ فَجَواتِ تِلْکَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِینَ مِنْهُمْ فِی حَظائِرِ الْقُدُسِ، وَسُتُراتِ الْحُجُبِ، وَسُرادِقاتِ الْمَجْدِ، وَوَراءَ ذَلِکَ الرَّجِیجِ الَّذِی تَسْتَکُّ مِنْهُ الْأَسْماعُ سُبُحاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصارَ عَنْ بُلُوغِها، فَتَقِفُ خاسِئَةً عَلَی حُدُودِها» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة فی خلق الملائکة ومختلف المسؤولیات والوظائف التی یقومون بها، بعبارات تبطل فصاحة العرب وتجعل نسبة التراب إلی النضار الخالص کما صرح بذلک ابن أبی الحدید. فقال علیه السلام: «ثم خلق سبحانه السکان سمواته، وعمارة الصفیح (1)الاعلی من ملکوته، خلقا بدیعا من ملائکة، وملأ بهم فروج فجاجها، وحشابهم فتوق (2)أجوائها (3)» . یمکن ان تکون (ثم) إشارة إلی خلق الملائکة بعد خلق الأرض وما علیها من کائنات، کما یمکن أن تکون وردت للتأخیر فی البیان لا الزمان. ویبدو الاحتمال

ص:57


1- 1) «صفیح» من مادة «صفح» تعنی فی الأصل الانبساط والسعة، وعلیه فهی تأتی بمعنی السطح الواسع، وقدوردت هنا بمعنی السماء الواسعة.
2- 2) «فتوق» جمع «فتق» بمعنی الشق فی الشی أو الفاصلة بین شیئین، والفارق بین «الفروج» جمع فرج بمعنی الشق هو سعة الفتق، کما قد یکون إشارة إلی الشق الذی یفصل بین الشیئین، بینما لیس للفرج مثل هذا الفصل، ولایعنی سوی الشق فی الشی.
3- 3) «أجواء» جمع «جو» بمعنی الهواء أو الفاصلة بین السماء والأرض.

الأخیر أنسب بالالتفات إلی الروایات التی صرحت بخلق السموات قبل خلق الکائنات الأرضیة إلی جانب ما جاء فی الخطبة الاولی من نهج البلاغة التی مرّ شرحها. ثم صرح علیه السلام أنّ أصوت المسبحین قد ملأت أقطار السماء ودوت فی حظائر القدس وسترات حجب العظمة: «وبین فجوات (1)تلک الفروج زجل (2)المسجین منهم فی حظائر (3)القدس، وسترات الحجب، وسرادقات (4)المجد» . إلّاان هذا لا یعنی ان الملائکة المقربین استطاعوا أن یبلغوا أوج معرفة سبحانه، ومن هنا أتبع الإمام علیه السلام ذلک بقوله أنّ وراء تلک الصیحات والتسبیحات، سبحات النور التی تردع الأبصار وتوقفها عند حدها «ووراء ذلک الرجیح (5)الذی تستک (6)منه الأسماع سبحات (7)نور تردع الأبصار عن بلوغها، فتقف خاسئة (8)علی حدودها» .

طبعا لا تعنی هذه العبارة أنّ للّه سبحانه وتعالی موضع فی السموات وقد أحیط من کل جانب بطبقات من الأنوار الشدیدة، بل المراد أنّ هناک مراکز مقدسة فی عالم الوجود تعجز عن مشاهدتها حتی الملائکة. کما یمکن ان یکون المراد من هذه العبارة أنّ ملائکة ورغم قربها من اللّه وغرقها فی العبادة والتسبیح، إلّاأنّها عاجزة عن إدراک کنه ذاته وصفاته سبحانه، ولیس لها من نصیب سوی علی قدر إدراکها.

بعبارة اُخری لوحملنا هذه العبارات وفسرناها علی أساس ظاهرها فانّها تفید أنّ فی السماء مواضع تتمتع بقدسیة خاصة وهالة من النور (وهو المعنی الذی أشارت إلیه بعض الروایات والأخبار) (9).

ص:58


1- 1) «فجوات» جمع «فجوة» الموضع الواسع، کما تأتی بمعنی الفراغ بین الشیئین، وردت فی قصة أصحاب الکهف فی القرآن کاشارة لسعة غار أصحاب الکهف «وَهُمْ فِی فَجْوَةٍ مِنْهُ» .
2- 2) «زجل» من مادة «زجل» علی وزن حمل بمعنی قذف الشی، وزجل علی وزن عمل بمعنی الصوت المرتفع والمطرب، کما اطلقت علی کل صوت مرتفع.
3- 3) «حظائر» جمع «حظیرة» المنطقة الممنوعة ومادتها «حظر» علی وزن فرض بمعنی المنع.
4- 4) «سرادقات» جمع «سرادق» الحجاب والخیمة العظیمة.
5- 5) «رجیح» من مادة «رج» علی وزن حج الزلزلة والاضطراب.
6- 6) «تستک» منه تصم منه الاذان لشدته.
7- 7) «سبحات» جمع «سبحة» بمعنی النور والعظمة، واضافتها إلی النور فی العبارة هی إضافیة بیانیة.
8- 8) «خاسئة» من مادة «خسأ» علی وزن مدح الدفع والطرد مع التحقیر.
9- 9) راجع بهذا الشأن بحارالأنوار، ج 55 کتاب «السماء العالم» الباب 5 (الحجب والاستار والسرادقات) .

وعلی غرار ذلک فهناک علی الأرض بعض المراکز التی تحظی بحرمة وقدسیة تفوق غیرها کالکعبة وبیت المقدس، دون ان تکون موضعا لذاته المقدسة سبحانه. وان حملناها علی المعنی الکنائی، فانّها ستکون دلیلاً علی أن للملائکة حداً لاتتجاوزه رغم قربها و عبادتها و عبادتهم.

ص:59

ص:60

القسم الثانی عشر: وظائف الملائکة

اشارة

«وَأَنْشَأَهُمْ عَلَی صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ، وَأَقْدارٍ مُتَفاوِتاتٍ «أُولِی أَجْنِحَةٍ» تُسَبِّحُ جَلالَ عِزَّتِهِ، لا یَنْتَحِلُونَ ما ظَهَرَ فِی الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ، وَلا یَدَّعُونَ أَنَّهُمْ یَخْلُقُونَ شَیْئاً مَعَهُ مِمّا انْفَرَدَ بِهِ «بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ * لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ» جَعَلَهُمُ اللّهُ فِیما هُنالِکَ أَهْلَ الْأَمانَةِ عَلَی وَحْیِهِ، وَحَمَّلَهُمْ إِلَی الْمُرْسَلِینَ وَدائِعَ أَمْرِهِ وَنَهْیِهِ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ رَیْبِ الشُّبُهاتِ، فَما مِنْهُمْ زائِغٌ عَنْ سَبِیلِ مَرْضاتِهِ، وَأَمَدَّهُمْ بِفَوائِدِ الْمَعُونَةِ، وَأَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَواضُعَ إِخْباتِ السَّکِینَةِ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْواباً ذُلُلاً إِلَی تَماجِیدِهِ، وَنَصَبَ لَهُمْ مَناراً واضِحَةً عَلَی أَعْلامِ تَوْحِیدِهِ» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام علیه السلام هنا فی بیان مختلف صور الملائکة وتقاسمها المسؤولیات و جانبا من منیراتها فقال علیه السلام: «وأنشأهم علی صور مختلفات، وأقدار متفاوتات «أولی أجنحة» تسبیح جلال عزته» (1).

حمل بعض شرّاح نهج البلاغة هذه العبارات علی ظاهرها وقالوا: الملائکة أشکال مختلفة واقدار متفاوتة ولها أجنحة وهی دائمة التسبیح للّه سبحانه. بینما ذهب البعض الآخر إلی أنّ هذه العبارات کنایة عن تفاوت مقامات الملائکة ودرجات قوتها و قدرتها. ولما کانت

ص:61


1- 1) یمکن أن تکون العبارة «تسبح جلال عزته» أشارة إلی تسبیح الملائکة أمام جلال الحق وعزته، والصیغة المؤنثة بسبب مفهومها الجمعی.

الأجنحة وسیلة لدی الطیور للتحلیق فی السماء وکیفیة تفاوتها فی التحلیق تبعا لکیفیة هذه الأجنحة، فانّ هذه العبارة بشأن الملائکة إشارة إلی تفاوتهامن حیث القوه والقدرة علی القیام بالوظائف والمسؤولیات. صحیح أننا مکلفون بحمل جمیع الفاظ القرآن الکریم وکلمات الأئمة المعصومین علیهم السلام علی معانیها الحقیقة، دون حملها علی الکنایة والمجاز ما لم تکن هناک قرینة واضحة فی الکلام، ولکن بالنظر إلی العبارات التی تواصل فیها کلام الخطبة بشأن أوصاف الملائکة، یبدو من المستبعد حمل هذه العبارات علی معناها الظاهری، ومن ذلک: «ومنهم من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلی. . .» ، وکذلک العبارات التی وردت سابقاً بشأن الملائکة، کالذی ورد فیها فی الخطبة الاولی بشأن الملائکة: «ومنهم الثابتة فی الارضین السفلی أقدامهم، والمارقة من السماء العلیا أعناقهم. . .» (1)، فهذه العبارات یمکن أن تکون قرینة واضحة علی أنّ لمثل هذه الأوصاف بعد کنائی ومعنوی لا ظاهری ومادی. ثم أشار علیه السلام فی مواصلة کلامه إلی بعض خصائص الملائکة وقال: «لا ینتحلون (2)ما ظهر فی الخلق من صنعه، ولایدعون أنّهم یختلقون شیئاً معه ممّا انفرد به» ، ثم اردف علیه السلام کلامه مباشرة بما ورد فی القرآن الکریم بشأن التسلیم المطلق للملائکة أمام إرادة اللّه سبحانه وتعالی فقال: «عِبادٌ مُکْرَمُونَ * لا یَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ» (3)، نعم فهم آذان صاغیة لأوامره سبحانه وانقیاد مطلق لإرادته، وهذه أولی خصائص الملائکة التی أشارت الیها الخطبة، کما تشیر ضمنیاً إلی عصمة الملائکة وبعدهاعن الذنب والمعصیة والخطأ والزلل، فهی تبطل کافة مزاعم مشرکی العرب وغیر هم ممن قال بربوبیتها واُلوهیتها، وتصفهم بأنّهم عباد مطیعون منقادون ولیس لهم أن یکونوا شرکاء اللّه فی الخلق.

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی وظیفة اُخری من وظائف الملائکة بصفتهم حملة الوحی فقال: «جعلهم اللّه فیما هنالک أهل الامانة علی وحیه، وحملهم إلی المرسلین ودائع أمره وفهیه، وعصمهم من ریب الشبهات. فما منهم زائغ (4)عن سبیل مرضاته» فالعبارة وإن

ص:62


1- 1) راجع المجلد الأول من هذا الشرح /159.
2- 2) «ینتحلون» من مادة «انتحال» بمعنی إدعاء الشخص شیئا لصالحه، وهو یتعلق بآخر.
3- 3) سورة الأنبیاء/26 - 27. [1]
4- 4) «زائغ» من مادة «زیغ» علی وزن میل بمعنی العدول عن الحق.

نسبت ابلاغ الوحی الإلهی إلی جمیع الملائکة، إلّاأنّ المفروغ منه هو أنّ المراد طائفة منهم؛ الأمر الذی صرح به القرآن الکریم بقوله: «اللّهُ یَصْطَفِی مِنَ المَلائِکَةِ رُسُلاً» . (1)کما صرح علیه السلام فی الخطبة الاولی من نهج البلاغة بهذا المعنی قائلاً: «ومنهم أمنا علی وحیه، وألسنة إلی رسله» . و هذا تعبیر متداول بشأن الأعمال المهمة التی تصدر من فئة معینة ضمن جماعة لتحسب علی أساس تلک الجماعة.

علی کل حال فانّ العبارة تشیر إلی مدی أمانة الملائکة فی ابلاغ الوحی وایصاله علی نحو الدقة دون نقیصة أو زیادة والوقع هو أنّ الإمام علیه السلام أشار بالعبارتین الأخیرتین إلی عصمة الملائکة من الذنب والزلل، حیث أشارت العبارة الاولی إلی عصمتها عن الشبهة والشک والخطئ والثانیة إلی عصمتها عن الذنب والمعصیة وعدم مخالفة الأوامر الإلهیة. کما أشار علیه السلام باربع عبارات إلی عنایة سبحانه بملائکة الوحی من أجل قیامها بهذه الوظیفة بصورة صحیحة. قال فی العبارة الاولی أنّه أمدهم سبحانه بلطفه وعنایته لیقوموا بهذه الوظیفة الخطیرة علی أکمل وجه «وأمدهم بفوائد المعونة» . ثم قال فی العبارة الثانیة «وأشعر قلوبهم تواضع إخبات السکینة» (2)کما فتح لهم باب مدحه وتمجیده وسهل لهم ذلک زیادة فی عصمتهم وعلو مقامهم. وهذا ماأورده فی العبارة الثالثة «وفتح لهم أبواباً ذللاً (3)إلی تماجیده (4)» . ثم قال فی العبارة الرابعة «و نصب لهم منارا واضحة علی أعلام توحیده» فقد أوجز الإمام علیه السلام بهذه العبارات أشکال الملائکة وصورها والفوارق بینها فی القوة و القدرة، إلی جانب بیان أحدی أهم وظائفها فی ابلاغ الوحی و صفات هذه الطائفة المبلغّة للوحی.

ص:63


1- 1) سورةالحج/75. [1]
2- 2) «اخبات» الخضوع والخشوع والتواضع.
3- 3) «ذلل» جمع ذلول السهل.
4- 4) «تماجید» جمع «تمجید» بیان المجد والشرف والعظمة الشخصیة.

تأمّل: لم الملائکة واسطة الوحی؟

نعلم أنّ الوحی یحصل بعدة صور: فقد یکون أحیاناً بواسطة الملک الذی یحمل رسالة اللّه من قبیل نزول الوحی علی نبی الإسلام بواسطة جبرئیل علیه السلام. کما یکون أحیاناً اُخری عن طریق سماع الأمواج الصوتیة التی تحدثها القدرة الإلهیة فی الفضاء کنزول الوحی علی نبی اللّه موسی علیه السلام عن هذا الطریق. کما نزل علی النبی صلی الله علیه و آله - طبق بعض الروایات - مثل هذا الوحی فی المعراج. کما یحصل عن طریق الالهام و الإلقاء فی الروع؛ الأمر الذی حصل للنبی صلی الله علیه و آله فی بعض المواقع الضروریة. وهنا یبرز هذا السؤال: مادام هناک طریق للوحی من خلال ایجاد الصوت أو الالهام، فما الضرورة لأن تکون الملائکة واسطة للوحی؟

للإجابة علی هذا السؤال المهم، یمکن القول أنّ لنزول الملائکة بعض المزایا منها:

1- لما کانت الملائکة موجودات مجردة، وللإنسان - کائنا من کان - بعد مادی وجسمانی وروحانی فانّ تلقی الوحی عن طریق الملائکة أهون وأسهل علی الأنبیاء من تلقی الوحی بصورة مباشرة. بینما یکون أصعب و أثقل إن کان بصورة مباشرة.

2- أنّ نزول الملک یفید الاطمئنان أکثر إلی الوحی، إلی جانب الأهمیة الفائقة لهذا لأمر، لأنّ اللّه أمر أعظم ملائکتة للقیام بوظیفة ابلاغ الوحی. والجدیر بالذکر أنّ بعض الروایات والأخبار صرحت بتشییع فریق من الملائکة (یصل عددهم أحیاناً إلی سبعین ألف ملک) لبعض السور القرآنیة حین نزول جبرئیل بها علی النبی صلی الله علیه و آله لتتضح للجمیع أهمیة ذلک الموضوع، وبالطبع فانّ هذا الأمر لایتحقق فی ظل الالهام أو سماع الصوت. وإن کانت لهذه الأخیرة خصائصها وممیزاتها.

ص:64

القسم الثالث عشر: الانقطاع إلی اللّه

«لَمْ تُثْقِلْهُمْ مَوصِرَاتُ الآثَامِ، وَلَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّیَالی وَالأَیَّام، وَلَمْ تَرْمِ الشُّکُوکُ بِنَوَازِعِهَا، عَزِیمَةَ إِیِمَانِهمْ، وَلَم تَعْتَرِکِ الظُّنُونُ عَلَی مَعَاقِدِ یَقِینهِمْ، وَلاَ قَدَحَتْ قَادِحَةُ الإِحَنِ فِیمَا بَیْنَهُمْ، وَلاَسَلَبَتْهُمُ الْحَیْرَةُ مَا لاَقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمائِرِهمْ، وَمَا سَکَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَهَیْبَةِ جَلاَلَتِهِ فِی أَثْنَاءِ صُدُورِهْم، وَلَمْ تَطْمَعْ فِیهِمْ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَیْنِهَا عَلی فِکْرِهمْ» .

الشرح والتفسیر

ذکر الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة ما یکمل کلامه فی صفات الملائکة - ولا سیما صفة العصمة عن الذنب والمعصیة - لیوضح ذلک بسبع عبارات قصیرة عظیمة المعنی، قال فی الاولی أن ثقل الذنوب لم یعجزهم ویقعدهم فهم لایقارفون الذنب أبداً: «لم تثقلهم موصرات (1)الاثام» ، فی إشارة إلی أنّ الذنب عادة ما یثقل کاهل الإنسان فی مسیرة الطاعة، ولما کانت الملائکة لا ترتکب الذنب قط فهی خفیفة علی الدوام ومتأهبة للطاعة، ولذلک لایبدو صحیحاً ما احتمله بعض شرّاح نهج البلاغة فی تفسیرهم لهذه العبارة من أنّ الذنوب التی یرتکبها الناس لاتجعلهم متقاعسین فی عملهم، وذلک لعدم انسجامه وسائر عبارات هذه الخطبة. ثم أشار علیه السلام فی العبارة الثانیة إلی أنّ الذهاب والایاب وتعاقب اللیل والنهار لم یسق هذه الملائکة إلی الموت (لیستولی علیها الضعف، فهی متأهبة دائما للطاعة) «ولم ترتحلهم عقب (2)اللیالی والأیام» ، یحتمل أن یکون المراد عدم الانتقال من الحیاة إلی الموت، بل الانتقال

ص:65


1- 1) «موصرات» من مادة «اصر» بمعنی الحفظ والسجن، ثم اطلق علی کل فعل ثقیل یعیق الانسان عن العمل، ومؤصرات الأثام مثقلاتها.
2- 2) «عقب» جمع «عقبة» علی وزن غرفة وجمعها غرف تعنی النوبة. إشارة إلی تعاقب اللیل والنهار حسب نوبتهما.

من الطاعة إلی المعصیة أی أنّ طول الزمان لم یرهقها قط ولم یبعدها عن طاعة الحق سبحانه وتعالی - وقال علیه السلام فی العبارة الثالثة أن سهام الشک لم تستطع أن ترم عزم إیمانهم: «ولم ترم الشکوک بنوازعها (1)عزیمة ایمانهم» ثم قال علیه السلام فی العبارة الرابعة «ولم تعترک (2)الظنون علی معاقد یقینهم» کما أشار علیه السلام إلی عدم وجود العوامل التی تدعوا إلی إثارة نیران الحقد والعداء والضغینة لدیهم (لکی یجد الضعف من سبیل إلی وظائفهم - وعلیه فالملائکة تعمل مع بعضها البعض الآخر بکل تنسیق وانسجام دون اختلاف فی القیام بالوظائف الإلهیة) «ولا قدحت قادحة الإحن (3)فیما بینهم» ، ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه فی أنّ الحیرة لم تسلبهم مالدیهم من معرفة وانطوت علیه صدورهم من هیبة للّه وعظمة: «ولاسلبتهم الحیرة ما لاق من معرفته بضمائرهم، وما سکن عن عظمته وهیبة جلالته فی أثناء صدورهم» یمکن أن یکون المراد بالعبارة أن إیمان الملائکة ومعرفتها باللّه وصفات جماله وجلاله علی قدر من القوة بحیث لاتختزن أیه أوهام وحیرة یمکنها إختراق تلک المعرفة أو الحد منها؛ والحال لیس الأمر کذلک لدی الإنسان، فقد یصطدم بعض المؤمنین ببعض الاوضاع التی تؤدی إلی ذهولهم وحیرتهم وزعزعة دعائم إیمانهم. کما یحتمل أن یکون المراد بالحیرة هو عدم بلوغ کنه ذاته وصفاته، إلّاأنّها لا تصدهم عن ذلک الإدراک الإجمالی للذات والصفات فیضطر وعلی غرار بعض الناس وبفعل عدم إدراک کنه الذات إلی تعطیل صفاته. ثم قال فی الصفة الأخیرة: «ولم تطمع فیهم الوساوس فتقترع (4)برینها (5)علی فکرهم» ، فالذی یستفاد من مجموع هذه الصفات هو عدم تسلل أدنی خطا وشک وتردید وفتور وتقصیر إلی أعمال أمناء الوحی من الملائکة، وهم جاهدون فی ابلاغها إلی الأنبیاء والرسل. وضمنا فانّ هذا الکلام الشریف رسالة إلی جمیع الأفراد - ولاسیما دعاة الإسلام والکتاب - إلی مراعاة الدقة والامانة والإیمان والتسامی والابتعاد عن کافة ألوان الوساوس وأمراض الحقد والبغضاء والعداء و الحسد والشک والتردید فی ابلاغ دعوة الأنبیاء ورسالتهم بالشکل الصحیح.

ص:66


1- 1) «نوازع» جمع «نازعة» من مادة «نزع» علی وزن وضع بمعنی سحبه أو رفعه من مکانه. و فی العبارة اعلاه، تطلق علی السهم عند ما یراد اطلاقه من القوس فی حالة سحب وتر الاطلاق إلی الخلف.
2- 2) «تعترک» من مادة «عرک» الازدحام.
3- 3) «إحن» جمع «إحنة» بمعنی الحسد والکره.
4- 4) «تقترع» من مادة «قرع» بمعنی الضرب.
5- 5) «الرین» بفتح الراء الدنس وما یطبع علی القلب من حجب الجهالة.

القسم الرابع عشر: مدبرات الاُمور

«وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فی خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّحِ، وَفی عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ، وَفی قَتْرَةِ الظَّلاَمِ ا ْلأَیْهَمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تَخُومَ الأَرْضِ السُّفْلَی، فَهِیَ کَرَایَاتٍ بِیضٍ قَدْ نَفَذَتْ فِی مَخَارِقِ الْهَوَاءِ، وَتَحْتَهَا رِیحٌ هَفَّافةٌ تَحْبِسُهَا عَلَی حَیْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُود الْمُتَنَاهِیَةِ، قَدْ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ، وَوَصَلَتْ حَقَائِقُ الإِیِمَانِ بَیْنَهُمْ وَبَیْنَ مَعْرِفَتِهِ، وَقَطَعَهُمُ الإِیقَانُ بِهِ إِلی الْوَلَهِ إِلیْهِ، وَلَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلی مَا عِنْدَ غَیْرِهِ» .

الشرح والتفسیر

تطرق الإمام علیه السلام إلی سائر أصناف الملائکة بعد أن فرغ من صفة ملائکة الوحی، فقال علیه السلام: «ومنهم من هو فی خلق الغمام الدلح (1)فی عظم الجبال الشمخ (2)، وفی قترة (3)الظلام الأیهم (4)» ، الدلح جمع دالح تعنی السحاب المثقل بالماء، وشمخ جمع شامخ بمعنی المرتفع، وقترة تعنی هنا الخفاء والبطون، وأیهم بمعنی اللیالی الدامسة التی لایهتدی فیها. فالذی یبدو أن مراد الإمام علیه السلام الملائکة الموکلة بالسحب الممطرة والجبال المرتفعة والظلمات، حیث لکل منها سهم

ص:67


1- 1) «الدلح» جمع «دالح» من مادة «دلوح» بمعنی السحب الملیئة بالمطر، وکأنّها تتحرک ببطئی لثقلها (لأن أصلها الغوی یعنی بطئی الحرکة) .
2- 2) «شمخ» جمع «شامخ» من مادة «شموخ» بمعنی العلو والرفعة ومن هنا یطلق الشامخ علی الجبل المرتفع.
3- 3) «قترة» بمعنی ضیق وانضمام شیء إلی آخر، ولما کانت شدة الظلمة کذلک وکان الظلمات قد انضم بعضها الی بعض وتراکمت، اطلق علیها هذه المفردة.
4- 4) «أیهم» تعنی فی الأصل المجنون وناقص العقل ویقال للصحراء القاحلة فلاة کما تطلق علی الظلام فیقال «الظلام الأیهم» أی لایری فیه کوکباً.

فی تدبیر هذا العالم، وهو ما أشار إلیه القرآن الکریم فی الآیة الخامسة من سورة النازعات، حیث عبر عن هذه الملائکة بالقول «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» ، کما احتمل أن یکون لهذا الصنف من الملائکة دور فی ایجاد تلک السحب والجبال والظلمات - علی کل حال فانّ مأموریة هذا الصنف من الملائکة هی مأموریة تکوینیة - علی الخلاف من ملائکة الوحی حیث لهم مأموریة تشریعیة. ثم تطرق علیه السلام إلی صنف آخر من الملائکة فقال علیه السلام: «ومنهم من قد خرفت أقدامهم تخوم (1)الأرض السفلی، فهی کرایات بیض قد نفذت فی مخارق (2)الهواء، وتحتها ریح هفافة (3)، تحبسها علی حیث من انتهت من الحدود المتناهیة» وتشبه هذه العبارة ما أورده الإمام علیه السلام فی الخطبة الاولی من نهج البلاغة التی قال فیها: «ومنهم الثابتة فی الأرضین السفلی أقدامهم، والمارقة من السماء العلیا أعناقهم» ، طبعاً هذه العبارات إنّما تشیر علی سبیل الکنایة إلی رفعة هذا الصنف من الملائکة وسمو مکانته، واننا لاندرک سوی شبح عنها، وذلک لأننا لانمتلک المعلومات الکافیة عن خلقها. ولا یتسنی إدراک حقیقة هذه التعبیرات بصورة تامة سوی لعلی علیه السلام وسائر المعصومین علیهم السلام الذین رفعت عنهم الحجب، وما علینا إلّا القناعة والاکتفاء بهذا العلم الإجمالی. ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه فی وصف هؤلاء الملائکة فقال علیه السلام: «قد استفرغتهم أشغال عبادته، ووصلت حقائق الإیمان بینهم وبین معرفته، وقطعهم الایقان به إلی الوله (4)إلیه، ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلی ما عند غیره» ، فالعبارات الأربع مرتبطة مع بعضها البعض الآخر قطعا، فالاشتغال بالعبادة سبب لتقویة الإیمان ورسوخه، کما أنّ قوة الإیمان تنتهی إلی الحب والعشق، فاذا ملأحبّه کیان الإنسان أو الملک، لم یدعه یفکر فی غیره ولایطمع إلی ما عند سواه. فقد ورد فی الخبر عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال: «أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها، وأحبّها

ص:68


1- 1) «تخوم» جمع «تخم» تعنی فی الأصل الحد، وتخوم الأرض اعماقها.
2- 2) «مخارق» جمع «مخرق» من مادة «خرق» علی وزن خلق. بمعنی موضع الخرق، ومخارق الهواء الشقوق بین طبقات الهواء.
3- 3) «هفافة» ، الریح التی تتحرک بسرعة. وقیل هفافة بمعنی الطیبة الساکنة، إلّاأنّ هذا المعنی لایبدو مناسباًللعبارة المذکورة، ولایستبعد ادغام المعنیین فی مفهوم واحد وهو الریح السریعة المنتظمة.
4- 4) «وله» تغنی الحیرة من شدة الحزن حتی یفقد صاحبها عقله، ثم اطلق علی العشق المفرط الذی یسلب الإنسان استقراره.

بقلیه، وباشرها؟ ، وتفرغ لها؛ فهو لایبالی علی ما أصبح من الدنیا علی عسر، أم علی یسر» (1)، وواضح أن عبادة الملائکة لاتصدهم عن مأموریتهم فی تدبیر شؤون العالم - بأمر اللّه - ولاعبادة أولیاء اللّه تصدهم عن تدبیر دینهم و دنیاهم و وظائفهم الفردیة و الإجتماعیة فکل أمورهم إنّما تنعبث من حبهم وعشقهم الحق سبحانه وتعالی و السیر علی طاعته.

ص:69


1- 1) الکافی 2/83، ح 3، باب العبادة. [1]

ص:70

القسم الخامس عشر: خصائص الملائکة

اشارة

«قَدْ ذَاقُوا حَلاَوَةَ مَعْرِفَتِهِ، وَشَرِبُوا بِالْکَأْسِ الَّروِیَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ، وَتَمَکَّنَتْ مَنْ سُوَیْدَاءِ قُلُوبِهِمْ وَشِیجَةُ خِیفَتِهِ، فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ، وَلَمْ یُنْفِذْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَیْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ، وَلاَأَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِیمٌ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ، وَلَمْ یَتَوَلَّهُمْ الإِعْجَابُ فَیَسْتَکْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ وَلاَ تَرَکَتْ لَهُمُ اسْتِکَانَةُ ا ْلإِجْلاَلِ نَصِیباً فِی تَعْظِیمِ حَسَنَاتِهِمْ، وَلَمْ تَجْرِ الْفَتَراتُ فِیهِمْ عَلَی طُولِ دُؤُبِهِمْ، وَلَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَیُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ، وَلَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُناجَاةِ أَسَلاَتُ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ مَلَکَتْهُمُ الأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ، إِلَیْهِ أَصْوَاتُهُمْ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ فِی مَقَاوِمِ الطَّاعةِ مَنَاکِبُهُمْ، وَلَمْ یَثْنُوا إلَی رَاحَةِ التَّقْصِیرِ فِی أَمْرِهِ رَقَابَهُمْ، وَلاَتَعْدُو عَلَی عَزِیمَةِ جِدِّهِم بَلاَدَةُ الْغَفَلاَتِ، وَلاَ تَنْتَضِلُ فِی هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ» .

الشرح والتفسیر

تحدث الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة بصورة أعمق عن صفات الملائکة ومقام معرفتهم وعشقهم للّه سبحانه و درجات عبادتهم وخضوعهم وخشوعهم. فقد أشار فی الواقع إلی ثلاث من الصفات بعبارات رائعة مختلفة، تعرض فی العبارة الاولی إلی مقام الملائکة الرفیع فی المعرفة وکأنها أسکرت عقولهم وجوارحهم فملأتها حبا وعشقا للّه. کما تعرض فی العبارة الثانیة إلی الطاعة المتواصلة بفضلها الولیدة الطبیعیة لهذه المعرفة وأخیراً العبارة الثالثة التی تفید خلو هذه الطاعة المستمرة من الکلل والملل والتعب والفتور والعجب. کأنّ الإمام علیه السلام دعا الناس للاقتداء بها واحتذاء طریقتها فی المعرفة والعبودیة والاخلاص. فقال علیه السلام: «قد ذاقوا

ص:71

حلاوة معرفته، وشربوا بالکأس الرویة (1)من محبته، وتمکنت من سویداء (2)قلوبهم وشیجة (3)خیفته» تفید العبارة: «قد ذاقوا حلاوة معرفته، وشربوا بالکأس الرویة من محبته» أنّ الملائکة قد إنفتحت علی معرفة اللّه وحبّه بکل کیانها حتی نفذ إلی سویداء قلوبها، کما تفید مفردة تمکنت أنّ خوف اللّه قد تجذر فی أعماق قلوبها بحیث وظّف هذا الخوف والرجاء کل قواها فی سبیل طاعة اللّه؛ وذلک لأنّ الحب والأمل دون الخوف یسوق الإنسان إلی الغفلة والغرور، کما أن الخوف دون الحب والأمل یقوده إلی الیأس والقنوط. من هنا قال الإمام علیه السلام عقب تلک الصفات: «فحنوا (4)بطول الطاعة اعتدال ظهورهم» فهم دائما علی أتم الخضوع وکمال التسلیم للّه. مع ذلک فان رغبتهم المتفاقمة فی عبادته وکثرتها لم تسلبهم حالة التضرع والخشوع (فلم یتطرق الیها التعب والارهاق) «ولم ینفذ طول الرغبة إلیه مادة تضرعهم» لا کالأفراد من عدیمی المعرفة الخالین من معانی الحب والعشق والخوف والرجاء الذین تتعبهم أدنی عبادة وتسلبهم الرغبة والاقبال علیها. ثم أشار علیه السلام إلی نقطة مهمّة اُخری : «ولا أطلق عنهم عظیم الزلفة (5)ربق (6)خشوعهم، ولم یتولهم الاعجاب فیستکثروا ما سلف منهم ولا ترکت لهم استکانة (7)الاجلال نصیبا فی تعظیم حسناتهم» ، فهناک نقطة لطیفة کامنة فی هذه العبارة أشار إلیها بعض شرّاح نهج البلاغة وهی أنّ من یقترب من الملوک والسلاطین والشخصیات التی تبدو رفیعة وعظیمة سرعان ما یکتشف أن قدرتهم و شوکتهم قاصرة زائلة مهما بدت کبیرة، وبامکان مقربیهم أن یبلغوا هذه القدرة یوماً ما، بل حتی أعظم منها. وهذا ما یؤدی بدوره إلی الحد من تواضع الآخرین وخضوعهم وطاعتهم لهم، فانّ اضطروا إلی تعظیمهم ظاهراً، لم یروا لهم مثل هذه العظمة باطناً. أمّا الملائکة فعلی العکس کلما اقتربت

ص:72


1- 1) «رویة» من مادة «ری» علی وزن طی التی تروی منه العطش، وکأس رویة کنایة عن الظرف المملوة الذی یروی العطشان بصورة تامة.
2- 2) «سویداء» تصغیر «سوداء» من السواد، و هی حبة صغیرة فی القلب تشکل مرکزه حب اعتقاد القدماء.
3- 3) «وشیجة» من مادة «وشج» أصلها عرق الشجرة وإراد بها هنا بواعث الخوف من اللّه.
4- 4) «حنو» من مادة «حنو» علی وزن حذف بمعنی الالتواء والانحناء.
5- 5) «زلفة» من مادة «زلف» علی وزن ضعف بمعنی القربی، و «زلفه» و «زلفی» بمعنی المقام والمنزلة والقرب.
6- 6) «ربق» جمع «ربقه» حبل فیه عدة عری تربط فیه البهم، ثم اطلقت علی الرابطة المحکمة بین شیء وأخر، وقد وردت هنا بهذا المعنی.
7- 7) «إستکانة» من مادة «سکون» تأتی بمعنی الخضوع والتواضع فی هذه الموارد. قیل من باب إفتعال من مادةسکون، وقیل من باب استفعال من مادة کون وهی أیضاً بمعنی السکون فی مکان مع الخضوع والخشوع.

فی مسیرتها من اللّه تکشفت لها حقائق جدیدة عن عظمته المطلقة، فیروا فیه ملامح جدیدة من صفات الجمال والجلال. من هنا یزدادون له خضوعاً وخشوعاً وتواضعاً کل یوم، فلا یبقی أمامهم من مجال للاعجاب بالحسنات وإکبارها، بل یرون أنفسهم مقصرین علی الداوم تجاهه. ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه باماطة اللثام عن هذه الحقیقة وهی عدم کلل الملائکة عن عبادته، ولیس للفتور من سبیل إلیها، کما لیس هناک ما یصدها عن مواصلة مسیرتها العبادیة، بل هی دؤوبة علی العبادة بدافع من عشقها وإرادتها وعزمها، علی غرار الإنسان الذی لایکل عن استنشاق الهواء الطلق طیلة عمره وإن امتد لالاف السنین. ثم تناول الإمام علیه السلام هذه المسألة من مختلف الجوانب بثمان عبارات. فقال فی العبارة الاولی: «ولم تجر الفترات فیهم علی طول دؤبهم» (1)کما قال سبحانه وتعالی فی محکم کتابه العزیز واصفاً الملائکة: «یُسَبِّحُونَ اللَّیْلَ وَالنَّهارَ لا یَفْتُرُونَ» (2)ثم قال علیه السلام فی العبارة الثانیة: «ولم تغض (3)رغباتهم فیخالفوا عن رجاء ربّهم» ، وذلک لأنّ عشقهم للکمال دائمی لایتوقف، وعلمهم متزاید بربهم - وبناءاً علی هذا فلیس هنالک ما یدعو إلی غفلتهم عن العبادة، أو یقلل من أملهم. وقال فی العبارة الثالثة أن طول مناجاتهم لم تجف ألسنتهم وتعجزها عن العبادة: «ولم تجف لطول المناجاة أسلات (4)ألسنتهم» ، طبعاً لیس هنالک لساناً وفما للملائکة کما لدینا، بحیث تقل رطوبته بفعل کثرة الذکر والمناجاة فیصیبه الجفاف والیبس، بل العبارة کنایة لطیفة عن عدم ضعفهم وفتورهم فی تسبیحهم وتضرعهم للّه سبحانه وتعالی، ثم قال علیه السلام فی العبارة الرابعة: «ولاملکتهم الاشغال فتنقطع بهمس (5)الجؤار (6)، إلیه أصواتهم» ، فالواقع لیس لهؤلاء من عمل سوی العبادة والطاعة والعبودیة، وهذه الاُمور جزء لایجتزأ من ذواتهم ووجودهم وإیمانهم. ولیس لهذه الاُمور أن تخلق أی تعب أو ملل، کالقلب المعافی الذی لایشعر بالتعب ولو عمل لسنین، وقال علیه السلام فی العبارة الخامسة: «ولم تختلف فی مقاوم (7)الطاعة

ص:73


1- 1) «دؤوب» مصدر بمعنی الدوام والاستمرار والسعی والجهد إلی حد التعب والارهاق.
2- 2) سورة الأنبیاء/20. [1]
3- 3) «تغض» من مادة «غیض» بمعنی تنقص و تقل. و أشارت فی العبارة إلی عدم قلة رغبة الملائکة بطاعة اللّه و عبادته.
4- 4) «أسلات» جمع «أسله» بمعنی طرف اللسان، وتطلق علی من لایکل عن الذکر ولایجف لسانه.
5- 5) «همس» علی وزن لمس، الخفی من الصوت.
6- 6) «جؤار» ، الصوت المرتفع، وقد ورد فی العبارة بمعنی رفع صوت الملائکة بالتضرع وعدم الکف عن المناجاة.
7- 7) «مقاوم» ، قال شرّاح نهج البلاغة مقاوم جمع مقام بمعنی الصفوف وإن لم تعشر علی مثل هذا الجمع2فی المصادر اللغویة.

مناکبهم» ، ثم أردفها علیه السلام بالقول بعدم خلودهم إلی الراحة لیؤدی بهم ذلک إلی التقصیر فی القیام بمهامهم: «ولم یثنوا (1)إلی راحة التقصیر فی أمره رقابهم» فهم علی أهبة الاستعداد للعبادة علی الدوام. ثم اختتم ذلک بقوله علیه السلام: «ولاتعدوا علی عزیمة جدهم بلادة الغفلات، ولاتنتضل (2)فی هممهم خدائع الشهوات» ، حقاً أنّ وجودهم خال من أیة شهوة وغفلة، ولهم ایمان وحب لخالقهم علی درجة من القوة والرسوخ بحیث لایتسلل إلیهم التعب والملل أبداً فی مسیرتهم العبادیة وطاعتهم لربّهم.

تأمّل: الناس والملائکة

هدف الإمام علیه السلام باختصار بیان حال الملائکة فی طاعتها وعبودیتها للّه سبحانه بعبارات مفعمة بالکنایات والتشبیهات المقرونة بروعة الدقة، و الجمال لیکون ذلک فی الواقع درساً لکافة الأفراد فی أنّ الإنسان إذا شق طریقة إلی اللّه وسار نحو مقام القرب إلالهی وذاق بروحه وأحاسیسه حلاوة معرفة اللّه وارتوی من حبه وعشقه، إلّایستشعر التعب والفتور أبداً فی مسیرته العبودیة وطاعته لربه، وعلیه أن یکون أکثر جدیة وعزماً کلما تقدم فی هذه المسیرة.

فقد ورد فی سیرة الائمة ورواد الطریق من العلماء الأعلام ما یشیر إلی أنّ الإنسان یمکنه أنّ یکون علی غرار الملائکة فی هذه الاُمور، بل له أن یسبقهم ویتفوق علیهم، وذلک لأنّ الملائکة مجردة من الأهواء والشهوات و الغفلة، فاذا نال الإنسان تلک الصفات، کان حقاً أفضل من الملائکة. جاء فی الخبر أنّ الإمام زین العابدین علی بن الحسین علیه السلام لم ینقطع أربعین سنة عن صلاة اللیل، حتی أنّه کان یصلی الصبح بوضوء المغرب: «إنّه علیه السلام صلی أربعین سنة صلاة الصبح بوضوء المغرب» (3)، وقال الإمام الباقر علیه السلام فی وصفه لعبادة الإمام علی علیه السلام: «ما أطاق أحد عمله وإن کان علی بن الحسین لینظر فی کتاب من کتب علی

ص:74


1- 1) «یثنوا» من مادة «تثنی» بمعنی الطی وأن أطلقت علی المدح فلأنها تعدد صفات الشخص البارزة الواحدةبعد الأخری.
2- 2) «تنتضل» من مادة «نضال» ترمی السهام.
3- 3) روضة المتقین 13/264.

فیضرب به الأرض ویقول من یطیق هذا» (1).

القسم السادس عشر: عودا علی بدء فی صفات الملائکة

اشارة

«قَدْ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِیرَةً لِیَوْمِ فَاقَتِهِمْ، وَیَمَّمُوهُ، عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلی المَخْلُوقِینَ بِرَغْبَتِهِمْ، لاَیَقْطَعُون أَمَدَ غَایَةِ عِبَادَتِهِ وَلاَیَرْجِعُ بِهِمِ الاِسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طاَعَتِهِ، إِلاَّ إِلَی مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهمْ غَیْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَمَخَافَتِهِ، لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ، فَیَنُوا فی جِدِّهِمْ، وَلَمْ تَاْسِرْهُمُ اْلاطْمَاعُ فَیُؤْثِروُا وَشیِکَ السَّعْی عَلی اجْتِهَادِهِمْ. لَمْ یَسْتَعْظِمُوا مَآ مَضَی مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوِ اسْتَعْظَمُوا ذلِکَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ، وَلَمْ یَخْتَلِفُوا فِی رَبِّهِمْ بِاسْتِحْواذِ الشَّیْطَانِ عَلَیْهِمْ. وَلَمْ یُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ، وَلاَ تَوَلاَّهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ، وَلاَ تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرَّیَبِ، وَلاَ اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْیَافُ الْهِمَمِ، فَهُمْ أُسَرَاءُ إِیمَانٍ لَمْ یَفُکَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَیَغٌ وَلاَ عُدُولٌ وَلاَوَنیً وَلاَ فُتُورٌ، وَلَیْسَ فی أَطْبَاقِ السَّماءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وَعَلَیْهِ مَلَکٌ سَاجِدٌ، أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ، یَزْدَادُونَ عَلَی طُول إلطَّاعَةِ بِرَبِّهمْ عِلْماً، وَتَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِی قُلُوبِهِمْ عِظَماً» .

الشرح والتفسیر

تطرق الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی صفات اُخری للملائکة (وکأنّ الإمام علیه السلام یوصی الناس بأنّکم إذا أردتم أن تصبحوا کالملائکة وتسلکوا سبیل القرب إلی اللّه، علیکم أن تتحلوا بهذه الصفات) فاشار علیه السلام بادیء ذی بدء إلی مقامهم فی توحید الأفعال وتوجههم الخاص إلی ربّهم وانصرافهم عمن سواه فقال علیه السلام: إنّهم جعلوا ذا العرش وحبّه وطاعته ذخیرة

ص:75


1- 1) موسوعة الإمام علی بن أبی طالب 9/202؛ بحارالأنوار 46/75. [1]

لیوم الفاقة وقد خلوا بکل کیانهم للخالق حین کرّس الخلق أفکارهم فی المخلوقات «قد اتخذوا ذا العرش ذخیرة لیوم فاقتهم، ویمموه (1)عند انقطاع الخلق إلی المخلوقین برغبتهم» «ذا العرش» إحدی صفات اللّه التی تدل علی ذروة عظمة ذاته سبحانه، وذلک لأنّ العرش أسمی موجودات عالم الخلقة. وقد اقتبست هذه الصفة من الآیة الشریفة: «ذُوالعَرْشِ یُلْقِی الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِیُنْذِرَ یَوْمَ التَّلاقِ» (2). نعم فلم یتعلق قلب هؤلاء سوی باللّه ولایرون من مصدر غیره للخیر والفضیلة والبرکة والنجاة فی هذا العالم، ولاینال المؤمن هدفه ما لم یسلک هذا السبیل لمعرفة اللّه، أمّا العبارة: «ذخیرة لیوم فاقتهم» فتفید وقوف الملائکة یوم القیامة للحساب وانتظار هم للآجر والثواب. ثم قال علیه السلام: «لایقطعون أمد غایة عبادته ولایرجع بهم الاستهتار (3)بلزوم طاعته إلّاإلی مواد (4)من قلوبهم غیر منقطعة من رجائه ومخافته» ، نعم فدوافع هؤلاء فی الطاعة والعبودیة إنّما یستقونها من مصدر خوف اللّه ورجائه الذی یضاعف معرفتهم باللّه وسلوک السبیل المؤدی إلی قربه. ولذلک أکد الإمام علیه السلام فی العبارة اللاحقة فی أنّ أسباب خوف اللّه لم تنقطع عنهم لیهنوا فی سعیهم وجدهم «لم تنقطع أسباب الشفقة منهم، فینوا (5)فی جدهم» ثم أردفها علیه السلام بالقول بأنّ الاطماع لم تأسرهم وتستحوذ علیهم لیقدموا سرعة سعیهم فی اُمور الدنیا علی جدهم فی اُمور الآخرة: «ولم تأسرهم الأطماع فیؤثروا وشیک (6)السعی علی اجتهادهم» أجل فالذی یضعف الإنسان فی طریق عبودیته الحق هو السقوط فی مخالب الأهواء والأطماع التی تعطل قواه وتصده عن طاعة ربّه.

ثم قال علیه السلام: فی صفة آخری من صفات الملائکة «لم یستعظموا ما مضی من أعمالهم،

ص:76


1- 1) «یمموا» من مادة «یم» قصدوه بالرغبة والرجاء عند ما انقطع الخلق سواهم إلی المخلوقین، ومنه «التیمم» الذی یقصد فیه الإنسان ضرب یدیه بالتراب ومسح ظاهرها وجبهته به.
2- 2) سورة غافر/15. [1]
3- 3) «الاستهتار» مصدر بمعنی اللامبالاة والحرص علی المخالفة، واصله «الهتر» علی وزن الستر بمعنی الحماقة والجهل.
4- 4) «مواد» جمع «مادة» أصلها من «مد» البحر إذ زاد، فالمواد تعنی الزیادة.
5- 5) «ینوا» من مادة «ونی» علی وزن رمی بمعنی الضعف والفتور.
6- 6) «وشیک» من مادة «وشک» بمعنی السرعة.

ولو استعظموا ذلک لنسخ الرجاء منهم شفقات وجلهم» فالعبارة درس عظیم لکافة الأفراد فی استصغار أعمالهم عند اللّه، وذلک أنّهم إذا أکبروا هذه الأعمال تعلقوا بها وازداد أملهم بها فیفتروا فی سعیهم؛ الأمر الذی یسلبهم خوف اللّه الذی یعتبر من أحد العوامل المهمة للحرکة نحو الکمال. وبغض النظر عما سبق فما عساناً أن نکون وما أعمالنا التی تلیق بساحة الربوبیة المطلقة. کان الحدیث فی بعض الصفات السابقة عن عدم اعجاب الملائکة بأعمالها ونفسها، وجری الحدیث هنا عن تأثیر الاعجاب فی تغلب الرجاء علی الخوف؛ الأمر الذی یصد أصحاب الحق عن مواصلة مسیرتهم و یمنعهم من التکامل، وذلک لأنّ الإنسان إذا شعر بکبر أعماله عند اللّه، راوده الشعور بانه دائن، ومن رأی نفسه دائنا اکتفی بما أتی من أعمال وتخلف عن سلوک سبیل التکامل.

ثم واصل علیه السلام کلامه بالحدیث عن سائر خصائص الملائکة التی یحتاجها الإنسان بشدة، ومنها عدم اختلافهم فی ربّهم، ثم یعزی الإمام علیه السلام هذا الاختلاف إلی الوساوس الشیطانیة أحیانا، أو الرذائل الأخلاقیة أحیاناً اُخری. فقال علیه السلام: «لم یختلفوا فی ربّهم باستحواذ الشیطان علیهم» فالعبارة تحمل رسالة واضحة للجمیع، وهی أنّ مصدر اختلاف المذاهب والأدیان إنّما یعود بالدرجة الأساس إلی الوساوس الشیطانیة، وذلک لأنّ الاختلاف - لاسیما إن کان عقائدیاً - إنّما یفضی لأنواع النزاعات والحروب والاضطرابات؛ الأمر الذی یهدد مصیرالإنسان ویقضی علی سعادته. ثم أشار علیه السلام بعد ذلک إلی العوامل الداخلیة والرذائل الأخلاقیة التی تؤدی إلی الاختلاف، وإن التعامل السییء لم یفرق هذه الملائکة، ولم یبعدها الحسد عن بعضها، کما أن الشک والتردید لم یفرقها ویشتت أمرها: «ولم یفرقهم سوء التقاطع، ولاتولاهم عن التحاسد، ولاتشعبتهم مصادر الریب، ولا اقسمتهم أخیاف (1)الهمم» فالواقع هو أنّ عمدة عوامل الاختلاف قد بینت فی هذه العبارات القصیرة. فلو تعامل الأفراد مع بعضهم البعض الآخر بشکل صحیح وفق معاییر الادب، لحیل دون أغلب

ص:77


1- 1) «أخیاف» من مادة «خیف» علی وزن هدف و هو فی الأصل ما انحدر من سفح الجیل، و ارید به هنا سواقط الهمم. و تعنی إختلاف العینین مثلاً واحدة زرقاء و أخری سوداء، ثم أطلقت علی کل إختلاف.

الخلافات التی یفرزها سوء التعامل. وذا لم یحسد بعضهما البعض الآخر لاجتث العامل المهم الآخر من عوامل الخلاف والشقاق. وإن طرحوا عنهم الشکوک فی مختلف المسائل وتعاملوا مع ما یواجههم استناداً إلی العلم والمعرفة لحد من نسبة الخلاف. وأخیراً لو أذعن الجمیع لاختلاف الأفکار والتوجهات وتشعب الاذواق والآراء لقل حجم التقاطع والانفصال، فقد شاء اللّه أن یخلق الناس علی أنواع واختلاف فی الأفکار والتطلعات، ولو هم کل أحد بفرض آرائه علی الآخرین، فمن الیقین لتعذر عیش شخصین إلی جانب بعضها دون بروز حالة من التوتر والاضطراب. صحیح أن لیس للملائکة من شهوات کما للإنسان، وأنّ أغلب دوافع الذنب والمعصیة لیست متوفرة فیهم. إلّاأنّهم علی کل حال قد زودوا بالعقل والشعور والاختیار وحب الذات والقدرة علی المعصیة والتمرد علی الطاعة. إلّاأنّ عرفان الملائکة باللّه حال دون ارتکابها للذنب؛ وذلک أنّ مقارفتها للذنب والمعصیة کلما کانت متعذرة، کانت جدیرة بکل هذا المدح والتمجید وجعلها أسوة للاقتداء بها من قبل الناس. وبناء علی هذا فانّ الإنسان إذا بلغ هذه الدرجة من الکمال والمعرفة کان له أن یصون نفسه من التلوث بالذنب. ثم قال علیه السلام: فی ختام الکلام علی سبیل نتیجة قصیرة بلیغة «فهم اسراء ایمان لم یفکهم من ربقته زیغ (1)ولا عدول ولا ونی (2)ولافتور» ، فالتعبیر بالاسراء والربقة (الحبل ذو الحلقات المتعددة) یفید مدی التزام الملائکة بالإیمان، فقد سبحوا فی بحار معرفة اللّه وسلموا لذاته المطلقة وکأنّهم لفوا أعناقهم بطوق محکم من الإیمان، ولایستطیع أی عامل أن یرفع هذا الطوق من أعناقهم، ولو عاش الناس مثل هذا التسلیم للحق والالتزام بالإیمان، لما وسع دوافع الذنب والمعصیة أن تتسلل إلی وجودهم قط. ثم اختتم الإمام علیه السلام کلامه بهذا الشأن بالحدیث عن مسألة اُخری وهی کثرة الملائکة وسعة معرفتها، حیث یختتم هنا شرحه لصفات الملائکة، بحیث لایوجد، أدنی موضع فی السماء إلّاوقد شغل بملک ساجد، وآخر ساع حافد منهمک فی أداء مسؤولیته، ومن شأن هذه الطاعة أن تضاعف معرفتهم لربّهم، کما تزداد عزة ربّهم فی قلوبهم عظمة:

ص:78


1- 1) «زیغ» من مادة «زیغ» علی وزن فیض الاعوجاج.
2- 2) «ونی» من مادة «ونی» بمعنی الضعف کما مر علینا سابقاً.

«ولیس فی أطباق السماء موضع إهاب (1)إلّاوعلیه ملک ساجد أو ساع حافد (2)یزدادون علی طول الطاعة بربّهم علماً، وتزداد عزة ربّهم فی قلوبهم عظماً» .

فالعبارات تفید کثرة عدد الملائکة من جانب بحیث ملأت جمیع أقطار السموات بما فیها مدبرات الأمر وامناء الوحی والمنهمکین بالطاعة والعبودیة. من جانب آخر فان کلا الطائفتین من الملائکة لکثرة طاعتها لربّها إنّما تزداد یوما بعد آخر علما ومعرفة فیصبحوا أکثر قربا للّه ومعرفة به. وهذا درس آخر للناس لیعلموا أنّ الطاعة والتقوی سبب ازدیاد العلم والمعرفة والتعرف علی صفات اللّه الجمالیة والجلالیة. والواقع هو أنّ هنالک تأثیر متبادل بین الطاعة والتقوی والمعرفة حیث تحکمهما علاقة طردیة، فالمعرفة تقود إلی الطاعة، کما أنّ الطاعة تکون سببا للعلم والمعرفة الأعمق والأشمل. فقد ورد فی الحدیث أنّ رجلاً سأل الإمام الصادق علیه السلام: هل الملائکة أکثر أم الناس؟ فاجاب علیه السلام: «والذی نفسی بیده لعدد ملائکة اللّه فی السموات أکثر من عدد التراب فی الأرض؛ وما فی السماء من موضع قدم إلّاوفیها ملک یسبحه ویقدسه» (3).

تأمّل: الناس والملائکة ثانیة

بین الإمام علیه السلام فی هذا الخطبة صفات الملائکة بصورة واسعة جداً، وبالطبع فانّ هنالک هدفا مهما کان ینشده الإمام علیه السلام من ذلک. ویبدو أنّ للإمام علیه السلام هدفان هما: ذلک المطلب الذی وردت من أجله الخطبة ویکمن فی معرفة الصفات بعیدا عن الشرک سواء عن طریق التشبیه أو التعطیل.

والآخر هو سوق الإنسان نحو الملائکة والتحلی بصفاتها؛ ومنها أنّهما کها بالعبادة والطاعة والتواضع والخضوع واتباع الأوامر؛ فلا یکلون ولایتعبون ولایفترون، ولیس بینهم من

ص:79


1- 1) «أهاب» جلد الحیوان، أو الجلد المدبوغ.
2- 2) «حافد» من مادة «حفد» السرعة فی العمل.
3- 3) تفسیر القمی 2/255. [1]

أحقاد وضغائن وحسد، کما لیس بینهم اختلاف وتفرق وتشتت، وأخیراً لایکبرون أعمالهم ولایتسلل إلیهم الیأس والقنوط، ولایفکرون سوی فی اللّه وطاعته. صحیح أن خلق الإنسان یختلف تماماً وخلق الملائکة، فالعقل هو الذی یحکم الملائکة، بینما رکبت إلی جانبه الشهوة فی الإنسان. إلّاأنّ هذا الإنسان الخلیط من الصفات الحیوانیة والعقلائیة قد ینحدر حتی یکون کالحیوان الوحشی الکاسر «بَلْ هُمْ أَضَلُّ» ، کما یمکنه أن یتسامی بفضل ما زود به من استعدادات لیفوق الملائکة فیبلغ مرتبة لاتتسنی لغیره «فَکانَ قابَ قَوْسَیْنِ أَوْ أَدْنی» ، ومن هنا یمکن للملائکة أن تکون قدوة للإنسان.

من جانب آخر فانّ العلم. بحضور الملائکة فی أرجاء العالم - بحیث لیس هنالک شبراً فی هذا العالم المترامی الأطراف یخلو منها - دلالة مهمّة علی فعالیة التدبیر الإلهی فی هذا العالم؛ الأمر الذی لایخفی دوره فی المسائل التربویة. وناهیک عما سبق فانّ هذه الصفات تحمل رسالة مهمّة للإنسان وهی عدم الاغترار بالأعمال واستکثارها إذا ما وقف بین یدی ربّه للصلاة أو ناجی ربّه وتضرع إلیه، بل إن نهض فی جوف اللیل وصلی والناس نیام. فیطرد عن نفسه هذه الأفکار الشیطانیة، فالذات الإلهیة مطلقة غنیة لیست بحاجة إلی العبادة، بغض النظر عن کثرة عدد الملائکة التّی تتقلب فی طاعة اللّه ساجدة وراکعة وقائمة. والحق أنّ قدراً من الدقة والتمعن فی الصفات التی أوردها أمیرالمؤمنین علی علیه السلام بشأن الملائکة لتأخذ بید الإنسان إلی عالم النور والعرفان وتوقفه علی صغر أعماله وطاعاته وتعرفه بسر القرب من اللّه والفوز برضوانه. وتکشف النقاب عن عدم عبثیة شدة قرب الملائکة من اللّه، إلی جانب عدم بلوغ الإنسان أهدافه المعنویة الرفیعة المرسومة له دون السعی والجد والاجتهاد والطاعة.

فقد ورد فی الحدیث عن الإمام الصادق علیه السلام حین سأله أحد أصحابه وهو عبداللّه بن سنان: أیّهما أفضل الملائکة أم بنی آدم؟ قال علیه السلام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام: «إنّ اللّه رکب فی الملائکة عقلاً بلا شهوة، ورکب فی البهائم شهوة بلا عقل، ورکب فی بنی آدم کلتیهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خیر من الملائکة ومن غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم» (1).

ص:80


1- 1) وسائل الشیعة 11/164 ح 2. [1]

طبعاً لایعنی هذا الحدیث أنّ الملائکة لاتملک لنفسها اختیاراً، أو أنّها تخلو من عوامل الذنب والمعصیة، فعدم وجود الشهوة فی الملائکة إنّما یحول دونها ودون بعض دوافع الذنوب لا جمیعها.

ص:81

ص:82

القسم السابع عشر: ظهور الیابسة و استقرار البحار

«کَبَسَ الأَرْضَ عَلی مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ، وَلُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَةٍ، تَلْتَطِمُ أَوَاذِیُّ أَمْوَاجِهَا، وَتَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِها، وَتَرْغُوا زَبَداً کَالْفُحُولِ عِنْدَ هِیَاجِهَا، فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتلاَطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا، وَسَکَنَ هَیْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِکَلْکَلِهَا، وذَلَّ مُسْتَخْذِیاً، إِذْ تَمَعَّکَتْ عَلَیْهِ بَکَوَاهِلِهَا، فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ، سَاجِیاً مَقْهُوراً، وَفِی حَکَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِیراً، وَسَکَنَتِ الأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِی لُجَّةِ تَیَّارِهِ، وَرَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَإعْتِلاَئِهِ، وَشَمُوخِ أَنْفِهِ وَسُمُوِّ غُلَوَائِهِ، وَکَعَمَتْهُ عَلَی کِظَّةِ جَرْیَتِهِ، فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ، وَلَبَدَ بَعْدَ زَیَفَانِ وَثَبَاتِهِ» .

الشرح والتفسیر

مرّ علینا فی الخطبة الاولی من نهج البلاغة ما أورده الإمام علیه السلام بشأن خلق الأرض فقال: ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء، وشق الأرجاء، وسکائک الهواء، فأجری فیها ماء متلاطماً تیاره، متراکماً زخاره، حمله علی متن الریح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها برده، وسلطها علی شده. . . فسوی منه سبع سموات.

وقد أشار الإمام علیه السلام هنا فی هذا الموضع من الخطبة إلی ذلک الأمر الذی ذکره سابقاً فی أطار عرضه لخلق الأرض بعبارات جدیدة رائعة فقال علیه السلام: «کبس (1)الأرض علی مور (2)أمواج

ص:83


1- 1) «کبس» بالفتح من مادة «کبس» علی وزن حبس بمعنی الأغلاق والضغط.
2- 2) «مور» علی وزن غور التحرک الشدید والهیجان والاضطراب.

مستفلحة (1)، ولجج بحار زاخرة (2)تلتطم أو اذی (3)أمواجه، وتصطفق (4)متقاذفات (5) أثباجها (6)وترغوا (7)زبداً کالفحول عند هیاجها» ، ولعل هذه العبارات من قبیل الأمواج والبحار وأمثال ذلک ممّا کان موجوداً قبل بدایة الخلق، أی فی ذلک الزمان الذی لم یکن فیه الماء، بل حتی اللیل والنهار، إشارة إلی المواد المذابة التی کانت موجودة قبیل انبثاق الخلیقة وقد تلاطمت وتلاشت إثر وقوع الانفجارات العظیمة، فظهرت الرغوات الواسعة علی هذه المواد المذابة ثم قذفت فی الفضاء لتکون الأرض والکواکب والسیارات، ثم أشار الإمام علیه السلام إلی مرحلة اُخری من مراحل ظهور العالم فقال: «فخضع جماح (8)الماء المتلاطم لثقل حملها، وسکن هیج ارتمائه إذ وطئته بکلکلها (9)، وذل مستخذیا إذ تمعکت (10)علیه بکواهلها (11)» ، ثم أردف الإمام علیه السلام ذلک بقوله: «فاصبح بعد اصطخاب (12)أمواجه، ساجیاً (13)مقهوراً، وفی حکمة (14)الذل منقادا أسیراً» ، فالذی یستفاد من هذه العبارات أنّ ظهور الأرض (وسائر

ص:84


1- 1) مستفلحة من مادة استفحال الهائجة التی یصعب التغلب علیها.
2- 2) «زاخرة» من مادة «زخر» علی وزن فخر بمعنی الملییء.
3- 3) «أو اذی» جمع أذی علی وزن قاضی الموج أو أعلاه.
4- 4) «تصطفق» من مادة «صفق» علی وزن سقف بمعنی ضرب الشیء بآخر مصحوباً بالصوت، واصطفقت الأشجار اهتزت بالریح.
5- 5) «متقاذفات» من مادة «قذف» علی وزن حذف النزاع وقذف شیء علی آخر.
6- 6) «أثباج» جمع «ثبج» بالتحریک وهو فی الأصل ما بین الکاهل والظهر، استعارة لأعلی الموج، التی یقذف بعضها بعضها.
7- 7) «ترغو» من مادة «رغو» علی وزن نقد ومنه الرغوة ما یطفو علی اللبن وأرید بها هنا العناصر المکونة للأرض والتی ظهرت علیها مادة مذابة فی البدایة.
8- 8) «جماح» طغیان الفرس ثم اطلق علی کل شیء شبیه ذلک.
9- 9) «کلکل» یعنی الصدر.
10- 10) «تمعکت» من مادة «معک» ، تمعکت الدابة تمرغت فی التراب.
11- 11) «کواهل» جمع «کاهل» أعلی الظهر وقرب العنق.
12- 12) «اصطخاب» من مادة «صخب» علی وزن وهب بمعنی ارتفاع الصوت وتستعمل حین تختلط أصوات الطیور والضفادع مع بعضها، ووردت هنا بشأن اختلاط الأمواج مع بعضها.
13- 13) «ساجی» بمعنی ساکن من مادة «سجو» علی وزن هجو.
14- 14) «حکمة» من مادة «حکم» علی وزن حتم تعنی فی الأصل الاعادة والمنع وتطلق علی ما أحاط بحنکی الفرس من لجامه. وتطلق الحکمة علی العقل والعلم، لأنّها تمنع الإنسان من السیئات والانحرافات.

الکرات السماویة) علی المادة المذابة الاولی کان سببا لاستقرارها بالتدریج وکبح جماحها واضطرابها. کما یحتمل أن تکون هذه العبارات إشارة إلی الأمطار والسیول فی بدایة ظهور الکرة الأرضیة، بحیث شکلت محیطات متلاطمة، إلّاأنّ هذه الأمواج أخذت بالاستقرار نسبیاً علی سطح المحیطات بفعل الجاذبیة الأرضیة. حتی أخذت تظهر الیابسة، من هنا قال لاحقابان الأرض قرت وظهرت یبوستها شیئاً فشیئاً وحد من حرکات الماء حتی سکن وقر فی مکانه «وسکنت الأرض مدحوة (1)فی لجة تیاره، وردت من نخوة بأوه (2)واعتلائه، وشموخ (3)أنقه، وسمو غلوائه (4)وکعمته (5)علی کظة (6)جریته (7)فهمد (8)بعد نزقاته (9)، ولبد (10)بعد زیفان (11)وثباته (12)» ، وهکذا خمدت العواصف الاولی وقطعت الأمطار والسیول ثم هدأت تلک الامواج، فتأهبت الأرض لتقبل الحیاة علیها، وهذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام فی المقطع القادم. وهنا لابدّ من القول بانّ بعض شرّاح نهج البلاغة ذهبوا إلی أنّ الماء قد وجد قبل خلق الکرة الأرضیة، إلّاأنّه کما أشیر سابقاً أنّ التعبیر بالماء یمکن أن یکون إشارة إلی المواد المذابة السیالة التی وجدت قبل ظهور السماء والأرض.

ص:85


1- 1) «مدحوة» من مادة «دحو» بمعنی مبسوطة.
2- 2) «بأو» علی وزن نحو الکبر والزهو والفخر.
3- 3) «شموخ» بمعنی الکبر والغرور.
4- 4) «غلواء» من مادة غلو النشاط و الطموح و تجاوز الحد.
5- 5) «کعم» من مادة «کعم» علی وزن طعم، کعم البعیر شد فاه لئلا یعفی أو یأکل، وما یشد به کعام.
6- 6) «کظة» بالکسر ما یعرض من امتلاء البطن بالطعام، ویراد بها هنا ما یشاهد فی جری الماء من ثقل الاندفاع.
7- 7) «جریة» بمعنی الجریان.
8- 8) «همد» من مادة «همود» بمعنی اخماد حرارة النار.
9- 9) «نَزَقات» من مادة «نزق» الخفة والطیش.
10- 10) «لبد» من مادة «لبود» الوقوف فی مکان.
11- 11) «زیفان» التبختر فی المشیة.
12- 12) «وثبات» جمع «وثبة» القفز وقد وردت فی العبارة بمعنی حرکة الأرض الشدیدة فی الأیام الاولی.

ص:86

القسم الثامن عشر: ظهور الجبال والعیون

اشارة

«فَلَمَّا سَکَنَ هَیْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَکْنَافِهَا، وَحَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَی أَکْتَافِهَا، فَجَّرَ یَنَابِیع الْعُیُونِ مِنْ عَرَانِینِ أنوفها، وَفَرَّقَهَا فِی سُهُوبِ بِیَدِهَا وَأَخَادِیدِهَا، وَعَدَّلَ حَرَکاتِهَا بِالرَّسِیَاتِ مِنْ جَلاَمِیدِهَا، وَذَوَاتِ الشَّنَاخِیبِ الشُّمِّ مِنْ صَیَاخِیدِهَا، فَسَکَنَتْ مِنَ الْمَیَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِی قِطَعِ أَدِیِمَها، وَتَغَلغُلِهَا مُتَسَرِّبَةً فِی جَوْبَاتِ خَیَاشِیمِهَا، وَرُکُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الأَرَضِینَ وَجَرَاثِیمِهَا، وَفَسَخَ بَیْنَ الْجَوِّ وَبَیْنَها، وَأَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاکِنِهَا، وَأَخْرَجَ إِلَیْهَا أهْلَهَا عَلَی تَمَامِ مَرَافِقِها» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة - بعد أن شرح کیفیة ظهور الأرض - إلی مسألة ظهور العیون والآثار المهمة للجبال فی استقرار الأرض ومن علیها، فتطرق إلی أهم أسباب الحیاة علی الأرض وفی مقدمتها الماء والسکون والاستقرار فقال علیه السلام: «فلما سکن هیج الماء من تحت أکنافها، وحمل شواهق (1)الجبال الشمخ (2)البذخ (3)علی أکتافها، فجر ینابیع العیون من عرانین (4)أنوفها وفرقها فی سهوب (5)بیدها (6)و أخادیدها (7)» فالعبارة تفید أن اؤل

ص:87


1- 1) «شواهق» جمع «شاهق» العالی والمرتفع.
2- 2) «شمخ» جمع «شامخ» و «بذخ» جمع «باذخ» العال والرفیع.
3- 3) شمخ جمع شامخ وبذخ جمع باذخ العال والرفیع.
4- 4) «عرانین» جمع «عرنین» علی وزن عشرین وهو ما صلب من عظم الأنف.
5- 5) «سهوب» جمع «سهب» علی وزن فهم الفلاة.
6- 6) «بید» جمع «بیداء» بمعنی الأرض الفلاة.
7- 7) «أخادید» جمع «اخدود» الحفرة الکبیرة.

ما ظهر علی الأرض الجبال ثم تبعتها العیون؛ الأمر الذی أیدته أبحاث علم طبقات الأرض حیث تشققت القشرة الأرضیة فی البدایة إثر البرودة، فکان فی تلک الشقوق حفر عظیمة استوعبت الماء النازل من السماء ثم جری بشکل عیون و ینابیع. والعبارة «عرانین أنوفها» التی تعنی ما صلب من عظم الانف، هی کنایة رائعة عن قمم الجبال، بل أن تشبیه نتوءات الجبال بالانف تشبیه رائع یدل علی أنّ جوف الجبل لیس مملوءاً، بل فیها المزید من الأجزاء الخالیة بحیث تبدوا أحیاناً للعیان علی هیئة غیران وکهوف ومصادر لادخار المیاه.

ثم اشار علیه السلام إلی سکون الأرض والسیطرة علی حرکتها بالجبال، فقال: «وعدل حرکاتها بالراسیات (1)من جلامیدها (2)وذوات الشناخیب (3)الشمّ (4)من صیاخیدها (5)» .

وهکذا سکنت حرکات الأرض بفعل نفوذ الجبال فی سطحها ورسوخها فی الأعماق واستقرارها علی الفلاة فحالت دون اضطرابها: «فسکنت من المیدان (6)لرسوب الجبال فی قطع أدیمها (7)وتغلغها (8)متسربة (9)فی جوبات (10)خیاشیمها (11)، ورکوبها أعناق سهول الأرضین وجراثیمها (12)» .

والحق أنّ ما أورده الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة هو ذات ما أثبته العلم الطبیعی؛ الأمر الّذی أشار إلیه القرآن الکریم فی أنّ الجبال بمثابة مسامیر الأرض: «وَالجِبالَ

ص:88


1- 1) «الراسیات» جمع «راسیة» بمعنی الثقیل والمحکم.
2- 2) «جلامید» جمع «جلمود» الحجر الصلد.
3- 3) «شناخیب» جمع «شنخوب» رأس الجبل.
4- 4) «الشم» جمع «أشم» بمعنی العالی والمرتفع.
5- 5) «صیاخید» جمع «صیخود» علی وزن محمود الصخرة الشدیدة.
6- 6) «میدان» بالتحریک الاضطراب.
7- 7) «أدیم» یعنی فی الأصل الجلد المدبوغ ثم اطلق علی سطح الأرض.
8- 8) «تغلغل» المبالغة فی الدخول.
9- 9) «متسربة» من مادة «تسرب» الدخول خفیة.
10- 10) «جوبات» «جوبة» علی وزن توبة الحفرة.
11- 11) «خیاشیم» جمع «خیشوم» علی وزن زیتون وهو منفذ الأنف إلی الرأس.
12- 12) «جراثیم» جمع «جرثومة» المراد هنا ما سفل عن السطوح من الطبقات الترابیة.

أَوْتاداً» (1)، کما صرح القرآن قائلاً: «وَأَلْقی فِی الأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِکُمْ» (2). طبعا هناک عدة فوائد اُخری للجبال؛ ومنها خزن المیاه التی تخرج منها أحیاناً کعیون، وأحیاناً اُخری علی هیئة صقیع کثیر ذاب ماءاً فشکل الأنهار، ناهیک عن سائر فوائد التی ذکرناها فی شرح الخطبة الاولی فی المجلد الأول من هذا الکتاب. ثم أشار علیه السلام إلی اُمور مهمّة اُخری لاعداد الأرض بغیة عیش الإنسان وممارسة حیاته علیها، فی أنّ الله جعل فاصلة بین الأرض والجو، وأعد الهواء والنسیم إلی جانب توفیر کافة ما یحتاج إلیه سکنة الأرض: «وفسح بین الجو وبینهما، وأعد الهواء متنسما (3)لساکنها، وأخرج إلیها أهلها علی تمام مرافقها (4)» ، فقد ضمنت هذه العبارة أشاره إلی الأرکان الأصلیة للحیاة ومعیشة الإنسان والحیوان، وفی مقدمتها الهواء، أو بعبارة اُخری الاو کسجین الذی لایستغنی عنه الإنسان لبضع (دقائق حیث یموت إذا قطع عنه. إلّاأنّ الحق سبحانه وتعالی خلقه بکمیة کافیة وفی جمیع الاماکن بحیث یحصل علیه الإنسان دون أدنی جهد أو تعب. کما یحصل علیه الجمیع علی السواسیة غنیهم وفقیرهم وکبیرهم وصغیرهم وعجوزهم وفتاهم وعاجزهم وناشطهم. ثم أشار علی نحو الاجمال إلی کل ما یلزم الإنسان والحیوان للمعیشه علی الأرض بعبارة قصیرة أوجزها فی المفردة «المرافق» . أمّا ما المراد بالجو فی العبارة الذی فصله الله عن الأرض، فقد قال البعض المراد به الفضاء، ولمالم یکن الفضاء جسما أو مادة فلا یبدو التعبیر با یجاد الفاصلة بینه وبین الأرض مناسبا. و یمکن أن یکون المراد بالجو الطبقات التی وراء الهواء، کطبقة الأوزون التی لایمکنها تلبیة الحاجة التنفسیة للإنسان لو کانت فاصلتها مع الأرض قلیلة، وکانت الطبقة الجویة رقیقة. أضف إلی ذلک فانها تدعو إلی اضطراب سائر شرائط حیاة الإنسان وکافة الأحیاء علی الأرض.

تأمّل: أسرار خلق الجبال

ص:89


1- 1) سورة النباء/7.
2- 2) سورة النحل/15. [1]
3- 3) «متنسم» من مادة «نسیم» هبوب الریاح المعتدلة. وعلیه متنسم (بصیغة اسم مفعول) بمعنی الهواء الصالح للتنفس.
4- 4) «مرافق» جمع «مرفق» علی وزن مکتب کل ما یحتاج الإنسان ویستفید منه، وهذا هو المعنی المراد فی الخطبة. کما ورد بمعنی مرفق الید.

لقد أعد الحکیم سبحانه بمقتضی قدرته وعلمه کافة أسباب الحیاة ومتطلبات العیش والوسائل التی یحتاجها الإنسان قبل خلقه؛ الأمر الذی أشارت الخطبة إلی جانب منه، ومن ذلک استقرار الأرض، فلو کانت القشرة الأرضیة فی حالة حرکة لتعذرت الحیاة علیها، و الآخر توفیر الهواء بهذه الصورة الواسعة حیث یعتبر مادة الحیاة فی السفر والحضر وفی البیت وخارجه وفی الیقظة والمنام وهو معه أینما کان، وتوفیر المیاه والعیون وجعلها تحت تصرف الإنسان، إلی جانب نزول الأمطار التی تروی کافة المواضع المرتفعة والعالیة وترویها بالمیاه، وهذا ما سیأتی ذکره فی الأقسام القادمة من الخطبة.

وظهور الجبال التی تلعب دوراً مهما فی حیاة الإنسان، بل یمکن القول أنّ الحیاة البشریة مهددة بالاخطار لولا هذه الجبال للأسباب التالیة.

أولاً: دورها فی الحیلولة دون اضطراب الأرض بفعل الضغط الداخلی.

ثانیاً: الحیولة دون عدم استقرار الأرض إثر الضغط الخارجی الناجم عن جاذبیة الشمس والقمر وظاهرة المد والجزر الناشئة عنهما.

ثالثاً: کونها الملجأ الأمن ازاء العواصف التی تهدد کل مقومات وعناصر حیاة الإنسان.

رابعاً: وسیلة لایقاف السحب ونزول الأمطار.

خامساً: عامل مهم لادخار المیاه بصورة صقیع متراکم فی سطحها الخارجی بحیث تتحول بالتدریج إلی ماء طیلة السنة.

سادساً: موضع للآبار الجوفیة التی تختزن فی حفر عظیمة داخلها وتجری کعیون.

سابعاً: تمنع الاصطدام الشدید للهواء بطبقة الأرض.

ثامناً: تجعل الأرض قابلة للاستفادة العملیة، وبالنظر لاختلاف درجات حرارة وسط الجبال ونقاطها العلویة والسفلیة فانها توفر مناخاً مناسباً لنمو مختلف النباتات والمحاصیل.

تاسعاً: انها مراکز للمعادن العظیمة التی تلعب دوراً مهما فی حیاة الإنسان.

عاشرا: یستخرج منها بعض المواد المهمّة فی البناء ولاسیما الحجر.

ومن هنا عدها القرآن الکریم من النعم العظیمة ذات الفوائد الکثیرة، فقال «وَهُوَ الَّذِی مَدَّ الأَرضَ وَجَعَلَ فِیها رَواسِیَ وَأَنْهاراً وَمِنْ کُلِّ الَّثمَراتِ جَعَلَ فِیها زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ» (1).

ص:90


1- 1) سورة الرعد/3. [1]

القسم التاسع عشر: إحیاء الأرض المیتة بالسحب الممطرة

اشارة

«ثُمَّ لَمْ یَدَعْ جُرُزَ الأَرْضِ الَّتِی تَقْصُرُ مِیَاهُ الْعُیُونِ عَنْ رَوَابِیهَا، وَلاَ تَجِدُ جَدَاوِلُ الأَنْهَارِ ذَرِیعةً إِلی بُلُوغِهَا، حَتَّی أَنْشَأَلَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْیِی مَوَاتَهَا، وَتَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْد افْتِرَاقِ لُمَعِهِ، وَتَبَایُنِ قَزَعِهِ، حَتَّی إِذَا تمخضت لُجَّةُ الْمُزْنِ فِیهِ، وَالْتَمَعَ بَرْقُهُ فِی کُفَفِهِ، وَلَمْ یَنَمْ وَمِیضُهُ فِی کَنَهْوَرِ رَبَابِهِ، وَمُتَرَاکِمِ سَحَابِهِ، أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِکاً، قَدْ أَسَفَّ هَیْدَبُهُ، تَمْرِیهِ الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِیبِهِ، وَدُفَعَ شَآبِیبِهِ. فَلَمَّآ أَلْقَتِ السَّحابُ بَرْکَ بِوَانَیْهَا، وَبَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ المَحْمُولِ عَلَیْهَا، أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الأَرْضِ النَّبَاتَ، وَمِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الأَعْشَابَ، فَهِی تَبْهَجُ بِزِینَةِ رِیَاضِهَا وَتَزْدَهِی بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَیْطِ، أَزَاهِیرِهَا، وَحِلْیَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا، وَجَعَلَ ذلِکَ بَلاَغاً لِْلأَنَامِ، وَرِزْقاً لِْلأَنْعَامِ، وَخَرَقَ الْفِجَاجَ فِی آفَاقِهَا، وَأَقَامَ المَنَارَ لِلسَّالِکینَ عَلَی جَوَادِّ طُرُقِهَا» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی نعمة مهمّة اُخری لا تتمّ الحیاة بدونها علی سطح الأرض، حیث شرحها بعبارات لطیفة رائعة، فقال علیه السلام: «ثم لم یدع جرز (1)الأرض التی تقصر میاه العیون عن روابیها (2)، ولاتجد جداول الأنهار ذریعة إلی بلوغها، حتی أنشأ لها

ص:91


1- 1) «جرز» ؛ تطلق علی الأرض التی تمر علیها میاه العیون فتنبت.
2- 2) «روابی» جمع «رابیة» من مادة «ربو» علی وزن غلو مرتفعات الأرض.

ناشئة السحاب تحیی، مواتها وتستخرج نباتها» .

الجدیر بالذکر أنّ الإمام علیه السلام أشار بصورة عابرة إلی الاقسام الثلاثة للری والسقی: السقی الطبیعی بواسطة العیون الملیئة بالمیاه، والسقی عن طریق الجدوال والآبار وتوجیه میاه الأنهار الطبیعیة، والسقی عن طریق الأمطار الأهم من کل ذلک، وذلک لوجود بعض المناطق فی الأرض التی یتعذر سقیها بغیر الأمطار، وهی المناطق الکثیرة، فلولا میاه الأمطار لماتت أجزاء واسعة من الأرض. اضف إلی ذلک فما لاشک فیه أنّ الأنهار والعیون إنّما تکتسب میاهها من الأمطار. علی کل حال فانّ السحب وبالتالی الأمطار تقوم بهذه المهمة فی السقی و التی کلفها بها اللّه فقال علیه السلام: «الف غمامها بعد افتراق لمعه (1)، وتباین قزعه (2)، حتی إذا تمخصت (3)لجة المزن (4)فیه والتمع برقه فی کففه (5)، ولم ینم ومیضه (6)فی کنهور (7)ربابه (8)، متراکم سحابه، أرسله سحاً (9)متارکاً، قد أسف (10)هیدبه (11)، تمریه (12)الجنوب درر (13)أهاضیبه (14)، ودفع شابیبه (15)» ، فقد استبطنت هذه العبارات عدّة مواضیع علمیة مهمة: ومنها الإشارة إلی مهمّة

ص:92


1- 1) «لمع» جمع «لمعة» علی وزن لقمة بمعنی قطعة من السحاب أو شیء آخر.
2- 2) «قزع» جمع «قزعة» علی وزن ثمرة القطعة من الغیم.
3- 3) «تمخضت» من مادة «مخض» علی وزن فرض، بمعنی الحرکة الشدیدة، مثل حرکة الشُکیة -و هو الوسیلة التی یخض فیها اللبن لفصل الزبد عنه -عند ما نرید فصل الزبد عن اللبن. و المخاض: یطلق علی حرکة الطفل الشدیدة فی بطن أمه فی حالة الطلق و الوضع.
4- 4) «مزن» السحب الماطرة.
5- 5) «کفف» جمع «کفه» علی وزن قبة حاشیة شیء واطرافه.
6- 6) و «میض» من مادة ومض علی وزن رمز التشعشع.
7- 7) «کنهور» القطع العظیمة من السحاب.
8- 8) «رباب» جمع «ربابة» السحاب الابیض.
9- 9) «سح» متلاحق متواصل.
10- 10) «أسف» من مادة إسفاف الدنو من الأرض.
11- 11) «هیدب» السحاب المتدلی الذی یقترب من الأرض.
12- 12) «تمری» من مادة «مری» من مری الناقة مسح علی ضرعها لیحلب لبنها.
13- 13) «درر» جمع «درة» اللبن.
14- 14) «أهاضیب» جمع «أهضوبة» الحلب المتواصل.
15- 15) «شابیب» جمع «شؤبوب» ما ینزل من المطر بشدة.

الریح التی تؤلف بین السحب المتفرقة المنبعثة من البحار لتتکون منها الأمطار الغزیرة. ثم تطرق علیه السلام إلی تجمع السحب والغیوم والضغط الذی تسلطه کل واحدة علی الأرض تأهباً لهطول الأمطار إلی جانب دور البرق فی ذلک الهطول، لاننا نعلم أنّ البرق إنّما یحصل من خلال الکهربائیة الموجبة والسالبة، فیجذب إلیه مقداراً کبیراً من الهواء ویقلل من ضغطه فاذا قلّ ضغط الهواء تمهدت الظروف لسقوط الأمطار. ثم واصل الإمام علیه السلام الکلام فی دور الریاح وأنّها بمثابة الأصابع التی تستخرج الحلیب من ضرع الثدی، فتفصل السحب والغیوم عن الهواء وتبعث بمیاه الأمطار هنا وهناک. فکل هذه الاُمور تشیر إلی أن الخالق الحکیم قد أعدّ جمیع المقدمات ودبر کافة الاسباب من أجل ری الاراضی المرتفعة والجافة. ثم أشار الإمام علیه السلام إلی آثار المطر علی الأرض وما ینطوی علیه من برکات وفوائد فقال: «فلما ألقت السحاب برک (1)بوانیها (2)وبعاع (3)ما أستقلت (4)به من العبث (5)المحمول علیه، أخرج به من هوامد (6)الأرض النبات، ومن زعر (7)الجبال الأعشاب» ، فقد أشارت هذه العبارات الرائعة إلی مسألة وهی أنّ السحب کأنّها حبلی فاذا هطلت الأمطار الثقلیة وضعت حملها؛ الحمل الذی یفیض الحیاة والبرکة والجمال لکی تشمل الصحاری الجرداء أطراف قمم و سفوح الجبال - التی یصعب علی الإنسان سقیها - فتخرج منها النباتات التی تعود بالفائدة علی الناس. ثم واصل علیه السلام حدیثه برسم صورة رائعة عن الطبیعة التی تتمخض عن ذلک المطر، فقال «فهی تبهج (8)بزینة ریاضها، وتزدهی (9)بما البسته من ریط (10)أزاهیرها (11)وحیلة ما سمطت (12)به من ناضر (13)أنوارها (14)» .

ص:93


1- 1) «برک» بالفتح مایلی الأرض من جلد صدر العبیر.
2- 2) «بوانی» مثنی «بوان» علی وزن لسان عمود الخیمة.
3- 3) «بعاع» بالفتح ثقل السحاب من الماء.
4- 4) «استقل» من مادة «استقلال» الحمل.
5- 5) «عِبء» الحمل.
6- 6) «هوامد» جمع «هامدة» من مادة «همود» انطفاء النار والهوامد من الأرض ما لم یکن بها نبات.
7- 7) «زعر» جمع «أزعر» الموضع القلیل النبات.
8- 8) «تبهج» من مادة «بهجت» سر وفرح.
9- 9) «تزدهی» من الأزدهاء العجب.
10- 10) «ریط» جمع «ریطة» الثوب الرقیق.
11- 11) «أزاهیر» جمع «زهرة» النبات.
12- 12) «سمطت» من مادة «سمط» التعلیق.
13- 13) «ناضر» من مادة «نضارة» النشاط، ولا سیما الحاصل من وفور النعمة.
14- 14) «أنوار» جمع «نور» البرعم والزهر.

ومن الواضع جداً دور الطبیعیة وجمالها فی صفاء روح الإنسان وإزالته لتعبه وارهاقه إلی جانب تفعیل قوته وطاقته؛ وعلیه فالحدیث لایقتصر علی مسألة الجمال، وإن کان هذا الجمال یمثل جانباً من جمال الحق سبحانه وجلاله؛ بل إنّ هذا الجمال یعد أحد عوامل بقاء الحیاة ودیمومتها، بل ذهب بعض العلماء إلی أهمیة دروه حتی فی نشاط الحیوانات. ثم قال علیه السلام بأنّ کل ذلک زاد ومتاع للإنسان ورزق للانعام: «وجعل ذلک بلاغاً (1)للأنام، ورزقاً للأنعام» ، فالإنسان لا یستفید من نعم الطبیعیة علی مستوی الغذاء فحسب، بل یؤمن عن طریقها لباسه ومسکنه ومرکبه، وبصورة عامة کافة حاجاته ومتطلباته. قال القرآن الکریم بهذا الشأن: «أَنّا صَبَبْنا الْماءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنا فِیها حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً* وَزَیْتُوناً وَنَخْلاً* وَحَدائِقَ غُلْباً * وَفاکِهَةً وَأَبّاً * مَتاعاً لَکُمْ وَلِأَنْعامِکُمْ» (2).

نعم فالإنسان لایتغذی علی النباتات وثمارها، وینسبح مفروشاته من مختلف ألیافها فحسب، بل یبنی بیوته من خشبها وینصب الخیام من ألیافها، کما یغطی أغلب حاجاته ومتطلباته عن طریق منتجات الحیوانات التی تتغذی علی النباتات. ثم اختتم خطبته علیه السلام بالاشارة إلی مسألة مهمّة اُخری خلقها الله فی الأرض من أجل الإنسان: «وخرق الفجاج (3)فی آفاقها وأقام المنار للسالکین علی جواد (4)طرقها» . فادنی نظرة إلی الأرض وکل بقعة من هذه الکرة الأرضیة یتضح من خلالها بأنّ الجبال لم تحول دون الحرکة علی الأرض أو بفصل بعض بقاعها عن البعض الآخر فحسب، بل جعل فی کافة مواضعها الاودیة والشقوق لا یصالها مع بعضها عن طریق السبل والجادات وما إلی ذلک: و قلما یلتفت الإنسان أنه لولا وجود هذه الجادات و الجبال العملاقة المتصلة مع بعضها و التی تشکل جدارا لمنع عبور الناس و الحیوانات و تقسم الأرض إلی إقسام متناثرة لتعرض لعظیم البلاء و عاش أشد الفاقة: «وَجَعَلْنا فِی الأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِیها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ

ص:94


1- 1) «بلاغ» من مادة «بلوغ» الوصول إلی الشیء وهو هنا ما یتبلغ به من قوت.
2- 2) سورة عبس/25 - 32. [1]
3- 3) «فجاج» جمع «فج» بمعنی الوادی بین الجبلین.
4- 4) «جواد» جمع «جادة» الطریق الواسع الواضح.

یَهْتَدُونَ» (1)، وقال: «وَمِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِیضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِیبُ سُودٌ» (2).

تأمّل: سعة قاعدة اللطف فی التکوین والتشریع

جرت عادة أهل التدبیر والحکمة علی توفیر کافة المقدمات والأسباب التی توصل إلی الهدف، ویتجلی هذا الأمر بأعظم أبعاده فی الخالق الحکیم سواء فی عالم التشریع والتکلیف، أم فی عالم العینیات والواقعیات، فقد أعد کافة الشرائط ومهد جمیع السبل فی عالم التکلیف من أجل الطاعة، حیث زود الإنسان بالعقل والذکاء والفطرة السلیمة وانزل الکتب السماویة وبعث الرسل والأنبیاء لیتسنی للعباد اتخاذ سبیل الطاعة؛ الأمر الذی اصطلح علیه باللطف فی علم الکلام. وفی عالم الخلق فانّ الله سبحانه أعد کافة وسائل الحیاة قبل أن یضع الإنسان قدمه علی هذا العالم، فقد أقر سطح الأرض وحال دون حرکاتها الطائشة بواسطة الجبال، وشق فیها الآبار والأنهار التی تعتبر مادة الحیاة، وسخر السحب لری المرتفعات، کما خلق مختلف النباتات التی یتغذی علیها الناس والحیوانات کما أوجد الجواد وسط الجبال لعبور الناس ومشیهم، وسهل للناس روابطهم الاجتماعیة، بل منح أرواحهم السکینة والهدوء بما زین به الطبیعة من ورود وأزهار. نعم هذا هو معنی الحکمة والتدبیر والربوبیة الذی أشار إلیه أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی هذا الموضع من الخطبة، والذی یعرف الإنسان بعلم الله وقدرته وحکمته من جانب، کما تثیر لدیه حس الشکر - مادة الطاعة والعبودیة -، وهوالأمر الذی ورد کراراً فی القرآن ومن ذلک فی سورة النحل بعد ذکره لخلق السموات والأرض والانعام ونزول الأمطار من السماء و خروج الاشجار و نمو الزرع و أنواع الثمار و الفاکهة و حرکة الشمس و القمر و خلق البحار علی أنها من نعمه التی لاتعد و لا تحصی. حیث قال: «وَأَلْقی فِی الأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِکُمْ وَ أَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ یَهْتَدُونَ» (3).

ص:95


1- 1) سورة الأنبیاء/31. [1]
2- 2) سورة فاطر/27. [2]
3- 3) سورة النحل/16 - 15. [3]

ص:96

القسم العشرون: خلق آدم وبعثة الأنبیاء

«فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ، وَأَنْفَذَ أَمْرَهُ، اخْتَارَ آدَمَ، عَلَیْهِ السَّلامُ، خِیرَةً مِنْ خَلْقِهِ وَجَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ وَأَسْکَنَهُ جَنَّتَهُ، وَأَرْغَدَ فِیهَا أُکُلَهُ، وَأَوْ عَزَ إِلَیْهِ فِیمَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ فِی الإِقْدَامِ عَلَیْهِ التَّعَرَّضَ لِمَعْصِیَتِهِ، وَالْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزَلَتِهِ؛ فَأَقْدَمَ َ عَلَی مَا نَهَاهُ عَنْهُ - مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ - فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِیَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ، وَلِیُقِیمَ الْحُجَّةَ رُبُوبِیَّتِهِ، وَیَصِلُ بَیْنَهُمْ وَبَیْنَ مَعْرِفَتِهِ، بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَی أَلْسُنِ الْخِیَرَةِ مِنْ أَنْبِیَائِهِ، وَمُتَحَمِّلِی وَدَائِعِ رِسَالاَتِهِ، قَرْناً فَقَرْناً؛ حَتَّی تَمَّتْ بِنَبِیِّنَا مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله حُجَّتُهُ، وَبَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَنُذُرُهُ» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة فی قضیة خلق آدم بعد خلق الأرض و إعدادها من جمیع النواحی، وأنّ الله سبحانه قد أعد الأرض وانفذ فیها أمره ثم اصطفی آدم علیه السلام من بین جمیع خلقه: «فلما مهد أرضه، وأنفذ أمره، اختار آدم علیه السلام، خیرة من خلقه، وجعله أول جبلته» (1)، والعبارة «أول جبلته» (أول مخلوقاته) یمکن أن یکون المراد بها الإنسان الأول من حیث الترتیب الزمانی، أو أول مخلوق من حیث الموقع.

والمقام، أو کلاهما.

ص:97


1- 1) «جبلة» بمعنی الطبیعة و الفطرة الإنسانیة (وقد اشتقت هذه الکلمة من مادة «جبل» حیث تابی هذه الفطرةالتغییر) .

ثم قال علیه السلام بأنّ الله سبحانه أسکن آدم جنته وزوده بمختلف الأطعمة والأشریة، ثم حذره ما حظر علیه والعاقبة الخطیرة لتجاوز أمره ونهیه علی مقامه وکرامته: «وأسکنه جنته، وأرغد فیها أکله، وأوعز (1)إلیه فیما نهاه عنه، وأعلمه أن فی الأقدام علیه التعرض لمعصیته، والمخاطرة بمنزلته» .

نعم فقد أسکن الله آدم علیه السلام فی جنّة أرضیة (جنّة غناء بالفاکهة من جنان الأرض، والشاهد علی ذلک قوله: «فلما مهد أرضه» ، ثم بین لآدم علیه السلام تکلیفه وأصدر له وأوامره ونواهیه وحذره من معصیته وعدم طاعة أوامره، والعبارات وان لم تصرح بالشجرة المنهیة، غیر أنّها بینت بصورة عامة؛ الأمر الذی ورد کراراً فی عدّه آیات قرآنیة ومنها الآیة: «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلی آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِیَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» (2)والآیة «وَقُلْنا یا آدَمُ اسْکُنْ أنْتَ وَزَوْجُکَ الجَنَّةَ وَکُلا مِنْها رَغَداً حَیْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَکُونا مِنَ الظّالِمِینَ» (3).

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بأنّ آدم وقع فی ما حذر منه: «فأقدم علی ما نهاه عنه، موافاة لسابق علمه» .

قد یبدو فی البدایة أنّ العبارة: «موافاة لسابق علمه» ، أنّ آدم علیه السلام - قد أجبر علی المعصیة وذلک لأنّ علم الله سبق فی هذا الأمر (وهذه هی الشبهة المعروفة لدی المجبرة فی مسألة العلم الأزلی لله سبحانه) ، ولکن کما ذکر نا ذلک سابقاً فی بحث الجبر والتفویض، أنّ العلم الازلی لیس سبباً الاجبار علی فعل قط! لأنّ اللّه کان یعلم أنّ آدم علیه السلام سیقارف هذا العمل باختیاره، بالضبط کالاستاذ الذی یعرف تلمیذه سیسقط فی الامتحان النهائی بسبب إهماله وکسله فی الدروس. فمثل هذا العلم من قبل الاستاذ لیس له أیة صلة برسوب ذلک التلمیذ أو اجباره علیه. فهو یعلم أنّ تلمیذه اختار طریقاً خاطئاً بمحض إرادته، وقد اعتاد الکسل والتقاعس دون الجد والمطالعة والمثابرة (4)ومن هنا آخذه اللّه وخاطبه: «أَلَمْ أَنْهَکُما عَنْ تِلْکُما الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَکُما إِنَّ الشَّیْطانَ لَکُما عَدُوٌّ مُبِینٌ» (5).

ص:98


1- 1) «أوعز» من مادة «وعز» علی وزن وعظ اقتراح عمل علی آخر.
2- 2) سورة طه/115. [1]
3- 3) سورة البقرة/35. [2]
4- 4) للوقوف علی تفاصیل هذا الموضوع راجع کتاب «معرفة اللّه» .
5- 5) سورة الاعراف/22. [3]

فلو کان آدم علیه السلام مجبوراً کیف یؤاخذه الحکیم سبحانه علی فعل لم یکن مختاراً فی ارتکابه، کذلک لماذا یندم آدم علیه السلام علی ذلک الفعل ویتوب منه، أم کیف یخرج اللّه سبحانه من الجنّة بذلک الفعل؟ کل هذه الاُمور تدل علی عدم وجود أی تضارب بین العلم الأزلی للّه سبحانه مع اختیار آدم وسائر أفراد البشر، ثم قال علیه السلام: «فاهبطه (1)بعد التوبة لیعمر الأرض بنسله، ولیقیم الحجة به علی عباده» .

فبالنظر للعبارة السابقة «أسکنه جنّته» یفهم أنّ هبوط آدم ونزوله لم یکن هبوطاً مکانیاً، بل مقامیاً، أی أنّ اللّه أهبط آدم من ذلک المقام الرفیع الذی کان علیه لترکه ذلک الاولی.

والعبارة: «لیعمر أرضه بنسله» تفید أنّ هدف کافة الأفراد لابدّ أن یکون إعمار الأرض لا اخرابها با الحروب والقتال والنزاعات والخلافات أو الخمول والکسل والتقاعس عن العمل أو حتی تلویث البیئة السالمة! والطریف أنّ هذا الاعمار جاء بعد التوبة، فما لم یتب الإنسان من أخطائه وزلله لا یوفق لهذا البناء والاعمار، فقد جاء فی القرآن الکریم «هُوَ أَنْشَأَکُمْ مِنَ الأَرضِ وَاسْتَعْمَرَکُمْ فِیها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَیْهِ» (2).

کما یستفاد من العبارة: «فأهبطه بعد التوبة» بأنّ ذلک الهبوط قد حصل بعد التوبة.

النقطة المهمة الاُخری فی العبارة والتی أشیر إلیها مراراً فی القرآن مسألة اتمام الحجة علی العباد. فاللّه سبحانه وإن زود الإنسان بالعقل، إلّاأنّه لم یکتف بذلک فواتر إلیه کتبه ورسله وأنبیائه والدعاة إلی طاعته - فی کل عصر ومصر - لیتم الحجة علی العباد، وهذا ما أورده الإمام علیه السلام فی حدیثه بین بنی آدم وواتر إلیهم الأنبیاء لیؤدوا رسالات ربّهم ویقیموا علیهم الحجج: «ولم یخلهم بعد أن قبضه، ممّا یؤکد علیهم حجة ربوبیته، ویصل بینهم وبین معرفته، بل تعاهدهم بالحجج علی ألسن الخیرة من أنبیائه، ومحتملی ودائع رسالاته، قرناً (3)فقرناً؛ حتی تمت بنبینا محمد صلی الله علیه و آله حجته، وبلغ المقطع (4)عذره ونذره (5)» ، تفید بعض

ص:99


1- 1) «أهبط» من مادة «هبوط» النزول.
2- 2) سورة هود/61. [1]
3- 3) «قرن» الزمان الطویل الذی قد یمتد الی مئة عام، کما یطلق الجماعة التی تعیش مع بعضها فی عصر.
4- 4) «مقطع» النهایة.
5- 5) «عذره» و «نذره» ، «العذر» هنا اتمام الحجة علی العباد بحیث لایبقی لهم عذرا للمخالفة، و «النذر» جمع النذیر بمعنی الانذار، ذکر العواقب السیئة للشئی.

الآیات القرآنیة وجود التوبة سابقاً، کما تفید آیات اُخری وجودها لا حقاً، ویمکن الجمع بینهما، فی أنّ آدم علیه السلام تاب مرات من خطیئته من قبل الهبوط وبعده، وما أکثر ما یخطئی الإنسان ویکثر من الاستغفار کلما عرض له ذلک الخطاء. العبارة «لم یخلهم بعد أن قبضه» (1)، تفید أنّ آدم علیه السلام هو أحد أنبیاء اللّه وحججه، وأنّ اللّه واتر أنبیائه بعد آدم علیه السلام حتی ختمهم بالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله، وهنا یبرز هذا السؤال: إذا کان اتمام الحجة ضرورة فی کل زمان ومکان / لم ختمت النبوة بالرسول الأکرم صلی الله علیه و آله فکان صلی الله علیه و آله خاتم الأنبیاء؟ وتتضح الاجابة علی هذا السؤال من خلال التفات إلی هذه النقطة وهی أنّ اللّه أنزل آخر أوامره وأحکامه وأکمل قوانینه وتعالیمه علی نبی الإسلام، فکانت شریعته أکمل الشرائع وأشملها، بحیث یمکن للبشریة برمتها أن تحتذیها فی مسیرتها إلی السعادة والفلاح، ولا سیما أنّ نسل الأوصیاء علیه السلام الامتداد الحقیقی للنبی صلی الله علیه و آله ماثل إلی یوم القیامة، ومن أراد المزید فلیراجع المجلد الثامن من کتاب نفحات القرآن بحث الخاتمیة.

ص:100


1- 1) جملة «لیقیم الحجة به علی عباده» «فی حالة عود الضمیر «به» علی آدم علیه السلام أیضاً یمثل دلیلاً آخراً علی نبوةآدم علیه السلام. و تعبیر «عباده» یشیر إلی حواء و أولاد آدم، بالاضافة إلی مصیر آدم و زوجته بعد الخروج من الجنة بعد ارتکاب الخطأ، و هی حجة علی بنی آدم کافة إلی یوم القیامة.

القسم الحادی والعشرون: الرزق وسیلة الامتحان

اشارة

«وَقَدَّرَ الأرْزَاقَ فَکَثَّرَهَا وَقَلَّلَها، وَقَسَّمَهَا عَلَی الضَّیقِ والسَّعَةِ فَعَدَلَ فِیهَا لِیَبْتَلِیَ مَنْ أَرَادَ بِمَیْسُورِهَا وَمَعْسُورِهَا، وَلِیَخْتَبِرَ بِذلِک الشُّکْرَ وَالصَّبْرَ مِنْ غَنِیَّهَا و فَقِیرِهَا. ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِیلَ فَاقَتِهَا، وَبِسَلاَمَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا، وَبِفَرَجِ أَفْرَحِهَا غُصَصَ أتراحها، وَخَلَقَ الآجَالَ فَأَطَالَهَا وَقَصَّرَهَا، وَقَدَّمَهَا وَأَخَّرَهَا، وَوَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا، وَجَعَلَهُ خَالِجاً لأَشْطَانِهَا، وَقَاطِعاً لَمَرائِرِ أَقْرَانِهَا» .

الشرح والتفسیر

واصل الإمام علیه السلام کلامه بالأدلة الدامغة و الواضحة بشأن اتمام اللّه سبحانه للحجة علی العباد من خلال إنزال الکتب السماویة وبعث الأنبیاء والرسل بالحدیث هنا عن وسیلتین للامتحان الإلهی للعباد فی مختلف مراحل تکلیفهم، فأشار فی الاولی إلی مسألة الرزق التی قدرها وتعرضها للزیادة والنقیصة: «وقدر الارزاق فکثرها وقللها، وقسمها علی الضیق والسعة» وبغیة الحیولة دون التصور بأنّ هذا التفاوت فی الرزق بین العباد یتناقض والعدالة، بادر الإمام علیه السلام إلی القول بتقسیمها علی ضوء العدل «فعدل فیها» فی إشارة إلی أنّ العدالة لاتعنی المساواة والتکافی، بل العدالة تعنی الایصال علی ضوء مصلحة الشخص، فقد ورد فی الحدیث عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّ اللّه سبحانه وتعالی قال: «إنّ من عبادی من لا یصلحه إلّا الفاقة ولو أغنیته لأفسده ذلک، وإنّ من عبادی من لایصلحه إلّاالصحة ولو أمرضته

ص:101

لأفسده ذلک» (1)، ثم تعرض علیه السلام بصورة أعمق لهذا الأمر قائلاً: «لیبتلی من أراد بمیسورها ومعسورها، ولیختبر بذلک الشکر والصبر من غنیها وفقیرها» ، یمکن أن یکون هذا التفاوت فی الأشخاص مختلفاً؛ فتتمتع فئة بنعمة جمة لتری فی میدان الاختبار هل أدت شکر هذه النعمة وأفاضت بعضها علی المحرومین، ووضعت الأموال مواضعها الصحیحة، أم بالعکس فانّ زیادة الثروة أبعدها تماماً عن الخالق والمخلوق وجعلها تسبح فی بحر من الغرور والغفلة. أم أن ضیق الرزق حطم صبر هذه الجماعة وقضی علی استقامتها واضطراها إلی مقارفة الحرام وجحود النعمة والأعراض عن اللّه سبحانه وتعالی.

بل إنّ هاتین الحالتین قد تتحققان فی نفس الشخص، فقد یکون غنیاً أحیاناً، کما قد یکون فقیراً أحیاناً اُخری، وهو ممتحن فی الحالتین فی شکره وصبره وجحوده وجزعه ثم یواصل الإمام علیه السلام کلامه بالإشارة إلی هذه النقطة فی أنّ الغنی والفقر والصحة والمرض لیست من الاُمور المنفصلة عن بعضها لیستند الإنسان علی واحدة منها، بل هی قریبة متداخلة مع بعضها، فی أنّ الباریء سبحانه خلط سعة الرزق بما یتبقی من الفقر والفاقة، والصحة والعافیة والسلامة بالحوادث الإلهیّة، والسرور والافراح بالأحزان والاتراح: «ثم قرن بسعتها عقابیل فاقتها، وبسلامتها طوارق آفاتها، وبفرج أفراحها غصص أتراحها (2)» ، حتی لا یغتر أحد بغناه وعافیته وفرحه وسروره، ویعلم الجمیع بان هذه الاُمور معرضة للزوال والتبدل والعدم علی الدوام وفی کل مکان ولدی کائن من کان و أنها تنقلب یوماً إلی ما یضادها. وسالمتک اللیالی فاغتررت بها وعند صفو اللیل یحدث الکدر

و بالنظر إلی أنّ «عقابیل» جمع عقبولة علی وزن جرثومة تعنی الشدائد وبقایا الأمراض والمشاکل التی تتمثل بقروح صغیرة تخرج یالشفة: فانّ العبارة المذکورة تفید أنّ المشاکل

ص:102


1- 1) بحارالأنوار 68/140، [1] وقد ورد شبه هذا المعنی فی الغنی والفقر والصحة والمرض والتوفیق للعبادة من عدمه فی بحارالانوار 5/284 [2] عن النبی صلی الله علیه و آله عن اللّه سبحانه.
2- 2) «أتراح» جمع «ترح» علی وزن فرح بمعنی الغم والهم، وفسر ضد الفرح کما فسر أیضاً بالهلاک وقطع الخیر والاحسان.

والمصائب وآثارها وبقایاها تلازم دائما الراحة والهدوء ولا تفارقهما أبداً، والعبارة: «یفرج أفراحها غصص أتراحها» تأکید آخر لهذا المعنی؛ لأنّ أتراح جمع ترح علی وزن فرح بمعنی الحزن والغم والهم. فبالنتیجة ذکر الإمام علیه السلام أنّ هذه الافراح والسرور مقرونة با لهم والحزن، النقطة الآخری التی أشار إلیها الإمام علیه السلام هی الوقت المحدد. للحیاة، فلها نهایة حتمیة عاجلا أم آجلاً، والشیء الذی لیس للإنسان منه وسیلة للهرب هو الموت: «وخلق الاجال فأطالها وقصرها، وقدمها وأخرها» . فالموت موصول بالحیاة (وجعل الأمراض وسیلة لانهاء الحیاة) من شأنه القضاء علیها «و وصل بالموت أسبابها، وجعله خالجا (1)لأشطانها (2)، وقاطعا لمرائر (3)أقرانها» ، فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذه العبارة القصیرة إلی عدّة نقاط، منها أنّ البعض یعمر کثیراً بصورة طبیعیة، والبعض الآخر یعمر قلیلاً، کما قد یقصر ذلک العمر الطویل بفعل بعض الأعمال الشائنة أو الذنوب والمعاصی، بینما قد یطال فی ذلک العمر القصیر إثر رعایة القضایا المرتبطة بالصحة والسلامة، أو بفعل الأعمال الطیبة والخیر والاحسان. کما أشار علیه السلام إلی أنّ للموت عدّة أسباب، إذا هرب الإنسان من بعضها وقع فی مخالب الاخر، بل لاینجو من الموت أقوی الأقویاء. وعلیه لاینبغی لأحد أن یغتر بصحته وسلامته وشبابه وقوته، ولابدّ لکل أحد أن یتأهب للموت ویعد له الزاد المطلوب متوقعاً الموت فی أی وقت. (4)کما احتمل بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ المراد بالتقدیم والتأخیر، هو أنّ اللّه سبحانه وتعالی خلق البعض فی الأزمنة الماضیة والبعض الآخر فی الأزمنة اللاحقة علی ضوء المصالح، إلّاأنّ المعنی الأول أنسب.

تأمّل: هل رزق کل إنسان مقدر؟

لا یستفاد من عبارات هذه الخطبة تقدیر رزق الإنسان فحسب، بل یستفاد ذلک من

ص:103


1- 1) «خالج» من مادة «خلج» بمعنی الجذب، والخلجان شیء فی ذهن الإنسان یعنی انجذابه أمام الشیء، ومن هنا اطلق الخلیج لجذبه ماءاً کثیراً من البحر.
2- 2) «أشطان» جمع «شطن» علی وزن وطن وهو الحبل الطویل، کما وردت هذه المفردة بمعنی العبد، ومنه «الشیطان» لبعده عن الهدایة والرحمة.
3- 3) «مرائر» جمع «مریر» الحبل المحکم.
4- 4) اوردنا بحثاً مفصلاً فی الخطبة 62 من المجلد الثالث بشأن الأجل ونهایة عمر الإنسان.

أغلب الآیات القرآنیة الواردة بهذا الشأن، فقد طالعتنا مختلف المصادر الإسلامیة بأنّ سعة الرزق أوضیقه إنّما هی خاضعة لإرادة اللّه ومشیته بغیة اختبار العباد وتمحیصهم. بعبارة اُخری: لقد منح الإنسان ما یوافق مصلحته. وهذا الأمر یثیر عدّة أسئلة منها: أولاً: إذا کان الأمر کذلک، فما معنی السعی والجهد من أجل الرزق.

ثانیاً: إنّ مثل هذا الاستنتاج یؤدی إلی سکون الأنشطة الاجتماعیة وتخلف المجتمعات البشریة؛ المجتمعات التی ینبغی أن تعیش حالة النشاط والمثابرة بغیة عدم تخلفها عن سائر المجتمعات ولاسیما غیر الإسلامیة، فقد صرح القرآن الکریم بهذا الشأن قائلاً: «نَحْنُ قَسَمْنا بَیْنَهُمْ مَعِیشَتَهُمْ فِی الحَیاةِ الدُّنْیا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» (1)، إلّاأنّ الإجابة علی السؤال المذکور وردت فی الروایات الإسلامیة، بحیث لایبقی من مجال للغموض إذا تأملناها بأجمعها، فقد جاء فی کلمات أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی نهج البلاغة: «إنّ الرزق رزقان؛ رزق تطلبه، ورزق یطلبک، فان أنت لم تاته أتاک» (2).

والواقع کذلک فالقسم الأعظم من الرزق یتطلب سعی الإنسان وجهده وتوظیفه لکافة إمکاناته واستعداداته وطاقاته ولیس له الظفر به دون ذلک، إلّاأنّ القسم الآخر من الرزق یأتی إلی الإنسان دون السعی إلیه، لیدل الإنسان علی أن السعی والجهد و إن کان أصلاً مسلما إلّا أنّ رازقیة الله لا تقتصر علی ذلک، فلابد من التوجه إلی اللّه وطلب الرزق منه.

من جانب آخر جاء فی الخبر أن من بین الأدعیة التی لاتستجاب دعاء الإنسان الصحیح الذی لزم بیته و قعد عن السعی و هو یدعو اللّه: اللهم إرزقنی فتنادیه الملائکة بان دعائک لیس بمستجاب، قم و إعمل. فقد ورد فی الروایة أن الإمام الصادق علیه السلام قال: «أربع لایستجاب لهم دعاء: الرجل جالس فی بیته، یقول: یارب ارزقنی! فیقول له: ألم آمرک بالطلب» . (3)

أضف إلی ذلک فانّ التقدیرات الإلهیة فی أغلب الموارد إنّما تنسجم وتدبیرنا وتخطیطنا، أی أنّ الله قدر سهما وخیرا لمن سعی وبذل جهده، بینما قدر أقل من ذلک لمن تقاعس وکسل. فهذا

ص:104


1- 1) سورة الزخرف/32. [1]
2- 2) نهج البلاغة، الرسالة 31. [2]
3- 3) میزان الحکمة 2 / ح 5701.

الانسجام بین التقدیر والتدبیر یعد اجابة واضحة لاولئک الذین یستسلمون للکسل والخنوع والخمول، ویفرون من الواقع تحت ذریعة التقدیر.

وناهیک عما تقدم فمما لا شک فیه أن الناس لیست سواسیة فی الاستعداد البدنی والفکری والإدارة الاقتصادیة والقدرة علی العمل وتوظیف الإمکانات المتاحة؛ وهدا بدوره ما أدی إلی تفاوت الأرزاق. وعلیه فلیس من الصواب بعد کل هذا التصور أن یتساوی الرزق عل کافة الأفراد بغض النظر عما سبق، فهذا من قبیل توقع تساوی جمیع أعضاء البدن و العظام و العضلات، فی حین لکل عضو وظیفته فی هذا البدن و قدرته بقدر نشاطه، فعالم البشریة کالبدن یختلف فی رزقه علی أساس إختلافه فی سعیه و جهده. والنتیجة التی نخلص إلیها: هو أن تقدیر الرزق الذی ورد فی هذا الخطبة، إنّما هو إشارة لما استعرضناه آنفا؛ الأمر الذی لایتنافی قط ومفهوم العدالة، بل هو عین العدالة والحکمة.

ص:105

ص:106

القسم الثانی والعشرون: العالم بکل شیء

اشارة

«عَالِمَ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِینَ، وَنَجْوَی الْمُتَخَافِتِینَ، وَخَواطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ، وَعُقِدَ عَزِیمَاتِ الْیَقِینِ، وَمَسَارِقِ إِیمَاضِ الْجُفُونِ، وَمَا ضَمِنَتْهُ أَکْنَانُ الْقُلُوبِ، وَغَیَابَاتُ الْغُیُوبِ، وَمَاأَصْغَتْ لاِسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الأَسْمَاعِ، وَمَصَائِفُ الذَّرِّ، وَمَشَاتِی الْهَوامِّ، وَرَجْعِ الْحَنِینِ مِنَ الْمُولَهَاتِ، وَهَمْسِ الأَقْدَامِ، وَمُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ مِنْ وَلاَئِجِ غُلُفِ الأَکْمَامِ، وَمُنْقَمَعِ الوحوش مِنْ غِیرَانِ الْجِبَالِ وَأَوْدِیَتِهَا وَمُخْتَبَاءِ الْبَعُوضِ بَیْنَ سُوقِ الأَشْجَارِ وَأَلْحِیَتِهَا، و مغرز الأَوْرَاقِ مِنَ الأَفْنَانِ، وَمَحَطِّ الأمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الأصْلاَبِ، وَنَاشِئَةِ الْغُیُومِ وَمُتَلاَحِمِهَا، وَدُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِی مُتَرَاکِمِهَا، وَمَا تَسْفِی، الأَعَاصِیرُ بِذُیُولِهَا، وَتَعْفُو الأَمْطَارُ بِسُیُولِهَا، وَعَوْمِ بَنَاتِ الأَرضِ فِی کُثْبَانِ الأَعَاصِیرُ بِذُیُولِهَا، وَتَعْفُوا الأَمْطَارُ بِسُیُولِهَا، وَعَوْمِ بَنَاتِ الأَرضِ فِی کُثْبَانِ الرِّمَالِ» .

الشرح والتفسیر

یتضح من خلال تامل الأقسام المختلفة لهذه الخطبة العجیبة أنّ الإمام علیه السلام قد اختط مساراً دقیقاً فی معرفة اللّه، ومن ثم التعرف علی هذا العالم مرورا بمعرفة الإنسان وتربیته، بعبارات رائعة تأخذ بید الإنسان نحو هذاالمسار الطویل و تقوده نحو الهدف، یعنی یسلک به سبیل السمو والتکامل.

فقد تحدث الإمام علیه السلام فی السابق عن خلق الأرض ومصادر الحیاة ومن ثم خلق آدم

ص:107

وقصته مع الجنّة و ما تضمنته من عبر ومن ثم هبوطه إلی الأرض، وتقسیم الأرزاق وتعیین الاجال. ولما فرغ من ذلک واصل حدیثه فی هذا المقطع من الخطبة عن علم اللّه سبحانه بکل شیء وکل شخص وفی کل زمان ومکان، والعالم بکافة الخفایا والاسرار. فقد أورد الإمام علیه السلام ذلک بعبارات دقیقة رائعة، مؤکداً علی تفاصیل هذه الاُمور، بحیث یشعر الإنسان بکل کیانه أنّ العالم برمته حاضر لدی الله بکل حرکاته وسکناته؛ و هو الشعور الذی یلعب دورا، حیویاً فی تربیة الإنسان وسوقه نحو الخیر والاحسان.

فقال علیه السلام: «عالم السر من ضمائر المضمرین، ونجوی المتخافتین وخواطر رجم الظنون، وعقد عزیمات الیقین» .

فالعبارة تفید علمه سبحانه بکل شیء: ما یقتدح فی الأذهان، وما یمثل فی الواقع، وما یجری فی الأوهام والظنون، والشک والتردید، وما یجول فی باطنه ونجواه وهمسه مع الاخرین، ثم قال علیه السلام: «ومسارق (1)إیماض (2)الجفون، (3)وما ضمنته أکنان القلوب، وغیابات الغیوب، وما أصغت لاستراقه مصائخ (4)الأسماع» ، ولما کانت أهم مصادر علم الإنسان تکمن فی قلبه (عقله) وعینه واذنه، کما صرح بذلک القرآن الکریم: «وَاللّهُ أَخْرَجَکُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِکُمْ لا تَعْلَمُونَ شَیْئاً وَجَعَلَ لَکُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ» (5)واللّه محیط بجمیع هذه المصادر؛ فهو علیم بکافة خفایا الإنسان وأسراره. ثم تجاوز علیه السلام خفایا الإنسان وما تنطوی علیه جوانحه لیتجه صوب أصغر الکائنات، لیکشف عن علمه سبحانه وتعالی بخفایا وأوکار الهوام والحشرات وآهات الالم واصوات الحزن ووقع الاقدام: «ومصائف (6)الذر،

ص:108


1- 1) «مسارق» جمع «مسرق» من مادة «سرقة» النظر خلسة.
2- 2) «ایماض» من مادة «ومض» علی وزن رمز اللمعان القصیر والمخفی.
3- 3) «جفون» جمع «جفن» علی وزن جفت، بمعنی جفن العین.
4- 4) «مصائخ» جمع «مصیخة» من مادة «صوخ» علی وزن صوت الشق، والمراد هنا شق الاذان الذی یسمع به الإنسان الأصوات.
5- 5) سورة النحل/78. [1]
6- 6) «مصائف» جمع «مصیف» موضع اقامتها فی الصیف.

ومشاتی (1)الهوام (2)ورجع الحنین (3)من المولهات (4)وهَمْسِ (5)الاقدام» .

ثم واصل علیه السلام کلامه بالاشارة إلی اُمور اُخری لطیفة وظریفة وخفیة ومکتومة، لیکشف النقاب عن إحاطة العلم الإلهی المطلق بها من خلال عبارات غایة فی الروعة والدقة فقال علیه السلام: «ومنفسح (6)الثمرة من ولائج (7)غلف (8)الاکمام (9)، ومنقمع (10)الوحوش من غیران (11)الجبال وأودیتها، مختباء البعوض بین سوق (12)الاشجار والحیتها (13)، ومغرز (14)الاوراق من الافنان (15)، ومحط الامشاج (16)من مسارب (17)الأصلاب» ، العبارة «لامنفسح» بمعنی المکان الفسیح الواسع إشارة إلی أنّ اللّه سبحانه خلق مکاناً واسعاً فی جوف البراعم لنمو الثمار. والعبارة: «منقمع الوحوش» تفید لجوء الحیوانات الصحراویة إلی الغیران والکهوف بغیة حفظ أنفسها من سائر الحیوانات الوحشیة المفترسة و تخرج حین الحاجة أو صید سائر الحیوانات. و التعبیر «مغرز الأوراق. . .» لا إشارة إلی الأوراق و لا الأغصان، بل إشارة إلی

ص:109


1- 1) «مشاتی» جمع «مشتی» موضع اقامتها فی الشتاء.
2- 2) «هوام» جمع «هامة» الحشرات (الخطیرة، کما تطلق علی مطلق الحشرات.)
3- 3) «حنین» الألم من مادة «حنان» ورجع الحنین تردیده.
4- 4) «مولهات» الحزینات من مادة «وله» علی وزن فرح.
5- 5) «همس» علی وزن لمس، بمعنی الصوت الهادیء الخفی، یطلق أحیانا علی صوت الاقدام الحافیة.
6- 6) «منفسح» المکان الواسع من مادة «فسح» علی وزن مسح.
7- 7) «ولائج» جمع «ولیجة» البطانة الداخلیة.
8- 8) غلف جمع غلاف معروف المعنی.
9- 9) «الأکمام» ، جمع «کم» غطاء النوار ولایبعد اضافة الغلف إلیها أنّها إضافة بیانیة.
10- 10) «منقمع» موضع الاختفاء من مادة «الانقماع» بمعنی الاختفاء.
11- 11) «غیران» جمع «غار» ، والواسع منها یطلق علیه الکهف.
12- 12) «سوق» جمع «ساقه» أسفل الشجرة.
13- 13) «ألحیة» جمع «لحاء» قشر الشجرة.
14- 14) «مغرز» موضع جذور الشیء.
15- 15) «أفنان» جمع «فنن» علی وزن قلم بمعنی الغصون.
16- 16) «أمشاج» جمع «مشج» علی وزن سبب الشیء المخلوط.
17- 17) «مسارب» جمع «مسرب» علی وزن مرکب وهی ما یتسرب المعنی فیها عند نزوله أو عند تکونه.

موضع خاص تلتصق فیه الورقة بالغصن و تنطلق جذورها فی أعماقه فتحفظه من الریح و العواصف.

و التعبیر «محط الأمشاج. . .» إشارة إلی حرکة نطفة الرجل من غدده الداخلیة و تختلط مع نطفة المرأة حین نزولها فی الرحم حتی تنمو و تتحول إلی إنسان کامل. فاللّه سبحانه یعلم بهذا المسار و کیفیة الترکب و موضع النزول، و یمکن أن تکون «أمشاج» إشارة إلی ترکیب نطفة الرجل من میاه مختلفة و الذی أثبته العلم الحدیث، حیث لکل منها هدف معین عند إختلاطه مع الآخر و التی تشکل نطفة الرجل، ثم تتحرک نحو الرحم. ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی تفاصیل دقیقة لعالم الخلقة والحوادث المبرمجة، لیکشف عن علمه سبحانه برقیق السحب التی تظهر فی السماء وتتصل مع بعضها البعض الآخر، إلی جانب هطول قطرات المطر من تلک السحب والریاح التی تحیط بها وتبعث بها هنا وهناک: «وناشئة الغیوم ومتلاحهمها، ودرور قطر السحاب فی متراکمها، وما تسفی (1)الاعاصیر (2)بذیولها، وتعفو (3)الأمطار بسیولها، وعوم (4)بنات الأرض فی کثبان (5)الرمال» .

نعم فهو عالم بتمام دقائق عالم الوجود وجزئیات الکائنات الحیة والجمادات فی السموات والأرض؛ وهو محیط بظهورها وحرکاتها وسکناتها. فکیف بنا وهو الخبیر بما فی أعماقنا ویجول فی أذهاننا وخواطرنا.

تأمّل: تنوع الکائنات

رغم ترکز الکلام فی هذا المقطع من الخطبة علی علم اللّه الواسع بکافة الأشیاء وجمیع الکائنات، إلّاأنّ هناک إشارة ضمنیة لنقطة مهمّة اُخری، إلّاوهی التنوع العجیب للکائنات، من المسائل الفکریة والذهنیة للإنسان إلی الاجزاء المختلفة للعین والاذن، والکائنات الصغیرة

ص:110


1- 1) «تسفی» من مادة «سفی» علی وزن نفی الریاح التی تثیر الغبار والتراب.
2- 2) «أعاصیر» جمع «إعصار» علی وزن إجبار الریح التی تثیر السحاب.
3- 3) «تعفو» من مادة «عفو» بمعنی المحو وتستعمل هذه المفردة فی الذنوب بمعنی محوها، ومن هنا یقال العافیة بمعنی محو المرض.
4- 4) «عوم» علی وزن قوم السباحة والطوفان.
5- 5) «کثبان» جمع «کثیب» التل والمرتفع.

والکبیرة للعالم من قبیل الهوام ومصائفها والحشرات ومشاتیها، مروراً بتشکیل نطفة الإنسان المرکبة من ماء الرجل والمرأة، وظهور السحب والغیوم وتراکمها وسقوط حبات المطر وهبوب الریاح والأعاصیر وجریان السیول واختفاء الحشرات فی المرتفعات والتلال وما إلی ذلک من الاُمور التی سنتطرق إلیها فی البحث القادم. والخلاصة فانّ کل أمر دلالة علی علمه سبحانه وقدرته وابداعه، وکلما تعمق الإنسان فی تأمل هذه الاُمور تعرف أکثر علی عظمة الحق سبحانه وعلمه، ویسمع باذن البصیرة تسبیح هذه الکائنات وحمدها، ویشعر بتوحیدها وتوجهها لخالقها. الأشیاء التی لایدرکها سوی من تحسسها و إنطلق منها لما وراءها.

ص:111

ص:112

القسم الثالث والعشرون: شمولیة العلم الإلهی

اشارة

«وَمُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الأَجْنِحةِ بِذُرَاً شَنَاخِیبِ الْجِبَالِ، وَتغرید ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِی دَیَاجِیرِ الأَوْکَارِ، وَمَا أَوْعَبَتْهُ الأَصْدَافُ، وحَضَنَتْ عَلَیْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ، وَمَا غَشِیَتْهُ سُدْفَةُ لَیْلٍ، أَوْ ذَرَّ عَلَیْهِ شَارِقُ نَهَارٍ، وَمَا اعْتَقَبَتْ عَلَیْهِ أَطْبَاقُ الدَّیَاجِیرِ، وَسُبُحَاتُ النُّورِ؛ وَأَثَرِ کُلِّ خَطْوَةٍ، وَحِسِّ کُلَّ حَرَکَةٍ، وَرَجْعِ کُلِّ کَلَمَةٍ، وَتَحْرِیکِ کُلِّ شَفِةٍ، وَمُسْتَقَرَّ کُلِّ نَسَمَةٍ، وَمِثْقَالِ کُلِّ ذَرَّةِ، وَهَمَاهِمِ کُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ، ومَا عَلَیْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ، أَوْ ساقِطِ وَرَقَةٍ؛ أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ، أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَمُضْغَةٍ، أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَسُلاَلَةٍ؛ لَمْ یَلْحَقْهُ فِی ذلِکَ کُلْفَةٌ، وَلاَ اعْتَرَضَتْهُ فِی حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ، وَلاَ اعْتَوَرَتْهُ فِی تَنْفِیذِ الأُمُورِ وَتَدَابِیرِ الْمَخلُوقِینَ مَلاَلَةٌ وَلاَ فَتْرَةٌ، بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ، وَأَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ، و وسعهم عَدْلُهُ، وَغَمَرَهُمْ فَضْلُهُ، مَعَ تَقْصِیرِهِمْ عَنْ کُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ» .

الشرح والتفسیر

واصل الإمام علیه السلام کلامه السابق بالحدیث عن علم اللّه سبحانه وتعالی بکافة جزئیات عالم الوجود، حیث یتعرض إلی ذلک بعبارات رائعة غایة فی الدقة والجمال، والحق أنّ کلام الإمام علیه السلام یفید بما لایقبل الشک أنّه یستند إلی ارتباطه بما وراء هذه الطبیعیة بحیث لایضاهیه کلام، وان علمه علیه السلام إنّما یتصل بمصادر العلم الإلهی فقد تطرق بادیء بدء إلی الطیور العائمة فی

ص:113

السماء: «ومستقر ذوات الأجنحة بذراً (1)شناخیب (2)الجبال، وتغرید (3)ذوات المنطق فی دیاجیر (4)الأوکار (5)» .

فنحن نعلم أنّ کل طائر یصنع لنفسه ما یناسبه من عش، بحیث تتنوع حسب أصناف الطیور، کما نعلم أنّ أنغام الطیور علی أقسام، کل واحد منها یبیّن موضوعاً، الأهم من کل ذلک هو علم اللّه بتمام جزئیاتها.

ثم یغوص الإمام علیه السلام فی أعماق البحار لیتحدث عن الاصداف واللؤلؤ والأمواج: «وما أوعبته (6)الاصداف، وحضنت علیه أمواج البحار» ، ثم خاض علیه السلام فی نظام النور والظلمة فی عالم الخلق وحیاة الإنسان فقال: «وما غشیته سدفه (7)لیل أو ذر (8)علیه شارق نهار، وما اعتقبت علیه أطباق الدیاجیر، سبحات (9)النور» ثم إتجه صوب مختلف حرکات الإنسان قال علیه السلام: «وأثر کل خطوة، وحس کل حرکة، ورجع کل کلمة، وتحریک کل شفة، ومستقر کل نسمة» .

ثم تناول علیه السلام أصغر الذرات وأخفی الأصوات فی أنّ اللّه عالم بها: «ومثقال کل ذرة، وهماهم (10)کل نفس هامة (11)» ثم ینتقل إلی الأشجار و الثمار و الناس و النطف التی

ص:114


1- 1) «ذرا» جمع «ذروة» المکان المرتفع و أعلی الشیء.
2- 2) «شناخیب» جمع «شنخوب» علی وزن بهلول رؤوس الجبال.
3- 3) «تغرید» أصوات الطیور.
4- 4) «دیاجیر» جمع «دیجور» الظلمة.
5- 5) «أوکار» جمع «وکر» علی وزن مکر العش.
6- 6) «أوغبت» من مادة «وعب» علی وزن صعب جمعت.
7- 7) «سدفة» ظلمة.
8- 8) «ذر» بمعنی نثر و تأتی ایضاً بمعنی انتشار ضوء الشمس.
9- 9) «سبحات» جمع «سبحة» علی وزن لقمة بمعنی شعاع النور، و «سبحات النور» فی الجملة أعلاه جاءت بمعنی اشعة النور.
10- 10) «هماهم» جمع همهمة مجاز من المهمة ترید الصوت فی الصدر من الهم.
11- 11) «هامة» قال بعض شرّاح نهج البلاغة من له همة عالیة، کما یراد بها الهموم من الهم والغم وهذا ما اُرید بها فی العبارة.

تشبه إلی حد کبیر بعضها البعض فقال «وما علیها من ثمر شجرة، أو ساقط ورقة، أو قرارة نطفة، أو نقاعة (1)دم ومضغة، أو ناشئة خلق وسلالة» .

ویشیر الإمام علیه السلام فی آخر الخطبة إلی نقطة مهمّة اُخری وهی أنّ تلک الاُمور بتلک السعة والشمولیة التی أشار الیها الإمام علیه السلام ما یجعل التبادر إلی الذهن صعوبة حسابها والاحاطة بها، بعبارة اُخری قد یقتدح فی الأذهان هذا السؤال: هل علم اللّه سبحانه تعالی بهذه الاُمور لایوجد من مشکلة لذاته المطهرة؟ فالإنسان یصاب بالتعب والأعیاء من جراء احاطته بقسم غایة فی الصغر بالنسبة لحوادث هذا العالم وأسراره إلّاأنّ الإمام علیه السلام یعلن بکل صراحة أن لیس هناک أدنی مشقة علی اللّه بهذا الشأن (لیس فقط من ناحیة العلم والاحاطة بها بل) فی حفظ ما أبدع من مخلوقات، کما لیس هنالک من ملل أو فتور عرض له سبحانه فی انفاذ أمره وتدبیر شؤون خلقه: «لم یلحقه فی ذلک کلفة، ولا اعترضته فی حفظ ما ابتدع من خلقه عارضة، ولا اعتورته (2)فی تنفیذ الاُمور وتدابیر المخلوقین ملالة ولافترة» ، بل نفذ فیها علمه واحصاها عددا بقدرته وضمها جمیعا تحت لواء عدالته، کما عم المقصرین منهم بفضله وعفوه ولطفه: «بل نفذهم علمه، وأحصاهم عدده، ووسعهم عدله، وغمرهم فضله، مع تقصیرهم عن کنه ما هو أهله» ، فقد أکد الإمام علیه السلام بهذه العبارات علی عدّة اُمور:

الأول: أنّ احاطة للّه سبحانه العلمیة بجزئیات جمیع عالم الوجود لاتنطوی علی أیة مشکلة بالنسبة له (وذلک لأنّ علم اللّه علم حضوری ولیس علم حصولی، کما سیأتی شرح ذلک فی البحث القادم) .

الثانی: اضافة إلی الاحاطة العلمیة فهو حافظها جمیعاً؛ الأمر الارفع من العلم؛ وهذا أیضاً لایسبب أیة مشکلة لذاته المطلقة سبحانه (لأنّ الکل متوقف علی وجوده سبحانه) .

الثالث: اضافة إلی العلم والحفظ فهو مدبرها وهادیها إلی السمو و الکمال؛ الأمر الذی لاینطوی علی أی ملل أو فتور لذاته المطلقة، وبعیداً عن معرفة الخلائق وأدائها للشکر، فانّ فضله ولطفه شامل للجمیع عدله فیهم نافذ شامل، نعم فعلمه لیس بمحدود وقدرته مطلقة لامتناهیة وفضله مطلق شامل، ولایرتجی منه سوی ذلک.

ص:115


1- 1) «نقاعة» من مادة «نقع» علی وزن نفع جمع الماء و «نقاعة دم» الحفرة التی یجمع فیها الدم، وهی هنا2 إشارة إلی رحم (الام) وقال البعض اُرید بها هنا العلقة.
2- 2) اعتورت من مادة اعتوار تداولته وتناولته.

تأمّلات

1 - العلم الکامل

کلماته علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة بشأن سعة علمه سبحانه واحاطته الشاملة بکافة دقائق الاُمور، لتذکر الإنسان بالآیة الشریفة التی وردت فی سورة لقمان: «وَلَوْ أَنَّ ما فِی الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالبَحْرُ یَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ کَلِماتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ» (1).

وهنا لابدّ أن نلتفت إلی نقطة مهمّة وهی أنّ ما أورده أمیرالمؤمنین علی علیه السلام إنّما یرتبط بالکرة الأرضیة ومخلوقاتها، والحال یغص هذا الفضاء العظیم بملایین، بل ملیاردات الکرات السماویة العجیبة والتی تخضع برمتها لعلم اللّه واحاطته، کما لابدّ من الالتفات إلی أن هذا العالم قد وجد قبل ملایین السنوات قبل خلقنا، ولا یعلم إلی متی سیستمر، فاحصاء الحوادث التی تقع طیلة هذا الزمان انّما تتعذر علی کائن من کان سوی الحق سبحانه مع ذلک لاینبغی أن ننسی بأنّ هدف الإمام علیه السلام من بیان هذه الحقائق مضاعفة معرفة الله من جانب، ومن جانب آخر تهذیب النفوس البشریة وأنّها حاضرة عند اللّه وأنّه محیط بنیاتها وکوامنها. وشاهد ذلک ما قاله الإمام علیه السلام فی الخطبة 198 من نهج البلاغة: «یعلم عجیج الوحوش فی الفلوات، ومعاصی العباد فی الخلوات، واختلاف النیان فی البحار الغامرات، وتلاطم الماء بالریاح العاصفات» .

2 - علم اللّه بکافة الخفایا

یری جمع من قدماء الفلاسفة أنّ اللّه لایسعه أن یکون عالماً فهم یعتقدون أنّ الجزئیات متعددة ومتکثرة ولیس للمتعدد من سبیل إلی ذاته الواحدة من جمیع الجهات. فهذا الکلام واضح البطلان وأساسه أنّهم یرون أن علمه سبحانه وتعالی حصولیاً، ویعتقدون بأنّ الصور الخارجیة تنتقل إلی ذاته المقدسة، والحال کلنا نعلم أنّ علمه سبحانه بالموجودات لیس عن

ص:116


1- 1) سورة لقمان/27. [1]

طریق انتقال صورتها الذهنیة لدیه، کما هو الحال عند الإنسان، بل علمه علم حضوری، أی أنّه حاضر فی کل مکان، والموجودات برمتها حاضرة عنده، وهو محیط بها جمیعاً، دون الحاجة لصورها؛ بالضبط کحضور الصور الذهنیة للإنسان أمام روحه، لأنّ الصور الذهنیة حاضرة بذاتها فی روح الإنسان لاصورتها، واحاطة الإنسان بها نوع من الاحاطة الحضوریة. فتأکید الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة علی علم اللّه سبحانه بجمیع جزئیات الوجود إنّما یبطل هذا الاعتقاد الفاسد لبعض الفلاسفة بشأن نفی علم اللّه بالجزئیات.

3 - ابن أبی الحدید فی شرح هذه الخطبة.

حین بلغ هذا العالم المشهور - شارح نهج البلاغة - هذا الموضوع من الخطبة بشأن علم اللّه قال: لوسمع النضر بن کنانة هذا الکلام لقال لقائله ما قاله علی بن العباس بن جریح لاسماعیل بن بلبل: جریح لاسماعیل بن بلبل

إذ کان یفخر به علی عدنان وقحطان، بل کان یقر به عین أبیه إبراهیم خلیل الرحمن، ویقول له: أنّه لم یعف ما شیدت من معالم التوحید، بل أخرج اللّه تعالی لک من ظهری ولدا ابتدع من علوم التوحید فی جاهلیة العرب ما لم تبتدعه أنت فی جاهلیة النبط. بل لو سمع هذا الکلام أرسطو طالیس، القائل بانه تعالی لایعلم الجزئیات، لخشع قلبه و وقف شعره، واضطرب فکره، ألاتری ما علیه من الرواء والمهابة، والعظمة والفخامة، والمتانة والجزالة! مع ما قد أشرب من الحلاوة والطلاوة واللطف والسلاسة، لا أری کلاماً یشبه هذا إلّاأن یکون کلام الخالق سبحانه، فانّ هذا الکلام نبعه من تلک الشجرة، وجدول من ذلک البحر، وجذوة من تلک النار؛ وشرح لآیات الخالق سبحانه (1).

ص:117


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/23 [1] بتصرف طفیف.

ص:118

القسم الرابع والعشرون: إلیک الملاذ و أنت الرجاء

اشارة

«الَّلهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِیلِ، والتَّعْدَادِ الْکَثِیرِ، إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَیْرُ مَأْمُولٍ، وَإِنْ تُرْجِ فَخَیْرُ مَرْجُوٍّ. اللَّهُمَّ وَقَدْ بَسَطْتَ لی فِیمَا لاَأَمْدَحُ بِهِ غَیْرَکَ، وَلاَأُثْنِی بِهِ عَلَی أَحَدٍ سِوَاکَ، وَلاَ أُوَجِّهُهُ إِلَی مَعَادِنِ الْخَیْبَةِ وَمَوَاضِعِ الرِّیبَةِ، وَعَدَلْتَ بِلِسَانی عَنْ مَدَائِحِ الآدمِیِّینَ؛ وَالثَّنَاءِ عَلَی الْمَرْبُوبِینَ الْمَخْلُوقِینَ. الَّلهُمَّ وَلِکُلِّ مُثْنٍ عَلَی مَنْ أَثْنَی عَلَیْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ، وَقَدْ رَجَوْتُکَ دَلِیلاً عَلَی ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَکُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ. اللَّهُمَّ وَهذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَکَ بِالتَّوْحِیدِ الَّذِی هُوَ لَکَ، وَلَمْ یَرَ مُستَحِقّاً لِهذِهِ المَحَامِدِ وَالْمَمادِحِ غَیْرَکَ ؛ وَبِی فَاقَةٌ إِلَیکَ لاَیَجْبُرُ مَسْکَنَتَهَا إلّافَضْلُکَ، وَلاَ یَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلاَّ مَنُّک وَجُودُک، فَهَبْ لَنَا فِی الْمَقَامِ رِضَاک، وَأَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الأَیْدِی إِلَی سِوَاکَ؛ «إِنَّکَ عَلَی کُلِّ شَیءٍ قَدِیرٌ!»» .

الشرح والتفسیر

لاننسی أنّ الإمام علیه السلام أورد هذه الخطبة الجامعة والمفصلة رداً علی من سأله الحدیث عن صفات اللّه، فخاض الإمام علیه السلام فی البدایة بأدق العبارات وأظرفها فی بحث صفات اللّه الجمالیة والکمالیة، ثم تطرق إلی فعله من قبیل خلق الملائکة والسماء والأرض، ثم خلق الإنسان وما أفاض علیه من النعم، وأخیراً علمه سبحانه وتعالی بجمع جزئیات عالم الوجود وکلیاته.

ثم یختتم الخطبة بهذا القسم الذی یطرق فیه باب اللّه متضرعاً إلیه بالدعاء، فیصف اللّه سبحانه بأفضل صفاته التی لاتجوز علی أحد سواه، کما تدل علی التوحید فی مقام الدعاء

ص:119

«اللّهم أنت أهل الوصف الجمیل، والتعداد (1)الکثیر» ، نعم فقد جمعت کافة الصفات العظیمة فی ذاته القدسیة، فهو الکریم والرحیم وأهل الفضل والثناء، ومن هنا فانّ أمله الإنسان فهو خیر مأمول، وان رجاه فهو خیر مرجو لایقطع رجاء من رجاه: «إن تؤمل فخیر مأمول، وإن ترج فخیر مرجو» ، ثم قال علیه السلام: «اللّهم وقد بسطت لی فیما لا أمدح به غیرک، و أثنی به علی أحد سواک ولا أوجهه إلی معادن الخیبة ومواضع الریبة، وعدلت بلسانی عن مدائح الادمیین؛ والثناء علی المربوبین المخلوقین» .

الجدیر بالذکر أنّ الإمام مزج مدح اللّه وثنائه بالشکر، وقد أعرب علیه السلام عن سروره أن وفقه اللّه سبحانه ففتح لسانه بمدحه سبحانه، وهل یلیق هذا المدح والثناء بأحد سواه، و أی عمل أفضل من أن یغض الإنسان طرفه عن عالم الأسباب و لا یتطلع سوی إلی «مسبب الأسباب» فیمطره بحمده و ثناءه. ثم أردف ذلک بقوله: «اللّهم ولکل مثن علی من أثنی علیه مثوبة من جزاء أو عارفة من عطاء؛ وقد رجوتک دلیلاً علی ذخائر الرحمة وکنوز المغفرة» ، یمکن أن تکون العبارة بمعنی طلب المزید من رحمته سبحانه ومغفرته، أو بمعنی طلب التوفیق والاستعداد لکسب هذه الرحمة. والفرق بین «جزاء» و «عارفة» قد یکون فی أنّ الجزاء هو ثواب العمل، والعارفة بمعنی الفضل والرحمة إلی جانب الثواب. و لما کان اللّه معروفا بالفضل و العطاء فقد عبر بعارفة (فالعارفة فی الواقع وردت هنا بمعنی المعروف) .

ثم إختتم هذه الخطبة الفریدة و العظیمة بدعائین جامعین عمیقی المعنی قال علیه السلام: «اللّهم وهذا مقام من أفردک بالتوحید الذی الذی هو لک، ولم یر مستحقاً لهذه المحامد والممادح غیرک؛ وبی فاقة إلیک لا یجبر مسکنتها إلّافضلک، ولاینعش (2)من خلتها (3)إلّامنک وجودک» ، فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام أراد أن یطرح هذه الحقیقة وهی أنی لاأثنی الاعلیک ولاأومل سواک،

ص:120


1- 1) «تعداد» بفتح التاء له کما صرح بذلک أرباب اللغة، ویعنی عد الشیء (واعتبره البعض مصدر ثلاثی مجرد، وقیل من باب تفعیل، کان تعدید ثم بدلت یاء، بالف وتلفظ تعداد بکسر التاء قلیل جداً) .
2- 2) «ینعش» من مادة «نعش» وهی فی الاصل بمعنی رفعه و أقامه، ویقال لجسد الانسان اذا خرجت منه الروح نعشاً، و کذلک للآلة التی یرفع فیها المیت بالنعش، و الذی یرفع لینقل إلی مکان مناسب.
3- 3) «خلة» الحاجة والفقر، کما وردت بمعنی الضعف.

ولیس هناک قادر علی طلبتی غیرک، وهذه هی حقیقة توحید الصفات وتوحید الأفعال، ثم یختتم الخطبة: «فهب لنا فی هذا المقام رضاک، وأغننا عن مد الایدی إلی سواک، إنّک علی کل شیء قدیر» ، ما أروع هذا الرجل العظیم الذی فاض کل هذه الفصاحة والبلاغة والعلم والمعرفة، ثم یختتم عباراته بهذا الدعاء العظیم الذی یکشف عن مدی تواضعه وتذلله للّه فیسأله رضاه ولایلتفت إلی أحد سواه.

تأمّل: فی اعجاز البیان.

کما أنّ القرآن الکریم من المعاجز الخالدة لنبی الإسلام صلی الله علیه و آله فانّ بعض خطب نهج البلاغة حقاً لفی حد الاعجاز! أی لایمکن أن تصدر سوی عن المعصوم، ولیس ذلک لاحد سواه. ومن ذلک هذه الخطبة المسماة بالاشباح. التی نعرض لشرحها.

فقد انطوت هذه الخطبة علی عبارات غایة فی الفصاحة والبلاغة، إلی جانب رقتها وحلاوتها وعذوبة الفاظها بحیث تتسلل إلی أعماق روح الإنسان فتملأها معنویة ونوراً وانفتاحاً علی الله سبحانه، أمّا المفردات التی استعملها الإمام علیه السلام فهی غایة فی العمق والرصانة بحیث لایمکن (الوقوف علیها دون الرجوع إلی مصادر العربیة وآدابها. أمّا مضمونها فهو الآخر (رصین) عمیق لایمکن تصور مثیله بشأن صفات الله وعلمه واحاطته بکل شئی؛ الأمر الذی یکشف عن حقیقة ما أورده الإمام علیه السلام فی الخطبة الثالثة المعروفة بالشقشقیة: «ینحدر عنی السیل ولایرقی الاالطیر» .

وأمّا من ناحیة الآثار التربوبیة، فقد تطرق علیه السلام إلی نعم الله سبحانه بأدق تفاصیلها بما یثیر حس الشکر لأی إنسان یتأملها ویری نفسه مقصرا أمام کل هذه النعم التی أفاضها علیه سبحانه، وإذا تأمل سعة علمه سبحانه وحضوره یدرک بکل کیانه معنی هذه العبارة «أنّ العالم حاضر عند الله، وعلیه فلاینبغی معصیته والتمرد علیه» أمّا الأدعیة العرفانیة آخر الخطبة والتواضع التام للإمام علیه السلام بعد کل هذا البیان فهو الآخر درس لکافة الأفراد فی عدم الغفلة والغرور والتوجه إلی الله وطلب الحاجات منه، کیف لا وهو الکریم، الرحیم، المنعم والغفور الودود.

ص:121

ص:122

الخطبة الثانیة و التسعون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

لما أراده الناس علی البیعة بعد قتل عثمان

نظرة إلی الخطبة

قال المرحوم العلّامة الخوئی - أحد شرّاح نهج البلاغة -: اعلم أنّ المستفاد من الروایات الآتیة وغیرها فی سبب هذا الکلام هو أنّ خلفاء الجور بعد ما غیروا سنة رسول الله صلی الله علیه و آله وسیرته التی کان یسیرها من العدل بالقسمة والمساواة بین الرعیة، ففضلوا العرب علی العجم، والموالی علی العبید، والرؤ ساء علی السفلة، وآثر عثمان أقاربه من بنی امیة علی سائر الناس وجری علی ذلک دیدنهم سنین عدیدة، واعتاد الناس ذلک أزمنة متطاولة حتی نسوا سیرة الرسول صلی الله علیه و آله وکان غرض الطالبین لبیعته علیه السلام أن یسیر فیهم مثل سیرة من سبق علیه من المتخلفین من تفضیل الشریف علی الوضیع، وکان علیه السلام تفرس ذلک منهم وعرفه من وجنّات حالهم فخاطبهم بهذا الکلام اتماماً للحجة واعلاماً لهم بأنّه علیه السلام ان قام فیهم بالأمر لا یجیبهم إلی

ص:123


1- 1) سند الخطبة: قال صاحب مصادر نهج البلاغة فی ذیل هذه الخطبة. رواه الطبری وابن الأثیر فی حوادث 35 ه بتفاوت یسیر جدا وکلام هذا نسجه لا سبیل إلی انکاره، ولذاتری الناس اختلفوا فی توجیهه بعد أن لم یسعهم رده. ویستفاد من المصدرین المذکورین أنّ الإمام علیه السلام لم یرد هذه العبارات لخطبة واحدة، بل حدث کلام بینه علیه السلام وبین الناس فی الخلافة، فحذف السید الرضی کلام الناس وذکر الإمام علیه السلام. فالمعروف ان مصدرین من مصادر العامة ذکرت هذه الخطبة قبل السید الرضی (تاریخ طبری 3/456، تاریخ الکامل لابن أثیر 3/190) والشیخ المفید فی الجمل /48 وابن الجوزی فی تذکره الخواص /57.

ما طمعوا فیه من الترجیح والتفضیل فقال علیه السلام: «دعونی والتمسوا غیری» للبیعة، «فانا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان» وهو إنذار لهم بالحرب وإخبار عن ظهور الفتن واختلاف الکلمات وتشتت الاراء وتفرق الأهواء (1)، کما أشار ضمنیا إلی زهده علیه السلام بالخلافة والمقامات الظاهریة. وقد رفض بیعة القوم، حتی لایتصور أحد أنّ قبول الإمام علیه السلام بیعة الناس کانت لرغبته بالخلافة.

ص:124


1- 1) منهاج البراعة 7/62.

«دَعُونی وَالْتَمِسُوا غَیْری؛ فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وأَلْوَانٌ؛ لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَیْهِ الْعُقُولُ. وَإِنَّ الْآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَکَّرَتْ. وَاعْلَمُوا أَنِّی إِنْ أَجَبْتُکُمْ رَکِبْتُ بِکُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَی قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَکْتُمُونِی فَأَناَ کَأَحَدِکُمْ؛ وَلَعَلَّی أسْمَعُکُمْ وَأَطْوَعُکُمْ لِمَنْ وَلَّیْتُمُوهُ أَمْرَکُمْ، وَأَنَا لَکُمْ وَزِیراً، خَیْرٌ لَکُمْ مِنِّی أَمِیراً!» .

الشرح والتفسیر

دعونی والتمسوا غیری

أورد شرّاح نهج البلاغة أبحاثاً مسهبة بشأن هذه الخطبة، وقد خاضوا بصورة مفصلة فی الإشکالات ذات الصلة بمسألة الإمامة. غیر أنّ البعض منهم لم یتعرض لشرح هذه الخطبة واتجه مباشرة للردّ علی الإشکالات. ونری من الضروری أن نخوض فی البدایة فی شرح الخطبة، ثم نسلط الضوء علی بعض الاسئلة والاستفسارات فی آخر البحث.

فقد ردّ الإمام علیه السلام علی اُولئک الذین بسطوا إلیه یدهم بالبیعة وانهالوا علیه من کل جانب، ظانین أنّ الإمام علیه السلام سیواصل سیاسة التمییز فی العطاء من بیت مال المسلمین، إلی جانب إغداق المناصب والمقامات بالقول: «دعونی والتمسوا غیری» ، ثم أشار علیه السلام إلی الدلیل علی ذلک بقوله: «فانا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان؛ لاتقوم له القلوب، ولا تثبت علیه العقول» ، فقد فقدت الأُمّة وحدتها إثر الأفعال الباهتة التی مارسها الخلفاء ولا سیما عثمان، فکان لکل رأیه، فأصبح الأعم الأغلب منهم کالصیاد الذی یبحث عن صیده، لیجدوا فی البحث عن الأموال والمناصب الدنیویة، وعلیه فانّ القضاء علی هذه الفرقة والتشتت وإعادة الاُمّة إلی سابق عزّها ووحدتها علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان یبدوا أمراً فی غایة الصعوبة والتعقید

ص:125

ولایمکن توقعه فضلاً عن تحققه علی الواقع العملی.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بالحدیث عن الآفاق المظلمة التی تلوح فی الآفاق وعدم التعرف علی الحق وصراطه المستقیم فی ظل هذه الأوضاع المضطربة: «وإن الافاق قد أغامت (1)، والمحجة (2)قد تنکرت» ، وذلک لأنّ الأهواء الشیطانیة والاطماع الدنیویة قد قلبت الموازین الفکریة للمجتمع بحیث یصعب علیه تمییز الصحیح من السقیم، وکیف یتخلص من المطبات التی تواجهه فی حیاته.

ثم أکد الإمام علیه السلام هذا الموضوع بأنّی إذا تقلدت هذه المسؤولیة فسوف لن أنتهج السیاسة الخاطئة التی کانت سائدة سابقاً، بل سأقتدی بهدی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی بسط الحق والعدل: «اعلموا أنی إن أجبتکم رکبت بکم ما أعلم، ولم أصغ إلی قول القائل وعتب (3)العاتب» - حیث لم یکن الطمع الذی عاشه الناس علی عهد عثمان یدعهم یتساوون مع الآخرین فکانوا یهربون من عدالة علی علیه السلام و یثیرون الفتن - فلم یکن أمام الإمام علیه السلام من سبیل سوی مخالفة الشرع و مواصلة الظلم أو السیرفیهم بالعدل الذی نشده من قام ضد عثمان، فلما سار بهم بعدله حدثت تلک الفتن التی توقعها الإمام علیه السلام. (4)

فی إشارة إلی أنّ الإمام علیه السلام کان یعلم بأنّ طلاب الدنیا من أهل المطامع والمصالح سیقفون حجرة عثرة فی طریقه من أجل اشاعة الحق وإجراء العدل وبسط القسط، وسیؤلبون الآخرین علیه ویهبوا لمعارضته والوقوف بوجهه، وکأنّ المبادی السیاسة لتلک المرحلة کانت تتطلب مواصلة الفوضی التی کانت سائدة والتطاول علی بیت المال واغداق المناصب والمهام علی أصحاب النفوذ والسطوة دون أی إستحقاق، وإن إنعکس ذلک سلباً علی الاُمّة وهضمها حقوقها؛ الأمر الذی کان فی مقدمة أهداف الأنبیاء والرسل القضاء علیه: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا

ص:126


1- 1) «أغامت» من مادة «غیم» غطیت بالغیم، کنایة عن اضطراب الأوضاع السیاسیة والاجتماعیة للمسلمین فی ذلک الزمان.
2- 2) «محجة» الطریق المستقیمة والواضحة سواء الظاهریة أم المعنویة، وقد اقتبست فی الأصل من مادة «حج» بمعنی القصد، لأنّ الإنسان یقصد دائما المشی علی الطریق المستقیم لیصل إلی الهدف.
3- 3) «عتب» مصدر بمعنی اللوم و التأنیب و التوبیخ.
4- 4) شرح نهج البلاغة للشیخ محمد عبده، ذیل الخطبة 92/233.

بِالبَیِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الکِتابَ وَالمِیزانَ لِیَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ» (1).

ثم ناشدهم علیه السلام اتماماً لحجة وإثبات مدی زهده بمقامات الدنیا ومظاهرها، ترکه لیکون کاحدهم فی الاُمّة: «وإن ترکتمونی فانا کأحدکم؛ ولعلی أسمعکم وأطوعکم لمن ولیتموه أمرکم» .

فالعبارة تشیر إلی أنّ الإمام علیه السلام کان یعیش عالما أخر غیر ذلک الذی تکالب علیه أهل المصالح من الذین رکنوا إلی الدنیا، هو لم یفکر لحظة قط فی أن تکون الخلافة لقمة سائغة، بقدر ما کان یراها مسؤولیة ثقلیة تهدف أول ما تهدف إلیه إحیاء القیم والمفاهیم الإسلامیة. وإلّا فهی لاتعدل عنده أکثر من عفطة عننر. ثم عاد القول علیه السلام علی أولئک الجماعة المتکالبة علی الدنیا والتی تطمع إلی المزید «وأنا لکم وزیراً، خیر لکم منی أمیراً» .

وذلک إنّی ان کنت أمیراً لحیل بینکم وبین العلو والاستبداد والتطاول علی حقوق المحرومین، أمّا أن أکون وزیراً فلکم أن تشیروا علیَّ وتنتفعون بما أریکم من الحق، دون أن أتحمل مسؤولیة أعمالکم. والحق أثبت التاریخ کل ما تکهن به الإمام علیه السلام فی هذه الکلمات الشریفة، وخلافاً لما یزعمه البعض من أصحاب النظرة الضیقة فانّ الإمام علیه السلام کان عالماً بکافة الظروف والملابسات التی أحاطت بخلافته، کما کان علی علم تام بردود الفعل التی سیمارسها الخصوم ضده، وعلیه فلم یقع ما لم یکن یتحسبه الإمام علیه السلام، إلّاأنّ الإمام علیه السلام کان ینتمی إلی مدرسة تملی علیه القیام بالمسؤولیة وإحیاء الدین ومفاهیمه السامیة وتعالیمه الحقة وإن کلفه ذلک حیاته، علی العکس من المدارس المادیة التی تری فی الحکومة هدفاً وکل ما سواها وسیلة یمکن التضحیة بها وقد مارس الإمام علیه السلام ما کان یقوله عملیاً، کیف لا وهو الذی اشتاط غضباً حین سأله عقیل ما لایستحقه من بیت المال فعامله بتلک الشدة والصرامة، لیثبت أنّه یسیر فی الناس بما یعلم ولایأبه بعتب العاتب کائناً من کان. لم یکن اُسلوبه اُسلوب من سبقه من الخلفاء قط، وهو الذی لم یجمع لنفسه شیئاً من حطام الدنیا، حتی خاطب الاُمّة قائلاً: «دخلت بلادکم با شمالی هذه ورحلتی، وراحلتی، ها هی فان أنا خرجت من بلادکم بغیر ما دخلت فإننی من الخائنین» ، (2)والعجیب أنّ الإمام علیه السلام قد سلک سبیلاً یتناقض تماماً وما

ص:127


1- 1) سورة الحدید/25. [1]
2- 2) بحارالانوار 40/325. [2]

ینتهجه الیوم الحکام والرؤوساء حین شروع الحملات الانتخابیة، حیث یبذلون قصاری جهدهم لتقدیم الوعود المعسولة للاُمّة والشعارات المزیفة الفارغة، بل لایتورعون عن ارتکاب أی خلاف من أجل کسب ود الناس والحصول علی آرائهم. فالإمام علیه السلام یعلن بکل وضوح أهدافه، وان تعارضت هذه الأهداف مع الکثیر منهم ولم تنسجم مع طموحاتهم ورغباتهم. وبغیة التنبیه إلی عدم الغفلة والخداع، فانّه یکشف النقاب عن جسامة الأوضاع فی المستقبل؛ الأمر الذی لایری له مثیلاً علی مدی التأریخ بالنسبة للخلفاء والحکام.

تأمّلات

1 - لم قال دعونی؟

استغرق شرّاح نهج البلاغة وسائر علماء الإسلام کثیراً فی کلام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام: دعونی والتمسوا غیری. فذهب البعض إلی أنّه قال ذلک لعدم وجود النص علی الإمامة والولایة، فهبت طائفة من مثقفی العصر لتری فی ذلک الکلام انه یشکل الدلیل علی إصالة رأی الامة فی الحکومة واختیار القائد، ونری من الضرورة بمکان أن نسلط الضوء علی الشرائط الزمانیة والمکانیة التی کانت سائدة آنذاک والتی دفعت بالإمام علیه السلام إلی هذا الکلام قبل أن نعلن عن رأینا بهذا الشأن بغیة تفادی الزلل والانحراف عن حقیقة الأمر:

1 - إنّما صدر هذا الکلام من الإمام علیه السلام إثر مقتل عثمان بفعل ذلک البذخ والتطاول علی بیت المال المسلمین وتسلیط بنی أمیة علی رقاب المسلمین، وظهور حالة الاستیاء العامة فی أغلب مناطق البلاد الإسلامیة آنذاک، ممّا دفع بالاُمّة إلی الهجوم علی الإمام علیه السلام وبسط یدها إلیه بالبیعة. فقد اعتاد کبار الاُمّة سیاسة عثمان لیتوقعوا من الإمام تحقیق رغباتهم وتقسیم بیت المال بینهم حسبما یحلو لهم، إلی جانب أولئک الذین کانوا یحلمون بأن یمنحهم الإمام علیه السلام مقابل بیعتهم بعض المناصب الحساسة فی البلاد لیکونوا عماله وولاته علی بعض الأمصار فیحکموا سیطرتهم علی البلاد.

أضف إلی ذلک فانّ الاُمّة قد ابتعدت عن قیمها الإسلامیة، وقد دفعتها الفتوحات وما جرتها علیها من غنائم وثروات إلی الاقبال علی الدنیا وزخارفها وتفشی الأفکار الجاهلیة

ص:128

ونسیان حیاتها التی شهدتها علی عهد النبی صلی الله علیه و آله بفعل عدم التفات الخلفاء لهذا الأمر. ومن هنا رأی الإمام علیه السلام نفسه أمام مفترق طرق؛ إمّا الاستسلام للبیعة فی تلک الظروف العصیبة والتأهب لتلک الحوادث والأزمات، وأمّا رفض البیعة وترک الاُمّة وشأنها.

2 - لم یکن الإمام علیه السلام کساسة الدنیا لیخفی أهدافه الحقیقیة التی سیسعی إلی تطبیقها فیما لو تولی الخلافة والحکومة الإسلامیة، فیجر الاُمّة بوعوده المعسولة إلی البیعة، ثم یکشف عن برامجه وخططه بعد أن یتربع علی عرش السلطة وتستتب له الاُمور ویحکم قبضته علی الناس! نعم هیهات أن یفکر الإمام علیه السلام بمثل هذه المراوغات والأسالیب المظللة. ومن هنا حذر الاُمّة من عظم المسؤولیة التی ینبغی أن تنهض بها فیما لو لبی بیعتها وتولی زعامتها. فمن الطبیعی الا یکون هناک من مبرر لخداع الاُمّة بغیة حصول الأهداف الإسلامیة واشاعة المفاهیم السماویة.

3 - لاشک أنّ الإمام علیه السلام أجدر أفراد الاُمّة علی الخلافة لیس فی ذلک الزمان فحسب، بل فی الزمان الذی سبقه حیث ولایقتصر الإعتراف بذلک علی الإمام صرح قائلاً: «إنّه لیعلم أن محلی منها محک القطب من الرحا» (1)، وحین جعله عمر أحد أعضاء الشوری فقال: «متی إعترض الریب فی مع الأول منهم حتی صرت أقرن إلی هذه النظائر» (2)، ولما أرادت الاُمّة أن تبایعه بعد عثمان إذ قال: «ولقد علمتم أنی أحق الناس بها من غیری» (3)، بل کان یراه کذلک حتی خصومه (وإن لم تشهد السیاسة مثل هذا الأمر) ومن ذلک ما قاله عمر حین انتخاب الشوری: «أمّا واللّه لئن ولیتهم لتحملنهم علی الحق الواضح والمحجة البیضاء» (4)، کما ذکر الطبری أنّ أبابکر حین ولی الخلافة، تطرق لعدم أحقیته فیها طبق أغلب الروایات فقال: «أیهاالناس! فانّی ولیت علیکم ولست بخیرکم» (5).

ص:129


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 3. [1]
2- 2) نهج البلاغة، الخطبة 3. [2]
3- 3) نهج البلاغة، الخطبة 74. [3]
4- 4) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1/186؛ [4] وقد نقل هذا المضمون الطبری فی 3/294 حوادث عام 23 هباختلاف طفیف.
5- 5) تاریخ الطبری 2/405. [5]

بل ورد فی بعض الروایات أنّ أبابکر قال: «أقیلونی! فلست بخیرکم وعلی فیکم» (1)، فبالنظر إلی ما أوردنا من محکمات التأریخ والأخبار، یمکن القول بأنّ الإمام علیه السلام أراد أن ینفی عن نفسه فی هذه الخطبة رغبته بمسألة الخلافة، ویکشف عن ذروة تواضعه فی هذا الأمر، کما أراد أن یفهم الاُمّة التی أصرت علی البیعة انه ان ولی أمرها فسوف لن یسیر بتلک الأسالیب الخاطئة، ولیس أمامه سوی سلوک سبیل الحق واحیاء عصر النبی صلی الله علیه و آله، وأنّ أثار ذلک حفیظة البعض وأدی إلی إنزعاجه، لیؤدّی به ذلک إلی رفع رایة المعارضة والوقوف بوجه الإمام علیه السلام. وعلی هذا الضوء لانری هناک من حاجة لأن نبحث فی هذه المسألة، هل الخطبة دلیل علی عدم النص علی الإمامة، أو القول بأنّ معیار الإمامة والخلافة إنّما یکمن فی آراء الاُمّة لاغیر. وذلک لأنّ هذا القول إنّما یصدر ممن اکتفی بالنظر إلی ظاهر الخطبة، واغمض عینیه عن جمیع القرائن التأریخیة وسائر کلمات الإمام علیه السلام فی نهج البلاغة.

2 - لم لا یتحملوا عدالة علی علیه السلام؟

لاشک أن بیعة علی علیه السلام - وطبق أقوال جمیع المؤرخین - کانت الأعظم والأکمل بیعة، ولاسیما مقارنة ببیعة السقیفة التی لم تتجاوز بضعة أشخاص، وقد استندت بیعة عمر إلی وصیة الخلیفة الأول، کما تمت البیعة لعثمان بثلاثة آراء من تلک الشوری المؤلفة من ستة أعضاء، أمّا البیعة لعلی علیه السلام فقد تمت من قبل جمیع أبناء الاُمّة، مع ذلک کان الإمام علیه السلام مکرها علی قبولها بسبب تلک الظروف الصعبة والملابسات التی عاشها المجتمع الإسلامی من جراء سیاسة الخلفاء، فقد أورد المؤرخ المعروف ابن أثیر فی الکامل بهذا الشأن قائلاً: أتی المصریون علیاً علیه السلام بعد مقتل عثمان وقال بعضهم لبعض لئن رجع الناس إلی أمصارهم بغیر إمام لم نأمن الاختلاف وفساد الاُمّة. فغشی الناس علیاً علیه السلام بعد أن باعدهم وقالوا له: نبایعک فقد تری ما نزل بالإسلام وما ابتلینا به من بین القری. فقال علی علیه السلام: «دعونی والتمسوا غیری فانا مستقبلون أمرا له وجوه وله ألوان لاتقوم به القلوب ولاتثبت علیه العقول» . فقالوا:

ص:130


1- 1) احقاق الحق 8/240. [1]

ننشدک الله! ألا تری ما نحن فیه؟ ألا تری الإسلام؟ ألاتری الفتنة؟ ألا تخاف الله؟ فقال: «قد أجبتکم، واعلموا أنی إن اجبتکم رکبت بکم ما أعلم، وان ترکتمونی فانما أنا کاحدکم، الا أنی أسمعکم وأطوعکم لمن ولیتموه» ، ثم افترقوا علی ذلک واتعدوا الغد. وتشاور الناس فیما بینهم وقالوا: إن دخل طلحة والزبیر فقد استقامت، فبعث البصریون إلی الزبیر حکیم بن جبلة وقالوا: احذر تحابه ومعه نفر، فجاؤوا به یحدونه بالسیف، فبایع، وبعثوا إلی طلحة الأشتر ومعه نفر، فاتی طلحة، فقال: دعونی أنظر ما یصنع الناس، فلم یدعه، فجاء به یتله تلاً عنیفاً، وصعد المنبر فبایع - ثم خاض ابن أثیر فی تفاصیل بیعة عامة الاُمّة. (1)

فالحق أنّ علیاً علیه السلام کان یعلم مدی صعوبة السیر علی الحق وبسط العدل فی ربوع هذه الجماعة التی تربت علی مفردات الظلم والجور، مع ذلک لم یکن یتوانی علیه السلام من التضحیة حتی بنفسه من أجل حفظ المبادیء الإسلامیة فلم یکن هدف الإمام علیه السلام الاستیلاء علی الخلافة مهما کان الثمن، بل کان یری الحکومة وسلیة لحفظ القیم الإسلامیة؛ الأمر الذی یصعب إدراکه علی من لیس له علم بفحوی رسالة الأنبیاء والاولیاء، فقد نقل ابن أبی الحدید عبارة رائعة عن بعض العلماء بهذا الشأن إذ قال: وبهذا ونحوه استدل أصحابنا المتکلمون علی حسن سیاسته وصحة تدبیره، لأنّ من منی بهذه الرعیة المختلفة الأهواء، وهذا الجیش العاصی له، المتمرد علیه، ثم کسر بهم الأعداء، فلیس یبلغ أحد فی حسن السیاسة وصحة التدبیر مبلغه. إنّ سیاسته علیه السلام إذا تاملها المنصف متدبراً لها بالاضافة إلی احواله التی دفع الیها مع أصحابه، جرت مجری المعجزات لصعوبة الأمر وتعذره. (2)

3 - لم وزارته علیه السلام خیر من إمارته؟

إضافة إلی إمکانیة حمل عبارة الإمام علیه السلام «أنا لکم وزیراً، خیر لکم منی أمیراً» ، علی نوع من التواضع واتمام الحجة، فانه یمکن توجیهها بشکل آخر، وهو أنّ علیاً علیه السلام لو أصبح أمیراً لکانت معارضته والوقوف بوجهه مدعاة إلی الکفر، وذلک لأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال له کما روی

ص:131


1- 1) الکامل لابن أثیر 3/193. [1]
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/73. [2]

فی الخبر المعروف «حربک حربی» (1)، ولما کانت حرب رسول الله صلی الله علیه و آله کفراً، فان حرب علی علیه السلام کفراً. أمّا لو کان علیه السلام وزیراً فانّ الخروج علی تلک الحکومة لایؤدی إلی الکفر.

وزبدة الکلام فان بعض المغرضین حاول استغلال هذه الخطبة وتفسیرها خلافاً لاُصول وعقائد التشیع، والحال لیس فیها ما یدعوا إلی هذا الأمر، لأنّ الإمام علیه السلام أراد أن یبین زهده بهذا المقام الظاهری من جانب وأنّ الآخرین یفقدون صوابهم لأدنی من هذا الأمر. ومن جانب آخر فقد کشف الإمام علیه السلام قمة تواضعه بهذه العبارات للمؤمنین من أبناء الاُمّة. کما حذر فیها واتم الحجة بانّی إذا نهضت بالأمر فلن أعمل سوی بالکتاب والسنة والحق والعدل ورضی اللّه، ولا تتوقعوا أن أواصل ما شهدتم من سیاسة، وترسیخ دعائم الحکم علی الظلم والجور.

وأخیراً لا تعتقدوا بأنّی غافل عن عواصف المستقبل وأنّی متطلع إلی الخلافة لأراها سهلة ذلول، فأنّی لعلی یقین من أنّ الخلافة فی هذه الظروف خطیرة کرکوب الدابة الجموح کالمرکب الجموح ولا اقبلها إلّابفضلها وظیفة وتکلیف إلهی، وبخلافه فلا قیمة لها عندی.

ص:132


1- 1) روی ابن المغازلی أحد علماء العامة فی مناقبه عن ابن عباس أنّ النبی صلی الله علیه و آله قال لعلی علیه السلام: «سلمک سلمی وحربک حربی» (مناقب ابن المغازلی/50) .

الخطبة الثالثة و التسعون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

وفیها ینبّه أمیرالمؤمنین علیه السلام علی فضله وعلمه ویبیّن فتنة بنی أمیة

أشار علیه السلام نظرة إلی الخطبة فی هذا الخطبة إلی فتنة بنی أمیة وقدنبّه إلی عظم خطورتها، لأنّ الناس کلهم کانوا یهابون قتال أهل القبلة، ولا یعلمون کیف یقاتلونهم، هل یتبعون مولیهم أم لا؟ وهل یجهزون علی جریحهم أم لا؟ واستعظموا أیضاً حرب عاشئة وحرب طلحة والزبیر، لمکانهم فی الإسلام، فلولا أنّ الإمام علیه السلام اجترأ علی سل سیفه فیها. ما أقدم أحد علیها حتی الحسن علیه السلام. ثم قال علیه السلام سلونی قبل أن تفقدونی. فقد روی صاحب کتاب الاستیعاب بن عبد البر عن جماعة من الرواة والمحدثین، قالوا لم یقل أحد من الصحابه «سلونی» إلّاعلی بن أبی طالب. (2)

ص:133


1- 1) سند الخطبة: قال ابن أبی الحدید هذه الخطبة ذکرها جماعة من أصحاب السیرة، وهی متداولة منقولة مستفیضة، خطب بها علی علیه السلام بعد انقضاء أمر النهروان، وفیها ألفاظ لم یروها الرضی (ره) (شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/57) [1] کما ورد فی مصادر نهج البلاغة [2]أنّ من رواها ابن واضع فی تاریخه (تاریخ الیعقوبی 2/193) وأبو نعیم فی حلیة الأولیاء وابن أثیر فی النهایة. کما رواها العلّامة المجلسی عن کتاب الغارات الثقفی (مصادر نهج البلاغة 2/178) [3] فالذی یستفاد من هذه النقول أنّ هذه الخطبة من الخطب المعروفة التی ذکرت فی عدة مصادر.
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/46 و 13/106. [4]

ص:134

القسم الاوّل: أنا فقأت عین الفتنة

«أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَیْهِ، أَیُّهَا النَّاسُ فَإِنِّی فَقَأْتُ عَیْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ یَکُنْ لِیَجْتَرِیءَ عَلَیْهَا أَحَدٌ غَیْرِی بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَیْهَبُهَا وَاشْتَدَّ کَلَبُهَا. فَأَسْأَلُونی قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونی، فَوَ الَّذِی نَفْسِی بَیَدِهِ لاَتَسْأَلُونِی عَنْ شَیْءٍ فِیمَا بَیْنَکُمْ وَبَیْنَ السَّاعَةِ، ولاَ عَنْ فِئَةٍ تَهْدِی مِئَةً وَتُضِلُّ مِئَةً إِلاَّ أَنْبَأْتُکُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا، وَمُنَاخِ رِکَابِهَا، وَمَحَطِّ رِحَالِهَا، وَمَنْ یُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً، وَمَنْ یَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً. ولَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونی وَنَزَلَتْ بِکُمْ کَرَائِهُ الأُمُورِ، وَحَوَازِبُ الْخُطُوبِ، ولأَطْرَقَ کَثیرٌ مِنَ السَّائِلِینَ، وَفَشِلَ کَثیرٌ مِنَ المَسْؤُولِینَ، وَذلِک إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُکُمْ، وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ، وَضَاقَتِ الدُّنْیَا عَلَیْکُمْ ضِیقاً، تَسْتَطِیلُونَ مَعَهُ أَیَّامَ الْبَلاءِ عَلَیْکُمْ، حَتَّی یَفْتَحَ اللّهُ لِبَقِیَّةٍ الأَبْرَارِ مِنْکُمْ» .

الشرح والتفسیر

بعد أن حمد الإمام علیه السلام الله وأثنی علیه خاطب الناس قائلاً: « أمّا بعد حمدالله، والثناء علیه، أیها الناس! فانی فقأت (1)عین الفتنة، ولم یکن لیجتریء علیها أحد غیری بعد أن ماج غیهبها (2)واشتد کلبها (3)» .

ص:135


1- 1) «فقأت» من مادة «فقأ» علی وزن فقر القلع بمعنی تغلبه علیها.
2- 2) «غیهب» من مادة «غهب» علی وزن وهب الظلمة وشدة السواد، وتستعمل فی اللیالی الدامسة الظلام، کما تعنی فی الأصل الغفلة والنسیان المناسب للظلمة.
3- 3) «کلب» علی وزن طلب من مادة «کلب» علی وزن قلب داء معروف یصیب الکلاب، فکل من عضته2 أصیب به فجن ومات إن لم یبادر بالدواء. ومن هنا یستعمل فی الحوادث الألیمة والحروب الطاحنة وهجوم الحیوانات الوحشیة المفترسة.

وقد اختلفت أقوال الشرّاح فی المراد بهذه الفتنة، فقد ذهب البعض إلی أنّ المراد بها وقعة الجمل، حیث أصابت فیه الحیرة السذج من الأفراد وحتی من لم یکن یمتلک الإیمان والعلم العادی، فی أنّه هل یجوز قتال فئة تنتحل الإسلام ظاهرا و هی من أهل القبلة؟ کیف وفیها بعض کبار الصحابة کطلحة والزبیر، وکذلک زوج رسول اللّه صلی الله علیه و آله عائشة، وناهیک عما سبق فاذا تمت الحجة ونشبت الحرب، فهل یمکن السیطرة علی أموالهم کغنائم؟ وکیف سیعامل أسراهم؟ إلّاأنّ الإمام علیه السلام کان یعلم بأنّ هذا النقض للعهود والمواثیق، وشق عصا الاُمّة وتمزیق وحدتها، إذا استمر فانّ الفتنة ستعم کافة البلاد الإسلامیة حتی لایبقی من الإسلام إلّا اسمه، ومن القرآن إلّارسمه وستطمس معالم الدین. فبذل الإمام علیه السلام بادیء الأمر قصاری جهده من أجل اتمام الحجة محذرا الطرف المقابل من العواقب الوخیمة وذلک من خلال الکتب والرسل التی کان یبعث بها إلیهم، فلما لم یستجیبوا، لم یکن أمام الإمام علیه السلام من سبیل إلا القتال، ومن هنا واجههم الإمام علیه السلام بتلک الشدة والصرامة حتی أخمد فتنة الجمل، بینهما ذهب البعض الآخر إلی أنّ المراد بها فتنة الخوارج من النهروان لأن ظاهر الخوارج کان یتصف بنوع من الصلاح والقدسیة، رغم انحرافهم الباطنی وحماقتهم وجهلهم بالتعالیم الإسلامیة، بینما کانوا یولون عنایة فائقة لأدنی المستحبات والمندوبات، ولذلک تردد الکثیر من السذج فی قتالهم، بینما نهض الإمام علیه السلام بالأمر لیواجه هذه الفتنة ویفقأ عینها، کما ذهب بعض الشرّاح إلی أنّ المراد بها الفتنة بمفهومها العام، حیث یعتقدون أنّ هذه الفتن قد بدأت علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی موقعة بدر واستمرت فی سائر الغزوات، ثم استفحلت وتفاقم خطرها بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله، ثم امتدت لتشتد فی زمان عثمان، فلما قتل وبایع الناس الإمام علیه السلام تجذرت هذه الفتنة لتتخذ أشکالاً اُخری، لیواجهها الإمام علیه السلام بالسیف أحیاناً، وبالصبر والتحمل والتحذیر والنذیر أحیاناً اُخری ولکن یبدو تفسیرها بالجمل أنسب من غیره أمّا التعبیر: «عین الفتنة» فیفید أنّ الإمام علیه السلام قد شبه الفتنة بشبح وحشی کاسر، وإذا فقأت عینه سلبت قدرته وحیویته، کما تشیر إلی أنّ الإمام علیه السلام کان یتجه فی مجابهته للفتنة إلی مراکزها الأصلیة ورموزها الأساس،

ص:136

ولایقصد العناصر الثانویة هناوهناک، فالفتنة تزول إذا مازال مرکزها؛ وهذا هو الطریق الافضل الذی ینبغی اتخاذه فی مواجهة الفتن والدسائس. ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی مسألة ذات أهمیة بالغة جدا فقال علیه السلام: «فاسألونی قبل أن تفقدونی» . کما ذکر سابقا فقد قال المحققون لم یکن لیقول هذا الکلام غیر علی بن أبی طالب، و ذلک لأنه کان واسع العلم بأحداث الماضی و الحاضر و المستقبل بحیث یجیب یرد علی کل سؤال بشأن المعارف و الأحکام، و هو العلم الذی تعلمه من رسول اللّه صلی الله علیه و آله الذی أخذه عن الوحی.

قال الشارح المعتزلی روی صاحب کتاب الاستیعاب عن جماعة من الرواة والمحدثین قالوا لم یقل أحد من الصحابة عنهم سلونی إلّاعلی بن أبی طالب، وقال أبو جعفر الاسکافی فی کتاب نقض العثمانیة: لیس لأحد من الناس أن یقول علی المنبر سلونی إلّاعلی بن أبی طالب علیه السلام.

وقیل إنّ ابن الجوزی قال یوماً علی منبره: سلونی قبل أن تفقدونی، فسألته أمرأة عما روی أنّ علیاً سارفی لیلة إلی سلمان فجهزه ورجع، فقال: روی ذلک، قالت: فعثمان ثم ثلاثة أیام منبوذاً فی المزابل وعلی علیه السلام حاضر، قال: نعم، فقالت: قد لزم الخطاء لأحدهما، فقال: ان کنت خرجت من بیتک بغیر اذن زوجک فعلیک لعنة اللّه وإلّا فعلیه، فقالت: خرجت عائشة لحرب علی باذن النبی صلی الله علیه و آله أم لا؟ فانقطع ولم یحر جواباً (1)ثم قال علیه السلام: «فو الذی نفسی بیده! لاتسألونی عن شیء فیما بینکم وبین الساعة، ولاعن فئة تهدی مئة وتضل مئة إلّا أنبأتکم بناعقها (2)وقائدها وسائقها، ومناخ (3)رکابها، ومحط رحالها، ومن یقتل من أهلها قتلاً، ومن یموت منهم موتاً» ربّما یتکهن الکثیر من الناس بصورة کلیة ومبهمة عن بعض حوادث المستقبل، وهذا ما نلمسه بوضوح لدی الساسة الذین یتکهنون ببعض الاُمور التی قد تصیب وقد تخطیء. إلّاأنّ أحداً لم یتمکن بالتکهن بدقائق الاُمور وأدنی التفصیلات وبالنسبة

ص:137


1- 1) منهاج البراعة 7/74.
2- 2) «ناعق» من مادة «نعق» علی وزن ضرب من نعق بغنمه صاح بها لتجتمع وتستعمل فی الافراد السذج الذین یتحرکون بواعز من المفسدین.
3- 3) «مناخ» من مادة «نوخ» بمعنی أقام، و «مناخ» یطلق علی المکان الذی یبرک فیه البعیر، وتستعمل بشکل واسع ککنایة عن محل الإقامة.

لتلک الأزمان البعیدة، إلّالمن ارتبط بمصادر الوحی واستند إلی المدد الإلهی والعلم المطلق.

والعجیب فی الأمر أنّ الإمام علیه السلام أکد فی هذه العبارة أنی أستطیع أن أخبرکم بکافة الحوادث القادمة إلی یوم القیامة من جانب، ومن جانب آخر أشار إلی جزئیات هذه الحوادث وتفاصیلها. الأمر الذی لا یتیسر إلّاللنبی ومن یستقی علومه ومعارفه منه، وهنا یبرز هذا السؤال: هل للنبی أو الإمام العلم بالغیب، وبهذه السعة والشمولیة، والحال هذا القرآن یصرح: «قُلْ لا یَعْلَمُ مَنْ فِی السَّمواتِ وَالأَرْضِ الغَیْبَ إِلّا اللّهُ» (1)، وتبدو الاجابة واضحة ومعروفة علی هذا السؤال، علی ضوء ما ورد فی الآیات القرآنیة، وکلمات الائمة علیه السلام ولاسیما الإمام علیه السلام فی أن علم الغیب بالذات مختص بالله سبحانه، والله سبحانه یطلع من یشاء من أولیائه علی ذلک العلم، کما ورد ذلک فی الآیة 26 - 27 من سورة الجن: «عالِمُ الغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَداً * إِلّا مَنِ ارْتَضی مِنْ رَسُولٍ» ، وسیأتی عما قریب أنّ الإمام علیه السلام حین أخبرعن بعض الحوادث، فتبادر هذا السؤال إلی ذهن أحد الأفراد بشأن علم الإمام علیه السلام للغیب، ردّ علیه علیه السلام بالقول: «لیس هو بعلم غیب، وإنّما هو تعلم من ذی علم» ، فی إشارة واضحة إلی أنّ الغیب الذاتی للّه، وعلم الإمام علیه السلام إکتسابی، فقد تعلم جمیع هذه الاُمور من رسول اللّه صلی الله علیه و آله الذی تعلمها من اللّه سبحانه وتعالی (وسیمر علینا فی البحث القادم شرح هذا الکلام) . علی کل حال، لم یقل مثل هذا الکلام بعد رسول اللّه أحد سوی أمیرالمؤمنین، إلّاأنّ الإمام أورد ذلک کراراً ومراراً لیقع عین ما کان یخبر به علیه السلام. وقد أفرد ابن أبی الحدید فی شرحه لنهج البلاغة فصلاً أسماه الاُمور الغیبة التی أخبر عنها الإمام علیه السلام أورده فی ذیل هذه الخطبة، وسنشیر إلیه فی البحث القادم.

والعبارة: «ولاعن فئة تهدی مئة. . .» إشارة إلی أنّ الإمام علیه السلام لایخبر عن الجماعات الکثیرة والوقائع الخطیرة فحسب، بل یستطیع الأخبار عن صغائر الحوادث ببرکة ذلک التعلیم الإلهی. ثم أشار علیه السلام إلی نقطتین بهذا الشأن:

الاولی: لتشجیع أولئک علی السؤال عن المسائل المصیریة، حذراً من ندمهم یوماً حین

ص:138


1- 1) سورة النمل/65 ( [1]کما ورد شبیه هذا المضمون فی آیات متعددة اُخری) .

تضطرب علیهم الاُمور فیحل مشاکلهم: «ولو فقدتمونی ونزلت بکم کرائه (1)الاُمور، وحوازب (2)الخطوب، لأطرق کثیر من السائلین، وفشل کثیر من المسؤولین» أی أسألونی مادمت بینکم، فلیس لأحد بعدی أن یرد علی ما یدور فی أذهانکم، آنذاک لیس لکم سوی الندم.

الثانیة: إشارة إلی الأزمات والخطوب المرتقبة، لیستعدوا لها، کما تبشر من جانب آخر الأخیار والصالحین بالفتح «وذلک إذا قلصت (3)حربکم، وشمرت (4)عن ساق، وضاقت الدنیا علیکم ضیقاً، تستطیلون معه أیام البلاء علیکم، حتی یفتح الله لبقیة الأبرار منکم» ، فالإمام علیه السلام أشار - إلی سیطرة الجناة من حکام بنی أمیة وسیطرتهم علی مقدرات الاُمّة الإسلامیة وغصب أموالها، ولیس لمن یقف بوجههم سوی الضربات الماحقة الشدیدة، والحق أنّ جرائمهم وجنایاتهم لتفوق الخیال والتصور، وما أروع عبارة الإمام علیه السلام بهذا الشأن حین قال: «ضاقت الدنیا علیکم ضیقاً» لتصور بعض الفضائع التی ارتکبها بنی أمیة بحق الناس.

أمّا قوله علیه السلام: «حتی یفتح الله لبقیة الابرار منکم» ، فیمکن أن یکون إشارة إلی زوال حکومة بنی أمیة، لیتنفس المسلمون بعدها الصعداء، حیث سیتربص بهم العباسیون الذین لم تشتد قوتهم آنذاک. کما یمکن أن تکون إشارة إلی الحکومة العالمیة للإمام المهدی علیه السلام التی تقتلع جذور الظلم والجور وتنهی کافة أشکال التسلط والهیمنة وترسی قواعد العدل والقسط، وإلیک طائفة من الاُمور الغیبیة التی أخبر عنها الإمام علیه السلام ثم تحققت، تأمل نبوءات الإمام علیه السلام أفرد ابن أبی الحدید فصلاً بهذا الشأن فقال: واعلم أنّه علیه السّلام قد أقسم فی هذا الفصل باللّه الذی نفسه بیده أنّهم لایسألونه عن أمر یحدث بینهم وبین القیامة إلّاأخبرهم به، وأنّه ما صحّ من طائفة من الناس یهتدی بها مائة وتضلّ بها مائة، إلّاوهو مخبرٌ لهم - إن سألوه - برعاتها وقائدها وسائقها ومواضع نزول رکابها وخیولها؛ ومَنْ یقتل منها قتلاً، ومَنْ یموت منها

ص:139


1- 1) کرائه جمع کریهة.
2- 2) حوازب جمع حازب من مادة حزب علی وزن جذب الأمر الشدید.
3- 3) «قلص» من مادة «قلوص» بتشدید اللام تمارت واستمرت.
4- 4) «شمر» من مادة «تشمیر» ویطلق علی عملیة رفع الثوب عن الساقین و التهیؤ والاستعداد للقیام بعمل ما. و «شِمر» تطلق علی الاشخاص ذوی الجد و التجربة، وکذلک تطلق علی الاشرار.

موتاً؛ وهذه الدعوی لیست منه علیه السلام ادّعا الرّبوبیة، ولا إدّعاء النبوة؛ ولکنه کان یقول: إنّ رسول صلی اللّه علیه وآله أخبرَه بذلک؛ ولقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقاً، فاستدللنا بذلک علی صدق الدعوی المذکورة، کإخباره عن الضربة التی یضرب بها فی رأسه فتخضب لحیته، وإخباره عن قتل الحسین ابنه علیهما السلام؛ وما قاله فی کربلاءِ حیث مرّبها، وإخباره بملک معاویة الأمر من بعده، وإخباره عن الحجاج؛ وعن یوسف بن عمر؛ وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان، وما قدمه إلی صحابه من إخباره بقتل من یقتل منهم وصلب من یصلب وإخباره بقتال الناکثین والقاسطین والمارقین، وإخباره بعدّة الجیش الوارد إلیه من الکوفة لما شخص علیه السلام إلی البصرة لحرب أهلها، هذه شهادة ضد من لایعتقد بإمامته علیه السلام علی أنه الإمام المعصوم؛ بینما المسألة واضحة لنا تماما. فالائمة ورثة علوم النبی صلی الله علیه و آله إلی جانب إدراکهم للحقائق القرآنیة التی یعجز عن درکها الاخرون، مع مالهم من إلهامات غیبیة و سنبحث فی حینه فی ذیل بعض الخطب بشأن سعة علم الإمام.

ص:140

القسم الثانی: فتنة بنی أمیة

اشارة

«إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ؛ یُنْکَرْنَ مُقْبِلاتٍ، وَیُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ، یَحُمْنَ حَوْمَ الرِّیاحِ، یُصِبْنَ بَلَداً وَیُخْطِئْنَ بَلَداً. أَلاَ وإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِی عَلَیْکُمْ فِتْنَةُ بَنِی اُمَیَّةَ، فإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْیَاءُ مُظْلِمَةٌ: عَمَّتْ خُطَّتُهَا، وَخَصَّتْ بَلِیَّتُهَا، وَأَصَابَ الْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِیهَا، وَأَخْطَأَ الْبَلاءُ مَنْ عَمِیَ عَنْهَا، وَایْمُ اللّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِی أُمَیَّةَ لَکُمْ أَرْبَابَ سُوْءٍ بَعْدِی، کَالنَّابِ الضَّرُوسِ، تَعْذِمُ بِفِیهَا، وَتَخْبِطُ بِیَدِهَا، وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا، وَتمنَعُ دَرَّهَا، لاَیَزَالُون بَلاؤُهُمْ عَنْکُمُ حتّی لایَکُون انْتِصارُ أَحَدِکُمْ مِنْهُمْ إلاّ کَانْتِصارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَالصَّاحِبِ مِنْ مُستَصْحِبِهِ، تَرِدُ عَلَیْکُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِیَّةً، وَقِطَعاً جَاهِلِیَّةً، لَیْسَ فِیهَا مَنَارُ هُدیً، وَلاَ عَلَمٌ یُرَی» .

الشرح والتفسیر

أخبرالإمام علیه السلام فی القسم الأول من هذه الخطبة عن جانب من الحوادث المستقبلیة والفتن التی ستصیب المسلمین، ثم واصل هنا الکلام عن أولاً: الإشارة إلی القانون العام ذات الصلة بالفتن؛ القانون الذی یؤدی العلم به إلی الحد من خطر هذه الفتن، ثانیاً: الحدیث عن فتنة خاصة - وهی فی الواقع من أهم الفتن - وتحذیر الناس منها، وهی فتنة بنی أمیة التی تطرق الإمام علیه السلام إلی أغلب ممیزاتها. فقد قال علیه السلام بادیء ذی بدء، أنّ الفتن عادة ما تتلبس بلباس الحق إذا أقبلت، فاذا أدبرت نبهت الناس إلی ما هیتها «إن الفتن إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت نبهت» .

ص:141

ثم أشار علیه السلام إلی نقطة فی الحقیقة هی علة هذا الأمر، وهی أنّ هذه الفتن مجهولة عند الاقبال، معروفة عند الإدبار «ینکرن مقبلات ویعرفن مدبرات» ، فهذه نقطة اجتماعیة سیاسیة غایة فی الأهمیة، وهی أنّ أصحاب الفتنة والانحراف إنّما یحاولون تنمیق ظاهرهم لیخفون صورتهم الکریهة فی إطار الحق لیستقطبوا الناس إلیهم، فاذا استتب لهم الأمر کشفوا عن أنیابهم الکریهة حتی یطاح بهم.

ومن هنا فانّ دعاة الحق مطالبون علی الدوام بالنظر بمنتهی الحیطة والحذر إلی الأحداث والوقائع خشیة الانخداع والاغترار، فحسن الظن والنظرة السطحیة فی مثل هذه الاُمور لن تؤدی سوی إلی الضرر والخسران.

ثم أشار علیه السلام إلی نقطة مهمّة وهی أنّ الفتن لیست شاملة، بل هی کالریاح التی تصیب موضعا وتترک آخر: «یحمن (1)حوم الریاح، یصبن بلداً ویخطئن بلدا» .

لأنّ أرضیة کافة المدن والامصار لیست واحدة لتحتضن الفتن، بل هناک عدة عوامل متوفرة هنا ولیست متوفرة هناک، وبناء علی هذا فلا ینبغی الاغترار إذا لم تشاهد بعض آثار الفتن فی موضع دون آخر.

ثم یتطرق علیه السلام إلی فتنة بنی أمیة لیحذر من خطورتها فیقول: «ألا وإنّ أخوف الفتن عندی علیکم فتنة بنی أمیة، فانّها فتنة عمیاء مظلمة» .

فتنة عمیاء مظلمة لاتبقی أمامها من قیم ومفاهیم ومثل، وتتجاوز کافة الأشخاص دون الالتفات إلی سوابقهم ومواقفهم، والحق أنّ فتنة بنی أمیة کانت کذلک! فقد استعادت أعراف الجاهلیة حیاتها علی عهدهم وفی ظل حکومتهم، حیث تمکنت حثالات رجالهم من التسلط علی رقاب المسلین وإشغال المواقع الحساسة فی الحکومة، فتنحت تلک الشخصیات الصالحة وأقصیت عن المیدان، بینما مورست أبشع أنواع البطش والتعذیب بحق أولئک الذین رفعوا أصواتهم بوجه هذه الحکومة. ثم أشار علیه السلام إلی بعض خصائص هذه الفتنة فی أنّ حکومتها عامة شاملة بحیث یخضع الجمیع لهذه السلطة الغاشمة، غیر أنّ بلائها یختص بطائفة وجماعة؛

ص:142


1- 1) «یُحمن» من مادة «حوّم» علی وزن قوّم بمعنی الدوران.

فمن کان بصیراً فی تلک الفتنة (ووقف بوجهها) شمله ذلک البلاء، بینما یسلم منها من کان أعمی «عمت خطتها، (1)وخست بلیتها، وأصاب البلاء من أبصر فیها، وأخطأ البلاء من عمی عنها» .

طبعاً أنّ آثار الفتنة ستعم بالتالی کافة القوم، ولعل هذا هو المعنی الذی أشارت إلیه العبارة «عمت خطتها» ؛ إلّاأنّ شدتها وحدتها إنّما تطیل المجاهدین الاشداء، بینما یکون الجهال من عدیمی الشعور بالمسؤولیة فی أمان من ذلک البلاء ثم تطرق علیه السلام إلی خاصیة اُخری من خصائص حکومة بنی أمیة، لیقسم قائلاً: «وآیم اللّه (2)لتجدن بنی أمیة لکم أرباب سوء بعدی کالناب (3)الضروس (4)تعذم (5)بفیها، وتخبط (6)بیدها وتزبن (7)برجلها، وتمنع درها (8)» .

یاله من تشبیه رائع فی الإنسان یتوقع أن یستفید من لبن ناقته ویرکبها لیصل إلی المکان الذی یرید، کما أنّ الإنسان ینتظر من الحکومة أن تساعده وتحل مشاکله وأن تکون سنده فی مسیرة الرقی والتقدم الفردی والاجتماعی. أمّا الحکام الظلمة الذین یفتقرون إلی المنطق والرحمة - والذین لایفکرون إلّافی تحقیق منافعهم - لیس فقط لایحلون مشاکل المجتمع فحسب، بل یجعلونه یعیش فی خضم هالة من المصاعب والمشاکل ویوجهون له الضربات الماحقة الموجعة وهذه المعاملة الجافة العنیفة، و یالها من نبوءة صحیحة حیث کان علیه السلام یری ببصیرته کل تلک الأحداث و عظم البلاء الذی صبته هذه الفئة القاسیة علی المسلمین. حتی لایبقی منکم إلّامن ینفعهم أو لایضرهم: «لایزالون بکم حتی لایترکوا منکم إلّانافعالهم، أو غیر ضائر بهم» .

ص:143


1- 1) «خطة» من مادة «خط» به معنی وضع العلامة، ولفظ «خطة» یأتی أحیاناً بمعنی حالة أو موضوع.
2- 2) «أیم» یری بعض الاُدباء أن أصلها (أیمن) أسقطت نونها، فان قیل وأیم اللّه تفید القسم (ومن أراد المزیدفلیراجع شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/54) . [1]
3- 3) «الناب» الناقة المسنة.
4- 4) «ضروس» الحیوان السئ الخلق یعفی حباله.
5- 5) «تعذم» من مادة «عذم» من عذم الفرس إذا أکل بحفاء أوعض.
6- 6) «تخبط» من مادة «خبط» الضرب بالید.
7- 7) «تزبن» من مادة «زبن» علی وزن دفن تضرب.
8- 8) «درّ» جریان اللبن توفیر، کما یطلق علی کل خیر وبرکة.

فهم یخنقون أصوات دعاة الحق فی حناجرهم ویلتقطون من یعارضهم أینما کان ولایرون لأی أحد من حق فی الحیاة سوی من یقوم علی خدمتهم، أو لایشکل أی خطر علی مصالحهم، ولایفرق لدیهم أن یکون داع الحق هذا وطالب العدل ابن رسول الله صلی الله علیه و آله أو من صحابته أم کان من کبار علماء الاُمّة وأعلامها وهکذا تتضح عمومیة الفتنة وشمولیتها التی أشار إلیها الإمام علیه السلام. کما أشار فی الخاصیة الرابعة إلی نقطة وهی أنّ المشکلة العظیمة فی هذه الحکومة تکمن فی عدم وجود أی ملاذ من شأنه توفیر الأمن للآخرین والنجاة من ظلم هؤلاء الظلمة، ولیس هنالک من یسمع شکواهم، الأمر الذی یضطرهم إلی شکوی ظلم الظلمة إلی أنفسهم ومعلوم بالطبع نتیجة مثل هذه الشکوی: «ولایزال بلاؤهم عنکم حتی لایکون انتصار أحدکم منهم إلا کانتصار العبد من ربّه، والصاحب من مستصحبه» .

والحق هذا هو مصیر الأُمّة التی تقوم حکومتها الجائرة والظالمة بقطع ألسن کافة دعاة الحق وتحاصر العلماء وتفرض علیهم الاقامة فی بیوتهم، وتعز الذلیل وتذل العزیز وتحطم عناصر القوة فی الاُمّة وتسخرها من أجل منافعها. ثم أشار فی الخاصیة الخامسة والأخیرة - والتی تؤکد فی الواقع الخصائص السابقة - إلی تتابع هذه الفتن وهی عماء وصماء خالیة من الأدلة وسبل النجاة: «ترد علیکم فتنتهم شوهاء (1)مخشیة (2)وقطعاً جاهلیة، لیس فیها منار هدی، ولاعلم یری» ، وهکذا یکون الإمام علیه السلام قد رسم بهذه الخصائص الصورة القاتمة لظروف وأوضاع حکومة بنی أمیة، کما أشار إلی نهایتها؛ وکأنّه کان قد عاش تلک الفترة المظلمة التی دامت ثمانین سنة، وکان یری تفاصیلها رأی العین. فقد کانت حکومة لاتقیم وزناً للقیم والمثل الإسلامیة ولاتعترف بالقوانین الإسلامیة، بل هی حکومة مستبدة طاغیة تفتقر إلی المنطق والموازین ملیئة بالفتن الحاکیة عن عصر الجاهلیة، الحکومة التی قد لاتفکر حتی فی مصالحها، لتمارس أقصی درجات الظلم والجور فترتکب ما قل نظیره فی التأریخ البشری. والعبارة: «أرباب سوء بعدی» ، إشارة لطیفة إلی هذه الحقیقة وهی أنّکم لم تستجیبوا لحکومتی الإسلامیة والإنسانیة العادلة، فلیس أمامکم سوی الحکام الظلمة وأرباب السوء. وقد أورد

ص:144


1- 1) «شوهاء» من مادة «شوه» علی وزن قوم قبیحة المنظر.
2- 2) «مخشیة» من الخشیة مخوفة مرعبة.

بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ بنی أمیة کانت تعامل طائفة من الناس کعبید. حتی جاء فی شرح نهج البلاغة للعلّامة التستری أنّهم کانوا یأخذون الجزیة ممن أسلم من أهل الذمة ویقولون فروا من الجزیة، ویأخذون الصدقة من الخیل، وکانوا یختمون فی أعناق المسلمین کما توسم الخیل، وینقشون فی أکفهم علامة لاسترقاقهم کما یصنع بالعلوج من الروم والحبشة. (1)

تأمّلات

1- ممیزات الفتنة

الفتنة مفردة یخشاها الجمیع، ویرون نتیجتها هی الشؤم والألم، ولکن هنا یطرح هذا السؤال: ما هی الفتنة؟ وما هی علامتها وملامحها؟ فالإمام علیه السلام بین فی هذه الخطبة علامات الفتنة، کما عرفها علی أساس هذه العلامات والملامح. فالفتنة إنّما تطلق علی الحوادث المعقدة التی لاتتضح ماهیتها؛ لها ظاهر براق وباطن مملوء بالفساد؛ تؤدی بالمجتمعات البشریة إلی الفوضی والعداوة والتناحر والاقتتال وسفک الدماء ونهب الأموال وهتک الاعراض - والأنکی من کل ذلک تعذر السیطرة علیها.

غالباً ما تتلبس بلباس الحق لتجذب الیها السذج من الناس ولایلتفتون إلیها، إلّابعد أن تسدد إلیهم سهام حقدها. والفتن لاتعرف القانون، فقدتأتی علی منطقة لتحرقها عن بکرة أبیها، بینما لاتشهد منطقة اُخری أثراً لهذه الفتنة وهی تعیش فی أمن وأمان منها، وقد شبهها الإمام علیه السلام فی الخطبة بالریح التی تصیب منطقة وتخطیء منطقة اُخری، وقد تلف هذه الریح کل شیء معها من قبیل الناس والسیارات لتقذف بهم هنا وهناک حسب سرعتها وشدتها! وهذا ما تفعله الفتن بکبار الشخصیات الدینیة والاجتماعیة السیاسیة، إلی جانب فعلها بأموال الاُمّة وثروات المجتمع والحرب التی وقعت علی عهد أمیرالمؤمنین علی علیه السلام تعد کل واحدة منها نموذجاً بارزاً للفتنة؛ فقد شهدت واقعة الجمل حضور زوج النبی صلی الله علیه و آله عائشة التی رکبت الجمل، وإلی جانبها طلحة والزبیر وهما من أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله - ومن أهل السابقة

ص:145


1- 1) شرح نهج البلاغة للتستری 6/106.

الحسنة فی الإسلام، بحسب الظاهر - حتی بثوا أولی بذور النفاق والفرقة والشقاق فی صفوف الاُمّة الإسلامیة، ولم تضع الحرب أوزارها إلّابعد مقتل أکثر من عشرین ألف من المسلمین، حتی تم الأمر لعلی علیه السلام فأخمد نیران تلک الفتنة. قضیة أهل الشام وموقعة صفین والمطالبة بدم عثمان ورفع المصاحف علی أسنة الرماح نموذج بارز آخر لهذه الفتنة، ولم تنطفی نیرانها طائفة من الجهال المتنسکین وهم یرفعون شعار «لاحکم إلّااللّه» لیشعلو فتیل موقعة النهروان فالواقع أنّ تأمل هذه النماذج العینیة یمکنه أن یعلم الإنسان بصورة علمیة کافة ممیزات الفتنة ومداخلاتها کما بینها الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة.

2 - حکومة بنی أمیة

بناءاً علی ما أورده الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة فانّ حکومة بنی امیّة کانت من أعظم وأعقد الفتن التی عصفت بالمسلمین منذ انبثاق الدعوة الإسلامیة حیث قلبت الحضارة الإسلامیة رأساً علی عقب وصبغت الحکومة الإسلامیة بصبغة الاستبداد والتسلط والغطرسة، تنتمی طائفة بنی أمیة إلی أمیة بن عبد شمس بن عبد مناف. ومنها أبو سفیان أعدی أعداء الإسلام الذی أثار أغلب الحروب ضد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقد بذل قصاری جهده من أجل القضاء علی الإسلام، إلّاأنّ إرادة اللّه وقدرته حالت دون ذلک، حتی استسلم أخیراً بجحافل الإسلام بینهما أسر الکفر وظل یخطط من أجل کسر شوکة الدین، بینما صفح النبی صلی الله علیه و آله عن جرائمه. روی ابن أبی الحدید عن الشعبی أنّ عثمان لما ولی الخلافة، اجتمع بنوأمیة فی داره فاغلقوا الباب، وکان حینها أبوسفیان قد کف بصره فالتفت إلیهم وسألهم: هل فیکم غیرکم؟ قالو: لا، فقال عبارته المشهورة: «یا بنی أمیة تلقفوها تلقف الکرة! فو الذی یحلف به أبو سفیان! ما من عذاب ولاحساب ولاجنّة ولانار ولابعث ولاقیامة» (1).

وهی ذات العبارة التی أطلقها معاویة بعد ان سمع مقالة المغیرة، کما وردت مثلها فی الأشعار المعروفة لیزید حین جاءوا إلیه برأس الإمام الحسین علیه السلام. هذا وقد ألف علماء الفریقین عدة

ص:146


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 9/53. [1]

کتب ومقالات بشأن الجنایات والجرائم التی ارتکبتها حکومة بنی أمیة، والتی تدل علی عمق الحقیقة التی صرحت بها الروایات الإسلامیة قبل استیلاء بنی أمیة علی دفة الحکم، وأنّهم آفة هذه الاُمّة.

ص:147

ص:148

القسم الثالث: انتقام الله من بنی أمیة

اشارة

«نَحْنُ أهْلَ الْبَیْتِ مِنْهَا بِمَنْجَاةٍ، وَلَسْنَا فِیهَا بِدُعَاةٍ، ثُمَّ یُفَرِّجُهَا اللّهُ عَنْکُمْ کَتَفْرِیجِ الْأَدِیمِ: بِمَنْ یَسْمُهُمْ خَسْفاً، وَیَسُوقُهُمْ عُنْفاً، وَیَسْقِیهِمْ بِکَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ لَایَعْطِیهِمْ إِلَّا السَّیْفَ، وَلَا یُحْلِسُهُمْ إِلَّا الْخَوْفَ، فَعِنْدَ ذلِکَ تَوَدُّ قُرَیْشُ - بِالدُّنْیَا وَمَا فِیهَا - لَوْ یَرَوْنَنی مَقَاماً وَاحِداً، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ، لِاَقَبْلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْیَومَ بَعْضَهُ فَلا یُعْطُونِیهِ!» .

الشرح والتفسیر

إختتم الإمام علیه السلام الخطبة بالأخبار عن بعض الحوادث المستقبلیة الحلوة والمریرة، حیث یلفت النظر إلی أنّ أهل البیت علیهم السلام بمنجاة من هذه الفتنة وأنّهم لیسوا دعاة حکومة آنذاک: «نحن أهل البیت منها بمنجاة (1)، ولسنا فیها بدعاة» .

یبدو أنّ هناک إختلاف بین شرّاح نهج البلاغة فی تفسیر هذه العبارة، لأن الفتنة من حیث العینیة الخارجیة قد شملت أهل البیت، ونموذج ذلک شهادة الإمام الحسین علیه السلام وصحبه الکرام. وعلیه فنجاة أهل البیت من تلک الفتنة بمعنی عدم مسؤولیتهم فی هذه الفتنة، وتقع مسؤولیتها علی الاُمّة التی ولت ظهورها عن أهل البیت والتحقت بسلیلی الکفر والشرک والجاهلیة. والعبارة «ولسنا فیها بدعاة» قرینة علی هذا المعنی، لأنّ أهل البیت حین اجبروا علی

ص:149


1- 1) «منجاة» من مادة «نجاة» الأرض المرتفعة التی لایصلها السیل، ثم اطلقت علی کل موضع یکون سبباً للنجاة، إلّاأنّها وردت أیضاً بمعنی الاقصاء عن التدخل فی أمر، وقد جاءت بهذا المعنی فی العبارة؛ أی لیس هنالک أی دور لأهل البیت فی حکومة بنی أمیة، وعلی بنی أمیة وزرها خاصة.

السکوت ولم تندفع الاُمّة خلفهم، بات من الطبیعی عدم تحملهم لأیة مسؤولیة. ثم بشرهم الإمام علیه السلام بعدم استمرار هذه الفتنة وأنّ الله سیکشفها عن الاُمّة کما یکشف الجلد عن اللحم: «ثم یفرجها (1)الله عنکم کتفریج الأدیم.» (2)فهذا التشبیه یشیر إلی اخماد فتنة أمیة بصورة تامة فی ذلک الزمان، لأن الجلد حین یفصل عن اللحم لاتبقی ذرة منه علی اللحم بحیث یتغیر شکل الحیوان المذبوح تماماً.

والسؤال المطروح من الذی ینهی هذه الفتنة ویقضی علی حکومة بنی أمیة وکیف؟

قال علیه السلام: فی مواصلة کلامه بشکل عام «بمن یسومهم خسفاً (3)، ویسوقهم عنفاً، ویسقیهم بکأس مصبرة لایعطیهم إلّاالسیف، ولایحلسم (4)إلا الخوف» .

العبارة «مصبرة» من مادة صبر علی وزن خشن نبات شدید المرارة، إشارة إلی مرارة الحیاة التی سیعیشها بنی أمیة فی ظل حکومة بنی العباس، والعبارة «لایعطیهم. . .» تأکید لهذا المعنی فی ابتلاء بنی أمیة ببنی العباس، الذین یضعون السیف فی أعناقهم، ومن حالفه الحظ فی الهرب فلیس له إلّاالخوف والرعب.

ثم قال علیه السلام آنذاک تود قریش (إشارة إلی طائفة من بنی أمیة) أن تعطی الدنیا وما فیها، لترانی مرة اُخری (وتذعن لامرتی) ولو لمدة وجیزة بقدر ذبح الناقة، لأقبل منها ما تمنعنی الیوم بعضه: «فعند ذلک تود قریش بالدنیا وما فیها، لو یروننی مقاماً واحداً، ولو قدر جزر جزوّر (5)، لا قبل منهم ما أطلب الیوم بعضه فلایعطونیه» فالعبارات وان أشارت إلی تکهن الإمام علیه السلام بشأن زوال سلطة بنی أمیة علی ید بنی العباس، إلّاأنّ بعض شرّاح نهج البلاغة احتملوا أنّ هذه العبارات وردت بخصوص حکومة الإمام المهدی علیه السلام حیث سیؤدی.

إلی إجتثاث جذور الظلم والطغیان، إلّاأنّ هذا الاحتمال ییدو بعیداً، وذلک لأنّه أولاً: سوف

ص:150


1- 1) «یفرج» من مادة «فرج» بمعنی السلخ ورد هنا، کما یعنی حل المشاکل.
2- 2) «أدیم» بمعنی الجلد.
3- 3) «خسف» بمعنی الاخفاء، وورد فی الخطبة بمعنی الذل.
4- 4) «یحلس» من مادة «حلس» علی وزن فلس بمعنی الکساء الذی یوضع علی ظهر البعیر.
5- 5) «جزور» من مادة «جزر» علی وزن جذب الناقة المجزورة، کما وردت هذه المفردة بمعنی انخاض ماءالبحر وما شاکل ذلک.

لن یکون بنی أمیة آنذالک طائفة خاصة. ثانیاً: لیس هنالک من مجال لأن یتمنوا حکومة الإمام علی علیه السلام حین ظهور الإمام المهدی علیه السلام وتطبیق کافة تعالیم السماء.

وبعبارة اُخری: فانّ هذه الاُمنیة ستکون من قبیل تحصیل الحاصل. وهذا الکلام إخبار عن ظهور المسودة، وانقراض ملک بنی أمیة، ووقع الأمر بموجب إخباره علیه السلام؛ حتی لقد صدق قوله: «لقد تود قریش. . .» ، فانّ أرباب السیر کلهم نقلوا أنّ مروان بن محمد قال یوم الزاب لما شاهد عبدالله ابن علی بن عبدالله بن العباس بازائه فی صف خراسان: لوددت أنّ علی بن أبی طالب تحت هذه الرایة بدلاً من هذا الفتی؛ والقصة طویلة وهی مشهورة. (1)

والأعجب من ذلک حین ولی أبو العباس السفاح الخلافة - وهو أول خلیفة عباسی أمر بقتل کافة بنی أمیة، کما أمر بنبش قبورهم وأخراج الأموات منها واحراقها، ولم ینج منهم إلّا من هرب إلی الأندلس - وقیل أنّ السفاح أمر بطرح موتی بنی أمیة أمام الکلاب لتنهش لحومهم. (2)

بل لقب أبوالعباس بالسفاح لکثرة قتله من بنی أمیة. (3)

ویتضح ممّا مر معنا أنّ الفرج الذی بشر به الإمام علیه السلام إنّما یقتصر علی الفترة الممتدة بین حکومة بنی أمیة وبنی العباس، أو بعبارة اُخری یرتبط بالمدة التی لم تقو فیها قدرة بنی العباس إلی الحد المطلوب، وذلک لأنهم حین توطدت دعائم حکومتهم وقویت شوکتهم، غاصوا فی هالة من الظلم والاضطهاد لیجعلوا المسلمین یعیشون فترة مظلمة اُخری.

تأمّلان

1- ضریبة الفرار من الحق

شحن التأریخ بهذه التجربة فی أنّ من یهرب من الحق والعزة والکرامة، إنّما یعیش حیاته فی ظل الذل والباطل. وأفضل نموذج علی ذلک أهل العراق علی عهد علی علیه السلام الذین لم یستجیبوا

ص:151


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/57. [1]
2- 2) تتمة المنتهی /156.
3- 3) دائرة المعارف الاعلمی 10/405.

لعلی علیه السلام المعروف بعدالته ورحمته حتی فی ساحات الوغی ومع الخصوم والاعداء، فکانوا یختلقون مختلف الذرائع لیتمردوا علیه، فملأوا قلبه دما وشحنوا صدره غیضاً وجرعوه الهم والغمّ. إلّاأنّه لم تمض علیهم مدة حتی دفعوا ثمن ذلک باهضاً لیذوقوا ألوان الذلة والهوان. فقد سلط علیهم زمرة من الجفاة الطفاة القساة الذین لم یرعوا إلّاولاذمة فی کبیر أو صغیر. وقد نهبوا أموالهم وانتهکوا حرماتهم وجرعوهم الموت غصة غصة، وأحالوا حیاتهم ظلاماً دامساً، حتی تمنوا لحظة من لحظات حکومة علی علیه السلام ولکن هیهات.

نعم هذا ما صرح به الإمام علیه السلام فی الخطبة 28: «ألا وإنّه من لاینفعه الحق یضره الباطل، ومن لایستقیم به الهدی، یجربه الضلال إلی الردی» .

حقاً أن هذا الفصل من تأریخ الإسلام ملیء بالدروس والعبر، فمصیر اُولئک الذین غدروا بأمیر المؤمنین علی علیه السلام ینطوی علی الدروس والعبر من جانب، ومن جانب آخر فانّ قصة بنی أمیة بعد علی علیه السلام هی الاُخری عبرة لمن اعتبر.

روی المؤرخ المشهور المسعودی أنّ الحجاج حکم الکوفة والبصرة علی عهد عبد الملک بن مروان عشرین سنة، واحصی من قتله صبراً سوی من قتل فی عساکره وحروبه فوجد مائة وعشرین ألفا، ومات فی حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف أمرأة، منهن ستة عشر ألفا مجردة، وکان یحبس النساء والرجال فی موضع واحد، ولم یکن للحبس ستریستر الناس من الشمس فی الصیف ولا من البرد والمطر فی الشتاء، وکان له غیر ذلک من العذاب. (1)

وذکر إبن قتیبة فی الامامة والسیاسة أن الحجاج دخل مسجد البصرة مع مئتی نفر یحملون سیوفهم ثم أمرهم بالهجوم علی الناس إن خلع عمامته إذا رموه، فجعلون یضربون أعناق من فی المسجد حتی إمتلأ بدمائهم. و لم یکن ذلک سوی جانبا من مصیر من تمرد علی الإمام علیه السلام.

2- عاقبة بنی أمیة

عاقبة بنی أمیة کانت هی الاُخری أسوأ من عاقبة أهل العراق فی حکومة بنی العباس

ص:152


1- 1) مروج الذهب 3/166. [1]

حتی قیل أنّ أحد خلفاء بنی العباس أحضر فی مجلسه تسعین من زعماء بنی أمیة فأمر بضرب رؤوسهم بأعمدة الحدید والقوا وسط المجلس، ثم وضعت مائدة الطعام علیهم فجعل یتناول مع صحبه الطعام. (1)

بل لم یرحموا حتی صغار بنی أمیة فضلاً عن موتاهم. فقد عمد عبدالله بن علی أیام أول خلیفة عباسی السفاح إلی نبش قبورهم، فاخرج جسد هشام بن عبدالملک وأضرم فیه النار، کما أخرج جسد الولید بن عبدالملک ویزید بن معاویة - ولم یبق منهما إلّاالعظام - وسائر أجساد بنی أمیة وأمر باحراقها. (2)

ثم اتجه صوب قبر معاویة، فلم یکن فیه سوی حفنة من التراب. (3)

ص:153


1- 1) الکامل لابن أثیر 5/430.
2- 2) مروج الذهب 3/207.
3- 3) الکامل لابن أثیر 5/430.

ص:154

الخطبة الرابعة والتسعون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

وفیها یصف الله تعالی ثم یبین فضل الرسول الکریم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام ثم یعظ الناس

نظرة إلی الخطبة

تشتمل الخطبة علی أربعة محاور: الأول: بیان بعض صفات الله سبحانه، الثانی: خلق الأنبیاء من صلب آدم علیه السلام.

الثالث: خلق النبی الأکرم صلی الله علیه و آله من النسل الطاهر، وشرح بعض فضائله ومناقبه ومدح عترته علیهم السلام.

الرابع: النصح والوعظ بعبارات قصیرة عظیمة التأثیر.

ص:155


1- 1) سند الخطبة: قال صاحب مصادر نهج البلاغة مانقله الرضی (ره) فی هذا الموضع مأخوذ من خطبة له علیه السلام مشهورة أولها: الحمدلله الواحد الأحد الصمد، المتفرد. . . وقال الکلینی فی الکافی عن هذه الخطبة بعد أن أخذ غرضه، منها فی الکتاب التوحید: وهذه الخطبة من مشهورات خطبة علیه السلام حتی لقد ابتذلتها العامة (الکافی 1/134) [1] وقال المرحوم الصدوق، قال الإمام الصادق علیه السلام أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام خطب بهذه الخطبة لما استنهض الناس لحرب معاویة فی المرة الثانیة. (توحید الصدوق، /41، باب التوحید ونفی التشبیه، الحدیث 3) . رواها ابن عبد ریه المالکی فی العقد الفرید 4/74 بتفاوت مع روایة الرضی تحت عنوان خطیته الفراء. وقال صاحب المصادر: ویلاحظ أنّ روایة العقد خلت من ذکر أهل البیت فی الخطبة فلعل یداً أمینة! حذفت ذلک، کما حذفت الخطبة الشقشقیة من العقد (مصادر نهج البلاغة 2/185) . [2]

ص:156

القسم الأول: عجز الفکر عن معرفته

«فَتَبَارَکَ اللّهُ الَّذِی لَایَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ، وَلَا یَنَالُهُ حِدْسُ الْفِطَنِ، الأوَّلُ الَّذِی لَا غَایَةَ لِهُ فَیَنْتَهِیَ، وَلا آخِرَ لَهُ فَیَنْقَضِیَ» .

الشرح والتفسیر

استهل الإمام علیه السلام خطبته - کسائر خطبه - بحمد الله والثناء علیه، أفضل انطلاقة فی الحدیث واعداد القلوب لسماع الوعظ. فقد بیّن علیه السلام بهذه العبارات أربع صفات من صفات الله التی تعود فی الحقیقة إلی صفة واحدة (وقد ورد شبیه ذلک فی الخطبة الاولی من نهج البلاغة فی المجلد الأول من هذا الکتاب) . فقال علیه السلام: «فتبارک الله الذی لایبلغه بعد الهمم، ولایناله حدس الفطن» .

فهو سبحانه الأول الذی لانهایة له لیمکن الوصول إلیه، ولا آخر له لتکون له نهایة «الأول الذی لاغایة له فینتهی، ولا آخر له فینقضی» فجمیع هذه الصفات إنّما تشیر إلی عدم تناهی ذاته فی کل جهة. الذات التی لا تعرف الحدود من حیث العظمة والعلم والقدرة والاولیة والآخریة. فهو لیس محدود فی الفکر الإنسانی، ولا یدرک بالظنون، لیس له أول، کما لیس له آخر، لیس هنالک من هدف لذاته ولا غایة، وذلک لأنّه کمال مطلق ووجود لا حدود له ولانهایة.

وفی ذات الوقت فانّ هذه الصفات الأربع تعالج هذه الحقیقة من جوانب مختلفة:

فی العبارة الاولی: أنّ الأفکار البشریة والإرادات القویة ومهما بلغت جهودها ومساعیها لایسعها أن تبلغ معرفة کنهه سبحانه.

ص:157

والعبارة الثانیة: إشارُة إلی الحدس والظن والانتقالات الدفعیة والسریعة الفکریة التی یمکنها أن تذلل أغلب قضایا الحیاة، حیث یقول الإمام علیه السلام لیست لها من فاعلیة هنا.

العبارة الثالثة: تشیر إلی أنّ الله سبحانه، علی خلاف الموجودات الإمکانیة التی لها هدف ومقصد لهذا الوجود، فهی تنتهی حین تبلغ هذفها وتقوم برسالتها؛ فلیس هناک وجود لیبلغه.

العبارة الأخیرة: تشیر إلی أنّه آخر لانهایة له - بعبارة اُخری: هو أول الوجود وآخره، ولکن لیس بمعنی الأول الذی ینتهی ولا الآخر الذین ینقضی؛ فهذه الصفات تعنی أزلیته وابدیته ومطلقیته.

قد لا یکون المعنی الأخیر کذلک للوهلة الاولی، ولکن یبدو ذلک صحیحاً من خلال الالتفات إلی العبارة السابقة، ونظیر اتها فی نهج البلاغة، کما ورد فی الخطبة 85.

علی کل حال فانّ الأفکار البشریة المحدودة لاتصل أبداً إلی کنه ذلک الکمال المطلق، ولیس لنا سوی معرفة إجمالیة، یمکنها أن تتکامل کلما طهرت روح الإنسان أکثر وأصبح فکره أقوی وأکمل، وأن تعذر بلوغ المعرفة التفصیلیة البتة.

ص:158

القسم الثانی: (ومنها فی وصف الأنبیاء) : المکانة الرفیعة للأنبیاء

«فَاسْتَوْدَعَهُمْ فی أفْضَلِ مُسْتَوْدَعِ، وَأَقَرَّهُمْ فِی خَیْرِ مُسْتَقَرِّ، تَنَاسَخِتْهُمْ کَرَائِمُ الأَصْلابِ إِلَی مُطَهَّرَاتِ الأرْحَامِ؛ کُلَّمَا مَضَی مِنْهُمْ سَلَفٌ، قَامَ مِنْهُمْ بِدِینِ اللّهِ خَلَفٌ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی الأنبیاء الذین بعثهم الله طیلة تاریخ البشریة، لیکمل بحث التوحید ببحث النبوة. وتفید القرائن أن هناک مقاطع محذوفة بین هذا القسم وذلک الذی سبقه، فالأقسام مقتطفات من خطبة طویلة للإمام علیه السلام.

علی کل حال فان الخطبة أشارت فی الواقع إلی الاُمور المهمة التالیة.

الأول: أنّ الأنبیاء قد غطوا جمیع التاریخ البشری وقد نهضوا الواحد تلوا الآخر بمهمتهم فی الوعظ والإرشاد.

الثانی: أنّهم ینشدون جمیعاً هدفاً واحداً.

الثالث: أنّهم تربوا فی أصلاب شامخة وأرحام مطهرة.

فقال علیه السلام: «فاستودعهم فی أفضل مستودع، وأقرهم فی خیر مستقر» ، ثم خاض علیه السلام فی شرح هذا المجمل بأنّ الله قد قلبهم فی الأصلاب الکریمة والأرحام المطهرة. فقال علیه السلام بهذا الشأن: «تناسختهم (1)کرائم الأصلاب إلی مطهرات الأرحام» .

ص:159


1- 1) «تناسخ» من مادة «نسخ» بمعنی الازالة وانتقال الشیء، وتعنی هنا انتقال نطفة الآباء إلی أرحام الاُمهات.

فالواقع هو أنّ «أفضل مستودع» یراد به أصلاب کرام الآباء من أهل الفضل و «خیر مستقر» یراد به الأرحام الطاهرة للاُمهات.

ثم أشار علیه السلام إلی استمرار رسالة الأنبیاء وامتدادها، وکلما رحل منهم أحد، خلفه آخر لیواصل سبیله: «کلما مضی منهم سلف، قام منهم بدین الله خلف» .

فالواقع هو أنّ حدیقة الحیاة الإنسانیة لم تخل قط من شجرة الأنبیاء الطیبة، لتتغذی البشریة علی الدوام علی ثمارها المعطاء: «تُؤْتِی أُکُلَها کُلَّ حِینٍ بِإِذنِ رَبِّها» (1)فترتوی من فیضها وتزدان قوة فی روحها وبدنها.

أمّا قضیة طهارة أصلاب الأنبیاء وأرحامها فمن الاُمور المهمة التی أسهبت فی ذکرها الروایات الإسلامیة والزیارات، وذلک لاهمیتها من جانبین: الأول من ناحیة قانون الوراثة الذی ینطوی علی آثار عمیقة والثانی: من الناحیة الاجتماعیة وثقة الاُمّة بالأنبیاء، إلی جانب الرابطة بین الاُمم والأنبیاء بما لا یمکن انکار دوره.

ومن هنا صرحت الروایات التی وردت بشأن انتخاب الزوجة بأن تکون من اُسرة دینیة مشهورة بعفتها وطهارتها وورعها وتقواها، والعکس صحیح فی اجتناب الاُسرة الوضیعة وان کانت هناک بعض الصفات فی المرأة. فقد جاء فی الحدیث عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «أیها الناس إیاکم وخضراء الدمن! قیل: یا رسول الله وماخضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء فی منبت السوء» . (2)

والنقطة الجدیرة بالذکر أنّ العبارة: «کلما مضی منهم سلف، قام منهم بدین الله خلف» ، إشارة إلی هذه الحقیقة هی أنّ الأنبیاء وبمصداق «لا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» (3)، لهم برامج واحدة، وأصول مشترکة، وإن کان هناک بعض الاختلاف فی الفروع بسبب تفاوت الزمان والمکان؛ فکانوا یدعون جمیعاً إلی التوحید والعدل والمعاد، حتی أنّهم کانوا سواسیة فی اصول المسائل الفرعیة؛ فهم یدعون إلی التضرع والعبودیة ویحثون علی الفضائل ومکارم الأخلاق ویحذرون من الصفات الرذیلة، وبالتالی احترام القانون ورعایة النظام.

ص:160


1- 1) سورة ابراهیم/25. [1]
2- 2) وسائل الشیعه 14/29 ح 4. [2]
3- 3) سورة البقرة/285. [3]

القسم الثالث: فضائل النبی صلی الله علیه و آله

اشارة

«حَتَّی أَفْضَتْ کَرَامَةُ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالی إِلَی مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً، وَأَعَزِّ الأَرُومَاتِ مَغْرِساً؛ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِی صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِیَاءَهُ، وَانْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ. عِتْرَتُهُ خَیْرُ الْعِتَرِ، وَأُسْرَتُهُ خَیْرُ الأُسَرِ، وَشَجَرَتُهُ خَیْرُ الشَّجَرِ؛ نَبَتَتْ فِی حَرَمٍ، وَبَسَقَتْ فِی کَرَمٍ؛ لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ؛ وَثَمَرٌ لَایُنَالُ؛ فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَی، وَبَصِیرَةُ مَنِ اهْتَدَی، سِراجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ، وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ، وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ، سِیرَتُهُ الْقَصْدُ، وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ، وَکَلامُهُ الْفَصْلُ، وَحُکْمُهُ الْعَدْلُ؛ أَرْسَلَهُ عَلَی حِینِ فَتْرَةٍمِنَ الرُّ سُلِ، وَهَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ، وَغَبَاوَةٍ مِنَ الأُمَم» .

الشرح والتفسیر

رکز الإمام علیه السلام فی إطار حدیثه عن أنبیاء الله ورسله علی خاتم الأنبیاء والمرسلین محمد صلی الله علیه و آله وفضائله وکمالاته وأعظم صفاته من جمیع الجهات. فقد تطرق فی بادیء الأمر إلی أجداده الطاهرین وعظم فضیلة ونسبه صلی الله علیه و آله ثم خاض فی فروع هذه الشجرة المبارکة من عترته وأهل بیته. ثم تناول فی المرحلة الاُخری صلاحیته فی زعامة الاُمّة، کما تحدث عن انبثاق دعوته وقیامه بالامر، ومن شأن کل بعد من هذه الابعاد أن یکشف عن عظمته صلی الله علیه و آله. فقد قال علیه السلام بأنّ الله وأصل عنایته ولطفه ببعث الأنبیاء إلی أن ختمهم بالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «حتی أفضت کرامة الله سبحانه وتعالی إلی محمد صلی الله علیه و آله» .

حیث استخرجه من أطیب المعادن وأفضلها ومن أطیب الترب وأعزها، وجعل فرع

ص:161

وجوده من شجرة الأنبیاء، تلک الشجرة الطیبة التی اصطفی منها أمناء رسالاته: «فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً، وأعز الارومات (1)مغرساً: من الشجرة التی صدع منها أنبیاءه، وانتجب منها أمناءه» .

قطعاً أنّ أحد الابعاد المهمة فی شخصیة الإنسان انما یبلوره البعد الوراثی، حیث یکتسب الأبناء القدسیة من جراء الآباء من أهل الورع والتقوی والصلاح، والاُمهات من ذوی الطهر والنجابة والعفاف. وبالطبع کل ذلک دون حصول الاجبار. والنبی صلی الله علیه و آله کان نموذجاً بارزاً فی هذا الأمر؛ فهو ینتهی لآل ابراهیم علیه السلام والأنبیاء الذین إنحدروا من نسله، من صلب بنی هاشم المعروفون بالشجاعة والکرم والاثرة، من ولد عبدالمطلب المشهور بإیمانه وعدله وشجاعته. فقد انفرد صلی الله علیه و آله بکل هذه الصفات.

الحقیقة الاُخری التی لاغبار علیها هی أنّ الأبناء من ذوی الشخصیات والأحفاد من أهل الفضائل دلیل آخر علی شخصیة کل إنسان وقد یما قیل (الظرف ینضح بما فیه) .

ومن هنا ذکر الإمام علیه السلام بأنّ عترته من أهل بیته من أفضل العتر وأطیبها، واسرته صلی الله علیه و آله من خیر الاسر، وشجرته المبارکة من أحسن الشجر: «عترته (2)خیر العتر، وأسرته خیر الاُسر، وشجرته خیر الشجر» الشجرة التی نبتت فی حرم الله الأمن، وبسقت فی سماء الکرامة والفضیلة: «نبتت فی حرم، وبسقت فی کرم» .

وتمتاز هذه الشجرة بفروعها الطویلة وثمارها الطیبة القیمة التی لاتبلغها أیادی السفلة: «لها فروع طوال، وثمر لاینال» .

فالحق أنّ الإمام علیه السلام أدی حق الکلام بهذه العبارات اللطیفة الرائعة بشأن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وعترته الطاهرة علیهم السلام، واماط اللثام عن عظمة وبرکة هذه الشجرة الطیبة، لیبیّن بتشبیهات وعبارات جمیلة فضائله ومناقبه صلی الله علیه و آله وأهل بیته.

وقد ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بالحرم فی قوله: «نبتت فی حرم» الحرم

ص:162


1- 1) «أرومات» جمع «ارومة» بمعنی أصل الشیء وأساسه، کما تطلق علی جذر الشجرة.
2- 2) «عترة» من مادة «عتر» علی وزن سطر آل بیت الرجل ونسله ورهطه الأقربون، والعشیرة. ومعناها الأصلی هو الأصل.

المکی، الذی نمت فیه شجرة النبی صلی الله علیه و آله، وترعرعت ونمت فی ظله، بینما ذهب البعض الآخر إلی أنّ المراد بالحرم هنا العترة والحرمة؛ أی أن شجرته صلی الله علیه و آله نبتت فی غایة الحرمة والعزة، ولکن یبدو المعنی الأول أنسب.

والعبارة «بسقت فی کرم» إشارة إلی أنّ النبی صلی الله علیه و آله لم یلد فی أرض وأسرة عزیزة کریمة فحسب، بل ترعرع وتربی فی بیئة مفعمة بالکرامة والشموخ (لأن البسوق فی الأصل تعنی ارتفاع وطول فروع وأغصان النخل) .

والعبارة «ثمر لاینال» لا تعنی أن ید أحد لاتصل إلی ثمار هذه الشجرة المبارکة؛ لأن هذه لیست فضیلة، بل کما ذکرنا سابقاً إمّا ان یکون المراد أنّه لاتبلغ ید الطالحین ثمار هذه الشجرة الفاضلة، وإمّا أن یکون المراد أنّ ثمار هذه الشجرة المبارکة إلی درجة من الفضل والکرامة بحیث لایمکن أن یصافها أحد.

ویتبین ممّا ذکرنا آنفاً أنّ الشجرة فی العبارة الاولی إشارة إلی إبراهیم علیه السلام والأنبیاء السابقین، وفی العبارة الاُخری إشارة إلی شجرة وجود النبی صلی الله علیه و آله وعترته فروعها.

ثم أشار بعد ذلک بتسع عبارات فصار إلی سائر الخصال المهمة الحمیدة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله، فقال علیه السلام: «فهو إمام من اتقی وبصیرة من اهتدی، سراج لمع ضؤوه، وشهاب سطع نوره، وزند (1)برق لمعه، سیرته القصد، وسنته الرشد، وکلامه الفصل، وحکمه العدل» فالعبارة: «إمام من اتقی. . .» شبیهة «هدی للمتقین» بشأن القرآن التی وردت فی الآیة الثانیة من سورة البقرة. والمراد إنّما یستضیئی بنور هذا السراج الهادی والزعیم الاوحد من کانت له عین باصرة وقلب واع ینشد الحقیقة والفضیلة، بعبارة اُخری یتحلون بالتقوی التی تجعلهم مستعدین لقبول الحق؛ ولذلک فلیس من العجیب ألایهتدی بهدیه أهل التعصب والعناد والأحقاد والضغان من عمی البصائر، علی غرار مکفو فی البصر الذین لایرون الشمس فی رابعة النهار فلا یستفیدون من ضیائها، والعبارة: «سیرته القصد» شبیهة ما ورد فی القرآن الکریم: «وَکَذ لِکَ جَعَلْناکُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (2)، فهی إشارة إلی اعتدال سیرة النبی صلی الله علیه و آله وابتعاده عن کل

ص:163


1- 1) «زند» ما تشعل به النار مثل الکبریت، أو الوسائل القدیمة التی کانت توقد منها النار.
2- 2) سورة البقرة/142. [1]

افراط وتفریط فی کافة الشؤون العبادیة والاخلاقیة والسیاسیة والاقتصادیة.

ولعل هناک من یتصور أن هناک تضاد بین العبارة «وحکمه العدل» وما ورد فی الحدیث الشریف عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «إنّما أقضی بینکم بالبینات والإیمان، وبعضکم ألحن بحجته من بعض؛ فأیما رجل قطعته من مال أخیه شیئا، فانما قطعت له به قطعة من النار» . (1)

وذلک لأنّ النبی صلی الله علیه و آله قد یحکم بخلاف الواقع علی ضوء مفهوم هذا الحدیث. إلّاأنّ الجواب علی هذا الإشکال یبدو واضحاً، وهو أنّ النبی صلی الله علیه و آله لم یستعن فی إصداره للأحکام علی الوحی والغیب، وإنّما یصدر أحکامه دائماً علی ضوء الأدلة والمدارک المتعارفة الموجودة، وهذا بحد ذاته عین العدالة، فی أن یستند القاضی إلی المدارک الموجودة فی إصداره للأحکام والقضاء، فاذا کان هناک من یضعف عن بیان الحق، أو لا یستطیع أن یقدم المدارک المطلوبة فیتعرض إلی نوع من الاجحاف فانّ ذلک لا یخدش البتة فی عدالة القاضی، ولو کان غیر ذلک لما أمکن تسمیته عادلاً.

ثم اختتم الإمام علیه السلام کلامه بالاشارة إلی الظروف الصعبة والملابسات التی رافقت ظهور النبی صلی الله علیه و آله لیکشف النقاب عن عظمة دعوة النبی صلی الله علیه و آله والجهود الجبارة التی بذلها فی هذا الشأن، فقد بعثه الله بعد مدة طویلة من الرسل (ومن هنا) ابتعد الناس عن العمل الصالح وعاشوا الانحراف، وساروا نحو الجهل والظلام: «أرسله علی حین فترة من الرسل، وهفوة (2)عن العمل، وغباوة (3)من الاُمم» وتتضح حقیقة هذه العبارات من خلال التأریخ البشری إبان ظهور الدعوةالإسلامیة، ولاسیما أوضاع عرب الجاهلیة. (4)

ومن الطبیعی أن تکون وظیفة أولیاء الله والمصلحین الربانیین ودعاة العدل والحق والاخلاق والفضیلة أصعب وأعقد کلما کانت الظروف السائدة قاسیة تدعو إلی الجهل

ص:164


1- 1) وسائل الشیعة 18/169 ح 1. [1]
2- 2) «هفوة» من مادة «هفو» الزلل.
3- 3) «غباوة» من الغباء وعدم الفهم.
4- 4) راجع شرح الخطبة الاولی 1/228.

والبلادة والفساد والانحراف، ومن هنا نکتشف عظمة النبی صلی الله علیه و آله وعظم جهوده فی تغییر ذلک المجتمع.

تأمّلان

1 - منزلة النبی صلی الله علیه و آله لدی الآخرین

لایقتصر ماورد فی هذه الخطبة من صفات عالیات وکرامات شامخات للنبی صلی الله علیه و آله علی علی علیه السلام واتباعه، بل اننا لنری حتی کبار الشخصیات الغربیة من غیر المسلمین لیقفون وقفة إجلال وإکبار لنبی الإسلام صلی الله علیه و آله.

فهذا الفیلسوف والکاتب الانجلیزی برناردشو یقول: إنّ دین محمد هو الدین الوحید الذی یلوح لی أنّه حائز علی أهلیة الهضم لأطوار الحیاة المختلفة بحیث یستطیع أن یکون جاذباً لکل جیل. . . . أنّ محمداً یجب أن یدعی منقذ الإنسانیة، وأعتقد أنّه لو تولی رجل مثله زعامة العالم الحدیث لنجح فی حل مشاکله بطریقة تجلب إلی العالم السعادة والسلام، أنّ محمداً أکمل البشر من السابقین والحاضرین، ولا یتصور وجود مثله فی الآتین. (1)

2 - اُسرة النبی صلی الله علیه و آله

لم یقتصر الحدیث عن شرف نسب النبی صلی الله علیه و آله وعظمة طائفته واُسرته علی ماورد فی کلام أمیرالمومنین علی علیه السلام فی هذه الخطبة، بل تظافرت أحادیث النبی صلی الله علیه و آله فی مصادر الفریقین بهذا الشأن. ومن ذلک أنّه صلی الله علیه و آله قال: «إن جبرائیل علیه السلام قال لی: یا محمد! قد طفت الأرض شرقاً وغرباً، فلم أجد فیها أکرم منک، ولا بیتاً أکرم من بنی هاشم» (2). وجاء فی حدیث آخر: «سادة أهل المحشر سادة أهل الدنیا: أنا وعلی وحسن وحسین وحمزة وجعفر» (3). وورد فی الحدیث أیضاً: «أنّه لایبغض أحد أهلی إلّاحرمه الله الجنّة» (4). وروی عن عائشة أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: «قال لی جبرائیل: یا محمد! طفت شرق الأرض وغربها فلم أر أکرم من بنی هاشم» (5)، وجاء فی صحیح مسلم - وهو من المصادر المشهورة لدی العامة - فی بحث

ص:165


1- 1) محمد جواد مغنیة، فی ظلال نهج البلاغة 1/63. [1]
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/63. [2]
3- 3) شرح نهج البلاغة، لابن أبی الحدید 7/63. [3]
4- 4) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/64. [4]
5- 5) ورد الحدیث فی عمدة ابن بطریق /273؛ فضائل الصحابة لأحمد بن حنیل 2/628.

فضائل الصحابة فی قضیة الغدیر أن النبی صلی الله علیه و آله قال فی خطبته ثلاثا: «اذکرکم الله فی أهل بیتی» (1).

والطریف فی الأمر أنّ الإمام الحافظ أبوالعباس أحمد بن عمر بن ابراهیم القرطبی - من مشاهیر علماء العامة - صرح فی کتابه المفهم الذی شرح فیه صحیح مسلم حین بلغ هذا الحدیث قائلاً: من العجب أن یخالف بنی أمیة أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله ویضیعوا حقهم رغم وصایا النبی صلی الله علیه و آله بهم، حتی أراقوا دمائهم وسبوا نسائهم واخربوا بیوتهم وسنوا لعنهم. فویل لهم یوم القیامة. (2)

والأعجب من ذلک دفاع البعض عن معاویة رغم فضائح بنی أمیة ومدی سعة ظلمهم وجورهم.

علی کل حال فانّ شجرة النبی صلی الله علیه و آله وفروعها المبارکة مصداق واضح للآیة 24 و25 من سورة ابراهیم: «کَشَجَرَةٍ طَیِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِی السَّماءِ* تُؤْتِی أُکُلَها کُلَّ حِینٍ بِإِذنِ رَبِّها» .

ونختتم حدیثنا هذا بهذه الأبیات الرائعة (3): یا حبذا دوحة فی الخلد نابتة

ص:166


1- 1) صحیح مسلم 4/1873 (کتاب فضائل الصحابة، ح 36) .
2- 2) المفهم 6/304.
3- 3) منهاج البراعة 7/110.

القسم الرابع: اعملوا ما استطعتم

«اعْمَلُوا رَحِمَکُمُ اللّهُ، عَلَی أَعْلامٍ بَیِّنَةٍ، فَالطَّرِیقُ نَهْجٌ یَدْعُو إِلی دَارِ السَّلَامِ، وَأَنْتُمْ فِی دَارِ مُسْتَعْتَبٍ عَلی مَهَلٍ وَفَرَاغٍ، وَالصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ، وَالأَقْلامُ جَارِیَةٌ، وَالأَبْدَانُ صَحِیحَةٌ، وَالأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ، وَالتَّوْبَةُ مَسْمُوعَةٌ، وَالأَعْمَالُ مَقْبُولَةٌ» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام علیه السلام فی المقطع الأخیر من الخطبة بالنتیجة الأخلاقیة والعملیة، لیبیّن بعض الاُمور المفیدة والمهمة بعبارات قصیرة، عظیمة المعنی. فقال علیه السلام: «اعملوا رحمکم الله» ، ثم أشار علیه السلام إلی المسیر الذی ینبغی سلوکه فی العمل وهو الاستناد إلی الکتاب والسنة «علی أعلام بینة» .

ثم أشار علیه السلام إلی أنّ تشخیص هذا المسیر لیس بالشیء الصعب فالسبیل واضح یدعو إلی الأمن والأمان والسعادة الخالدة فی الجنّة: «فالطریق نهج یدعو إلی دار السلام» .

ثم تطرق علیه السلام إلی الفرص الثمینة التی زود بها الإنسان، وغالباً ما یهملها، لیوضحها علیه السلام بثمان عبارات ویکشف جمیع جوانبها، أشار فی العبارة الاولی إلی أنّکم فی دار یمکنکم فیها تلافی ما یفرط منکم: «وأنتم فی دار مستعتب» . (1)

ولدیکم الفرصة الکافیة والمهلة الوافیة للقیام بالصالحات من الأعمال: «علی مهل وفراغ» .

ص:167


1- 1) مستعتب من مادة عتب علی وزن حتم طلب العتبی، أی طلب الرضی من الله بالأعمال النافعة.

وصحیفة الأعمال مفتوحة والقلم مشرع للکتابة: «والصحف منشورة والاقلام جاریة» .

وأنتم فی صحة وعافیة والسن حاکیة: «والأبدان صحیحة والألسن مطلقة» . ومن ثم: «والتوبة مسموعة، والأعمال مقبولة» .

فوسائل السعادة وأسبابها متوفرة من جانب، وموانع الطریق یمکن ازالتها من جانب آخر؛ فاذا لم تستثمر هذه الفرص. فانّ الأمر یدعو للآسی والأسف حقاً. ولاسیما لیس هنالک من ضمانة باستمرار هذه الفرض. فلعل جمیعها تنتهی بلحظة، فتغلق أبواب التوبة وتختم صحیفة الأعمال، وتتوقف الأقلام عن الکتابة، ویعتل البدن، ویعقد اللسان دون أن یکون هناک أی سبیل إلی الرجعة؛ الأمر الذی حذر منه القرآن أن لیس للندم من جدوی بعد الموت ولا سبیل لسؤال الرجعة : «وَأَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناکُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ یَأْتِیَ أَحَدَکُمُ المَوْتُ فَیَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِی إِلی أَجَلٍ قَرِیبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَکُنْ مِنَ الصّالِحِینَ» فیأتی الجواب: «وَلَنْ یُؤَخِرَّ اللّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللّهُ خَبِیرٌ بِما تَعْمَلُونَ» . (1)

ص:168


1- 1) سورة المنافقون/10 - 11. [1]

الخطبة الخامسة والتسعون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

یقرر فضیلة الرسول الکریم صلی الله علیه و آله

نظرة إلی الخطبة

الهدف من هذه الخطبة ذکر عظمة الإسلام من جانب، وعظمة من حمل رسالته من جانب آخر. وذلک لأن الخطبة اشتملت علی مقارنة لاوضاع الناس قبل الإسلام وبعده؛ ویفهم من هذه المقارنة عظمة جهود النبی صلی الله علیه و آله التی استطاعت أن تنهض بذلک المجتمع الجاهلی المنحط وتجعله مجتمعاً راقیاً متطوراً.

ص:169


1- 1) سند الخطبة: لم یذکر صاحب مصادر نهج البلاغة مصدرا آخر نقل هذه الخطبة، وقال فی نقل ابن أبی الحدید اختلاف وهذا دلیل علی أنّه قرأها فی غیر نهج البلاغة، لأن الرضی (ره) لم یشر إلی ذلک (مصادر نهج البلاغة 2/186) . [1]

ص:170

«بَعَثَهُ وَالنَّاسُ ضُلَّالٌ فِی حَیْرَةٍ، وَحَاطِبُونَ فِی فِتْنَةٍ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ، وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْکِبْرِیَاءُ، وَاسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلیُّةُ الْجَهْلَاءُ؛ حَیَارَی فِی زَلْزَالٍ مِنَ الأمْرِ، وَبَلَاءٍ مِنَ الْجَهْلِ، فَبَالَغَ صَلِّی اللّهُ عَلَیهِ وآلِهِ فِی النَّصِیحَةِ، وَمَضَی عَلَی الطَّرِیقَةِ، وَدَعَا إِلَی الْحِکْمَةِ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» .

الشرح والتفسیر

النور الذی کشف الظلمة

خاض الإمام علیه السلام کراراً فی خطبه فی نهج البلاغة بشأن أوضاع الجاهلیة التی کانت علیها العرب، حیث رسم صورة واضحة عن دقائق تلک الفترة، لیلتفت الناس فی عصر الإمام علیه السلام ممن لم یدرک ذلک العهد إلی عظمة الدعوة الإسلامیة، ولیعلموا حجم التغییر الذی حدث فی المجتمع، فیتعرفوا أکثر علی منزلة النبی صلی الله علیه و آله وعظم قدره؛ وذلک لأن مثل هذا العمل الجبار إنّما یتطلب إرادة حدیدیة وعزماً راسخاً وتدبیراً عالیاً وبرامج وخطط واضحة، جمعت کلها فی شخص النبی صلی الله علیه و آله. فقد بین الإمام علیه السلام وضع العصر الجاهلی بسبع عبارات، أشار فی العبارة الاولی والثانیة إلی أنّ الله بعث النبی صلی الله علیه و آله حین کان الناس یعیشون الحیرة والضلال ویسبحون فی بحر من الفتن: «بعثه والناس ضلال فی حیرة، وحاطبون فی فتنة» .

لا شک أن الإنسان یمکنه أن ینقذ نفسه من الضلالة ما لم تکن مقرونة بالحیرة والتخبط کالذی ضل الطریق ثم اکتشفه من خلال بعض القرائن والعلامات؛ إلّاأنّ المشکلة تبدو معقدة إذا اقترنت الضلالة بالحیرة، وهذا هو الوضع الذی کان علیه الناس فی الجاهلیة. والحاطب تطلق علی من یجمع الحطب. فالناس فی عصر الجاهلیة وفی ذات الوقت الذی یعیشون فیه الفتن، کان یزیدون من حطب نیران هذه الفتن.

ثم قال علیه السلام فی العبارة الثالثة والرابعة: «قد استهوتهم الأهواء، واستتنزلتهم الکبریاء» .

ص:171

فمن البدیهی أن تقود الأهواء المجتمع إلی مستنقع الضلالة، فاذا رافقها العجب والخیلاء لسقط فی ذلک المستنقع.

ثم قال علیه السلام: «واستخفتهم الجاهلیة الجهلاء، حیاری فی زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل» .

وهکذا یتجسم بؤس هؤلاء القوم وشقائهم فی الجهل والضلال والأهواء والافتتان والتکبر؛ الرذائل التی تکفی کل واحدة منها فی سقوط المجتمع، فضلاعن جمعها مع بعضها فیه. ومن هنا یتبیّن مدی حجم مشاکل عصر الجاهلیة وتعقیدها وتهدیدها للمجتمع، کما یتضح علی سبیل الیقین أنّ من یتغلب علیها، إنّما استند إلی التأیید الإلهی والغیب والامداد.

ثم أشار علیه السلام فی آخر الخطبة إلی جهود النبی صلی الله علیه و آله ومدی نصحه للقوم بذلک الاُسلوب الروحی الذی یستند إلی الوحی السماوی حتی نفذ إلی القلوب: «فبالغ فی النصیحة، ومضی علی الطریقة، ودعا إلی الحکمة والموعظة الحسنة» .

فالواقع أن عناصر تقدم البعثة النبویة والتطور الذی أحرزه النبی صلی الله علیه و آله علی صعید الرسالة إنّما یکمن فی أربع: الأول: النصح وإرادة الخیر، بحیث أیقن الناس أنّه یسعی جاهداً من أجل نجاتهم. الثانی: کان ممن قرن القول بالعمل، فیأتمربما یأمر وینتهی عما ینهی.

الثالث: قد دعا اولئک الناس الذین أصیبوا بالجهل والخرافة والحیرة والضلال إلی العلم والمعرفة. وأخیراً کان یدعوا إلی ربّه بالحکمة والموعظة الحسنة والکلمات الرقیقة التی تخترق القلوب.

وقد ذکر البعض من شرّاح نهج البلاغة تفسیراً آخر للعبارتین الآخیرتین، وهو أنّ النبی صلی الله علیه و آله کان یدعو الناس إلی الله بالحکمة والموعظة الحسنة، کما ورد ذلک فی الآیة الشریفة: «أُدْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالحِکْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ» (1)(2).

إلّا أنّ التفسیر الأول یبدو أنسب من خلال الالتفات إلی العبارات السابقة التی اعتبر

ص:172


1- 1) سورة النحل/125. [1]
2- 2) بحسب هذا التفسیر فان «إلی» جاءت بمعنی «به» ، أو أن الذی یأتی بعد «إلی» یجب ان یکون مقدراً، «إلی ربه بالحکمة» .

الإمام علیه السلام عامل بؤسهم یکمن فی: «الجاهلیة الجهلاء» و «بلاء من الجهل» .

علی کل حال فانّ ماورد فی هذه الخطبة بشأن الأوضاع المأساویة والظروف الشائکة والفضائع التی سادت العصر الجاهلی، تدعو الإنسان إلی التفکیر والتأمل، حیث یمکنه الوقوف علی عمق هذه المسألة من خلال الرجوع إلی التواریخ والروایات والأخبار التی تناولت تلک الفترة، فهناک المصادر الکافیة التی أشارت إلی هذا الأمر. ولما کانت مقارنة تلک الاوضاع والظروف بما حدث بعد انبثاق الدعوة الإسلامیة ونهوض رسول الله صلی الله علیه و آله بالأمر والتی تعدّ من معاجز التأریخ الإسلامی، یبدو من الضروری تسلیط الضوء أکثر علی هذا الموضوع ودراسته من قبل الجمیع، ولا سیما من قبل شریحة الشباب.

هذا وقد قدمنا شرحاً مفصلاً بهذا الشأن فی الخطبة الاولی من المجلد الأول، والخطبة 36 و33 من المجلد الثانی، ولا نری هنا من ضوررة للتکرار، إلّاأنا نوصی القراء الأعزاء بالرجوع مرة اُخری إلی هذه الخطب.

ص:173

ص:174

الخطبة السادسة و التسعون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

فی اللّه وفی الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله

نظرة إلی الخطبة

بحث الإمام علیه السلام بصورة رئیسیة فی هذه الخطبة أمرین:

الأول: إشارة إلی بعض أسماء الله الحسنی والثناء علیه بها.

الثانی: بیان بعض مناقب النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وفضائله، إلی جانب الحدیث عن نسبه الشریف ومن ثم نهضته الباسلة التی قبرت الفتنة وأطفأت نیران الأحقاد وحصدت الضغائن من القلوب.

ص:175


1- 1) سند الخطبة: لم نعثر علی سند لهذه الخطبة سوی أنّها وردت فی نهج البلاغة.

ص:176

القسم الأول: الأول والآخر

«الْحَمْدُاللّهِ الأوَّلِ فَلَاشَیْءَ قَبْلَهُ، وَالآخِرِ فَلاشَیْءَ بَعْدَهُ، وَالظَّاهِرِ فَلَاشیْءَ فَوْقَهُ، وَالْبَاطِنِ فَلَاشَیْءَ دُونَهُ» .

الشرح والتفسیر

کما ذکر سابقاً فانّ الإمام علیه السلام أشار فی هذا المقطع من الخطبة إلی بعض صفات الله وأسمائه الحسنی، وقدر کز علی کونه أول وآخر وظاهر وباطن، فحمد الله وأثنی علیه فی أنّه أول الوجود الذی لم یسبقه شیء، والآخر الذین لاشیء بعده: «الحمد لله الأول فلاشیء قبله، والآخر فلا شیء بعده» .

وهو الظاهر الذی لایوجد أظهر منه، والباطن الذی لایوجد أخفی منه: «والظاهر فلاشیء فوقه، والباطن فلا شیء دونه» .

فأولیة وآخریة الحق سبحانه وتعالی تعنی أزلیة الذات المطهرة و أبدیتها؛ لأن أولیته لا تعنی الابتداء الزمانی، حیث لو کان الأمر کذلک لحصر فی دائرة الزمان، کما لیس کذلک من حیث المکان، لأنّه لو کان کذلک لحد بدائرة المکان، بل أولیته تعنی أن ذاته الأزلیة القدسیة مصدر جمیع الوجودات، وقد نشأت منها کافة الموجودات. وهکذا تکون آخریته منزهة عن الاُخرویة الزمانیة والمکانیة، والمراد منها أنّ ذاته سبحانه أبدیة، وبقاء الموجودات متوقف علی بقائه، ومن ثم بقائه حین فناء کل شیء: «کُلُّ مَنْ عَلَیْها فانٍ* وَیَبْقی وَجْهُ رَبِّکَ ذُو الجَلالِ وَالإِکْرامِ» (1).

ص:177


1- 1) سورة الرحمن/26 - 27. [1]

وزبدة الکلام فهو أول عالم الوجود وهو الباقی بعد فناء العالم.

أمّا وصفه بالظاهر والباطن فهو تعبیر عن إحاطته المطلقة بجمیع الأشیاء، فهو أظهر من کل شیء، لأنّ آثاره ملأت أرکان کل شیء وغص بها العالم، وهو أخفی من کل شیء، لأنّ کنه ذاته لیس بمعروف!

وقد أورد بعض الشرّاح تفاسیر اُخری للظاهر والباطن، منها أنّ المراد بالظاهر الغالب علی کل شیء ولایغلبه شیء، کما قیل المراد بالظاهر أفضلیته علی جمیع الأشیاء؛ لکن علی ضوء هذین التفسیرین لایبدو تفسیر مفهوم الباطن بقرینة المقابلة واضحاً مستقیماً، ومن هنا فانّ التفسیر الأول أنسب. فی أنّه ظاهر جلی من حیث آثاره الوجودیة بحیث لایضاهیه شیء؛ فقد ملأت بآثاره الأرض والسماء والنبات والحیوانات والناس والبحار والقفار، مع ذلک فان کنه ذاته علی درجة من الخفاء بحیث لایبلغ أحداً معرفة تلک الذات، فالإنسان متناه وذاته سبحانه لیست متناهیة، فانّی للمتناهی أن یحیط باللامتناهی.

فقد ورد فی الدعا المعروف للإمام الحسین علیه السلام المعروف بدعاء عرفة: «متی غبت حتی تحتاج إلی دلیل یدل علیک ومتی بعدت حتی تکون الآثار هی التی توصل إلیک، عمیت عین لاتراک علیها رقیباً» .

ص:178

القسم الثانی: کلامه بیان وصمته لسان

ومنها: فی ذکر الرسول صلی الله علیه و آله

«مُسْتَقَرُّهُ خَیْرُ مُسْتَقَرٍّ، وَمَنْبِتُهُ أشْرَفُ مَنْبِتٍ، فی مَعَادِنِ الْکَرَامَةِ، وَمَمَاهِدِ السَّلَامَةِ؛ قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الأبْرَارِ، وَثُنِیَتْ إِلَیْهِ أَزِمَّةُ الأَبْصَارِ، دَفَنَ اللّهُ بِهِ الضَّغَائِنَ، وَأَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ، ألَّفَ بِهِ إِخْوَاناً، وَفَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً، أَعَزَّ بِهِ الذِّلُّةَ، وَأَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ، کَلَامُهُ بَیانٌ، وَصَمْتُهُ لِسَانٌ» .

الشرح والتفسیر

بین الإمام علیه السلام فی هذا الکلام بعض صفات رسول الله صلی الله علیه و آله کل واحدة منها أعمق من سابقتها. وقد انطلق فی البدایة من جذوره العریقة وموقع ولادته، لیصف مستقره بأنّه خیر مستقر ومکان ترعرعه أفضل مکان: «مستقره خیر مستقر، ومنبته أشرف منبت، فی معادن الکرامة، ومماهد (1)السلامة» .

والمراد بالمستقر والمنبت الأرحام المطهرة للامهات والاصلاب الموحدة والمؤمنة للآباء؛ الأمر الذی ورد فی زیارة المعصومین علیهم السلام، ومنها زیارة الإمام الحسین علیه السلام المعروفة بزیارة وارث: «أشهد أنک کنت نورا فی الاصلاب الشامخة، والأرحام المطهرة» .

وقد ورد مثل هذا المعنی فی رسول الله صلی الله علیه و آله عنه، حیث روی الفخر الرازی فی تفسیر الآیة

ص:179


1- 1) «مماهد» جمع «ممهد» علی وزن مکتب اقتبست فی الأصل من «مهد» ، ثم اطلقت علی کل مکان یستریح فیه الإنسان أو تسکن إلیه روحه.

«وَتَقَلُّبَکَ فِی السّاجِدِینَ» (1)أنّه صلی الله علیه و آله قال: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرین إلی أرحام الطاهرات» (2). «معادن الکرامة» و «مماهد السلامة» تأکید لهذا المعنی، أو إشارة إلی أنّ آباء النبی صلی الله علیه و آله وأمهاته إضافة إلی الطهر والإیمان، یتحلون بالفضائل الإنسانیة والنزاهة من المعایب الأخلاقیة.

کما قیل المراد بالمستقر المدینة موضع إقامة النبی صلی الله علیه و آله والمنبت مکة مکان ولادته.

إلّا أنّ التفسیر الأول أنسب، ولا سیما بالالتفات إلی العبارة: «فی معادن الکرامة، ومماهد السلامة» .

ثم خاض علیه السلام فی خلقه الجذاب صلی الله علیه و آله الذی استقطب القلوب وخطف الأبصار وشدها إلیه: «قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، وثنیت (3)إلیه أزمة الأبصار» .

حقاً کان رسول الله صلی الله علیه و آله کذلک فقد استطاع بخلقه وتواضعه وشفقته وعفوه وصفحه المقرون بشجاعته وشهامته أن یستقطب إلیه القلوب کما استطاع أن یشد إلیه الأبصار بجهوده المضنیة فی سبیل هدایة الاُمّة والأخذ بیدها إلی السعادة والصلاح.

ثم أشار علیه السلام فی هذه المرحلة إلی بعض الأنشطة الاجتماعیة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله ومنها ازالة الاضغان الاحقاد، وأطفا به نیران الفتن والعدوان: «دفن الله به الضغائن (4)، وأطفأ به الثوائر (5)» .

أضف إلی ذلک فقد ألف به القلوب وآخی به الناس، کما فرق البعض بسبب التعارض بین الإیمان والکفر: «ألف به إخوانا، وفرق به أقراناً» ، کما صرح بذلک القرآن الکریم فی الآیة 62 و63 من سورة الانفال: «هُوَ الَّذِی أَیَّدَکَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِینَ * وَأَ لَّفَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ» ،

ص:180


1- 1) سورة الشعراء/219. [1]
2- 2) تفسیر الفخر الرازی 24/174، [2] کما نقل المرحوم العلّامة الأمینی عدة روایات بهذا الشأن فی بحارالانوار 15/3. [3]
3- 3) «ثنیت» من مادة «ثنی» بمعنی الاعادة ووردت هنا بمعنی الانتباه.
4- 4) «ضغائن» جمع «ضغینة» البغض والعداء.
5- 5) «ثوائر» جمع «ثائرة» الفتنة والعداء.

وقال فی الآیة 103 من سورة آل عمران «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذکُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذ کُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» .

ثم أشار علیه السلام إلی لطف آخرمن الألطاف الإلهیة ببرکة وجود النبی صلی الله علیه و آله: «أعز به الذلة، وأذل به العزة» .

فقد أعز الله ببرکة نبیه صلی الله علیه و آله تلک الثلة المؤمنة التی وقعت فی مخالب الکفر، وفوض الیهم إرادة شؤون المجتمع الإسلامی، وأقصی تلک العناصر الفاسدة عن الساحة، ثم اختتم کلامه علیه السلام بالاشارة إلی أبرز صفاته صلی الله علیه و آله: «کلامه بیان، وصمته لسان» .

فاذا نطق صلی الله علیه و آله تفتق لسانه باسرار الحکمة وبیان حقائق الوحی، وکشف النقاب عن سبیل النجاة، ومهوی الردی ومستنقع السقوط، وأن سکت وصمت، فکان سکوته یختزن المعنی والمفهوم ولم یکن صمتاً طبیعیاً.

نعم کان سکوته أحیاناً تعبیراً عن انزعاجه وقلقه وعدم رضاه ببعض الأفعال، کما کان یرد بهذا السکوت علی بعض الأسئلة غیر الموجهة والخاطئة. وأخیراً کان یستعین بهذا الصمت تجاه سوء ألسنة الجهال. کما لاننسی أن سکوته أحیاناً (ومن خلال بعض القرائن الحالیة) کان یعنی تقریر بعض الأعمال والموافقة علیها) .

ص:181

ص:182

الخطبة السابعة و التسعون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

فی اصحابه، واصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله

نظرة إلی الخطبة

قیل فی الخطبة أنّها وردت - کما ذکر شرّاح نهج البلاغة - حین تمرد جیش الکوفة علی أوامر الإمام علیه السلام بمجابهة أهل الشام بعد واقعة النهروان، فقد عرض علیه السلام فی القسم الأول من هذه الخطبة بالذم لأهل الکوفة وعنّفهم أشد التعنیف أملا فی إثارة حمیتهم وغیرتهم لیتأهبوا للقاء العدو، بعد إفافتهم من نوم الغفلة والالتفات إلی مقدراتهم خشیة نهبها من قبل الظلمة.

ثم دعاهم فی القسم الثانی من الخطبة إلی إقتفاء آثار أهل البیت واتباعهم بفضلهم سبل النجاة، والواقع هو أنّه علیه السلام قد ذکرهم بمضمون ومحتوی حدیث الثقلین.

ثم اختتم علیه السلام الخطبة بالمقارنة بین أهل الکوفة وأصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله، حیث وضح علیه السلام من خلال هذه المقارنة عمق الهوة بین هؤلاء وأصحاب النبی صلی الله علیه و آله من حیث الإیمان والورع والتقوی والعبارة والجهاد والاستقامة والصمود والشجاعة، ومن الواضح أنّ الخطبة بجمیع أقسامها إنّما تنشد هدفاً واحداً، وهو تعبئة جیش الکوفة لمواجهة العدو؛ العدو الذی لایأبه بالدین والدنیا ولایقیم وزناً لأی شیء.

ص:183


1- 1) سند الخطبة: ما أورده المرحوم السید الرضی (ره) فی هذه الخطبة جزءا من خطبة طویلة نقلت بصورة متفرقة فی عدة مصادر، ومن ذلک فی کتاب سلیم بن قیس الهلالی والکافی للمرحوم الکلینی والإرشاد للمفید والتذکرة للسبط ابن الجوزی وتاریخ دمشق لابن عساکر والبیان والتبیین للجاحظ (مصادر نهج البلاغة 2/192. ونهج البلاغة طبعة جماعة مدرسی الحوزة ذیل الخطبة) .

ص:184

القسم الأول: عبید کأرباب

«وَلَئِنْ أَمْهَلَ الظَّالِمَ فَلَنْ یَفُوتَ أَخْذُهُ، وَهُوَ لَهُ بِالمِرْصَادِ عَلَی مَجَازِ طَریقِهِ، وَبِمَوْضعِ الشَّجَا مِنْ مَسَاغِ رِیقِهِ. أَمَا وَالَّذِی نَفْسِی بِیَدِهِ، لَیَظْهَرَنَّ هؤُلاءِ الْقَوْمُ عَلَیْکُمْ، لَیْسَ لِأَنَّهُمْ أَوْلَی بِالْحَقِّ مِنْکُمْ، وَلکِنْ لاِِسْراعِهِمْ إِلَی بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ، وَإِبْطَائِکُمْ عَنْ حَقِّی. وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا، وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِیَّتِی. اسْتَنْفَرْتُکُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا، وَأسْمَعْتُکُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا، وَدَعَوْتُکُمْ سرّاً وَجَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِیبُوا، وَنَصَحْتُ لَکُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا، أَشُهُودٌ کَغُیَّابٍ، وَعَبِیدٌ کَأَرْبَابٍ! أتلوا عَلَیْکُمُ الْحِکَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا، وَأَعِظُکُمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُون عَنْهَا، وَأَحُثُّکُمْ عَلی جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْیِ فَمَا آتی عَلَی آخِرِ قَولی حَتَّی أَرَاکُمْ مُتَفَرِّقِینَ أَیَادِیَ سَبَا. تَرْجِعُونَ إِلی مَجَالِسِکُمْ، وَتَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِکُمْ، أُقَوِّمُکُمْ غُدْوَةً، وَتَرْجِعُونَ إِلَیَّ عَشِیَّةً، کَظَهْرِ الْحَنِیَّةِ، عَجَزَ الْمُقِوِّمُ، وَأَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ» .

الشرح والتفسیر

کما أشرنا فی السابق - نظرة إلی الخطبة - إلی أنّ الهدف من هذه الخطبة هو حث أهل العراق لمواجهة معاویة وأهل الشام. فقد استهل الإمام علیه السلام خطبته بأنّ إمهال الظالم مدة من الزمان لایعنی خلاصه من المؤاخذة والعقاب: «ولئن أمهل الظالم فلن یفوت أخذه» .

فقد کمن له سبحانه بالمرصاد، وإذا شاء منعه ابتلاع ریقه: «وهو له بالمرصاد علی مجاز

ص:185

طریقه، وبموضع الشجا (1)من مساغ (2)ریقه (3)» لعل هذه العبارات إشارة إلی معاویة وأهل الشام، حذراً من تسرب الشک والریب إلی قلوب أصحابه بسبب إمهال الله لهم، کما لایشکوا بأحقیة الإمام علیه السلام وبطلان معاویة، فالواقع أنّ الإمام علیه السلام رام رافع معنویات جیشه بالفات نظره إلی هذه الحقائق. کما یحتمل أن یکون المراد بالظالم ذلک الجیش المتمرد، فالواقع عبارته تهدید لهم بأنّکم إن أمهلتم عدّة أیام فلایغرنکم ذلک أنّکم ستفلتون من العذاب والمؤاخذة بسبب هذا العصیان والتمرد، ویبدو التفسیر الأول أنسب.

علی کل حال، هذا هو الأمر الذی أشار إلیه القرآن الکریم کراراً بقوله: «وَلا یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا أَ نَّما نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِینٌ» (4). وقال فی موضع آخر «إِنَّ رَبَّک َ لَبِالْمِرْصادِ» (5).

ولا یصدق هذا الموضوع أو یقتصر علی ظلمة الشام أو مردة العراق فحسب، بل هو درس وعبرة لنا جمیعاً، بأنّ المهلة الإلهیة لاینبغی أن تقود إلی الغفلة والغرور.

ورد فی حدیث عن الإمام الصادق علیه السلام قال: أنّ الله تبارک وتعالی أهبط ملکا إلی الأرض، فلبث فیها دهراً طویلاً، ثم عرج إلی السماء، فقیل له: مارأیت؟ قال: رأیت عجایب کثیرة، وأعجب مارأیت أنی رأیت عبدا متقلباً فی نعمتک، یأکل رزقک، ویدعی الربوبیة، فعجبت من جرئته علیک ومن حلمک عنه. فقال الله جل جلاله: فمن حلمی عجبت؟ قال: نعم.

قال: قد أمهلته أربعمائة سنة لایضرب علیه عرق، ولایرید من الدنیا شیئاً إلّاناله، ولایتغیر علیه فیها مطعم ولا مشرب. (6)

ص:186


1- 1) «الشجا» ما یعترض فی الحلق من عظم وغیره.
2- 2) «مساغ» من مادة «سوغ» علی وزن فوق العذب
3- 3) «ریق» ماء الفم.
4- 4) سورة آل عمران/178. [1]
5- 5) سورة الفجر/14. [2]
6- 6) بحار الانوار 70/381. [3]

وبالطبع فانّ کل ذلک اختبار له وللعباد.

ثم تکهن الإمام علیه السلام بمستقبل هؤلاء القوم إزاء عدوهم الطامع قائلاً: «أمّا والذی نفسی بیده، لیظهرن هؤلاء القوم علیکم، لیس لأنهم أولی بالحق منکم، ولکن لاسراعهم إلی باطل صاحبهم، وإبطائکم عن حقی» .

فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام أشار إلی نقطة مهمّة هنا وهی أنّ هؤلاء القوم سیتغلبون علیکم آخر الأمر، ولکن لاتظنوا أنّ هذه الغلبة نابعة من کونهم علی الحق. فلا ینبغی أن یعتقد أحد بأنّهم علی الحق فیؤدی به ذلک إلی الضلال. قطعاً أنّهم علی باطل، إلّاأنّهم راسخون فی هذا الباطل عاقدون العزم علیه وهم آذان صاغیة لمعاویة؛ أمّا أنتم وإن کنتم علی حق، إلّاأنّکم ضعفاء، لیس لکم من عزم أو ارادة، ولا تعیرون زعیمکم اذناً صاغیة، فدرجتم علی التمرد والعصیان، فاذا جمعت هذه الصفات فی شخص أو أمة مهما کانت فسوف لن یکون مصیرها سوی الهزیمة والفشل.

فقد روی أبو مخنف فی قصة یوم الحرة: أنّ مسلم بن عقبة رکب فرساً فأخذ یسیر فی أهل الشام ویحرضهم ویقول: یا أهل الشام أنّکم لستم بأفضل العرب فی أحسابها ولا أنسابها، ولا أکثرها عدداً ولا أوسعها بلداً، ولم یخصصکم الله بالذی خصکم به من النصر علی أعدائکم، وحسن المنزلة عند أئمتکم إلّابطاعتکم واستقامتکم. (1)

ثم أشار علیه السلام إلی نقطة مهمّة بهذا الشأن: «ولقد أصبحت الاُمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعیتی» .

فالاُمم والشعوب طیلة التأریخ إنّما تشکو ظلم وجور حکوماتها المستبدة الطاغیة، بحیث أصبح هذا أمرا طبیعیاً، بینما انقلبت هذه المسألة بالنسبة للإمام علیه السلام فهی علی العکس تماماً! لم یکن هناک من یخشی ظلمه علیه السلام، فلم یکن للظلم والجور من سبیل إلی وجوده علیه السلام، فی حین کان هو علیه السلام یعیش حالة القلق والاضطراب من غدر أصحابه ومکائدهم وما شاکل ذلک؛ والحق أنّ مثل هؤلاء الأفراد إنّما یبتلون عاقبة الأمر بالطغاة فیذیقوهم أنواع الظلم، وهذا ماحدث بالفعل، ثم تطرق علیه السلام إلی نقاط ضعف أهل الکوفة والعراق آنذاک فقال: «استنفرتکم للجهاد فلم تنفروا، واسمعتکم فلم تسمعوا، ودعوتکم سرا وجهرا فلم تستجیبوا، ونصحت لکم فلم تقبلوا» .

ص:187


1- 1) ابومخنف، طبق نقل شرح نهج البلاغة للمرحوم التستری 10/596.

والسؤال المطروح: هل کان جیش العراق یشعر بالخطر، إلّاأنّ الضعف والتقاعس یثبطه بعدم مواجهة العدو؟ أم أنّه لم یکن یشعر بخطر من معاویة وأهل الشام؟ الاحتمالان قائمان، إلی جانب الخوف والجبن والجهل والاختلافات القبلیة.

انذاک خاطبهم علیه السلام بعبارات عنیفة - تثیر غیرة من کان له أدنی غیرة ورجولة - بغیة آثارتهم ودفعهم للنهوض والحرکة، فقال علیه السلام: «أشهود کغیاب، وعبید کأریاب، أتلو علیکم الحکم فتنفرون منها، وأعظکم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها، وأحثکم علی جهاد أهل البغی فما آتی علی آخر قولی حتی أراکم متفرقین أیادی سبا» .

«أیادی سبا» وبعبارة اُخری «مثل أیادی سبا» إشارة إلی مثل معروف بین العرب یضرب للمتفرقین، وقیل أنّ سبأ هو أبو عرب الیمن کان له عشرة أولاد، جعل منهم ستة یمیناً له، وأربعة شمالاً تشبیها لهم بالیدین، ثم تفرق اُولئک الأولاد أشد التفرق. (1)

علی کل حال فانّ عبارات الإمام علیه السلام تفید أنّه علیه السلام نصحهم بأدنی الأمر بکلمات حکیمة ومواعظ حسنة، وقد بالغ فی مداراتهم، وما ورد من کلمات عنیفة وحادة تضمنتها بعض عبارات الخطبة فإنّما کانت عقب تلک الکلمات التی تضمنت الوعظ والنصح، هذا فی الوقت الذی کان الطرف الآخر یمتاز بالفضاضة واللجاجة بحیث لا تجعلهم یفیقون من غفلتهم إلّا کلمات الذم والتوبیخ والعتاب.

ثم قال علیه السلام: «ترجعون إلی مجالسکم، وتتخادعون عن مواعظکم، أقومکم غدوة، وترجعون إلی عشیة، کظهر الحنیة (2)، عجز المقوم، وأعضل (3)المقوم» .

فالعبارة تنطوی علی نقطة مهمّة وهی کثرة المنافقین آنذاک بین أهل العراق، وکانوا یسعون للالتفاف علی کلام الإمام علیه السلام، فکانوا یتأثرون بأخلاق الإمام علیه السلام ومواعظه حین یأتوه، ویقتنعون بضرورة الاستعداد والتأهب لقتال العدو، فاذا رجعوا إلی مجالسهم الخاصة والعامة نفثوا سمومهم الشیطانیة وشوشوا الأفکار وسعوا لاضعاف الارادات وتصدیع عری الاتحاد والاخوة وبث بذور الشقاق والفرقة.

ص:188


1- 1) «أیادی» جمع «أیدی» وهذه الاخیرة جمع ید، کما تستعمل الأیادی فی معانی اُخری.
2- 2) «الحنیة» بمعنی القوس وذلک بسبب انحنائه.
3- 3) «أعضل» من مادة «الاعضال» بمعنی الشدة والتعقید.

قال نافع بن کلیب: دخلت الکوفة للتسلیم علی علی علیه السلام فانی لجالس تحت منبره وعلیه عمامة سوداء - إلی أن قال - ثم نزل تدمع عیناه فقال (إنالله وإنا إلیه راجعون) أقومهم والله غدوة ویرجعون إلی عشیة مثل ظهر الحنیة، حتی متی وإلی متی (1)؟

ص:189


1- 1) العقد الفرید، ج 4، ص 162 ( [1]مطابق نقل شرح نهج البلاغة للتستری) .

ص:190

القسم الثانی: شهود الابدان وغیاب العقول

«أیُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، المُبْتَلَی بِهمْ أُمَرَاؤُهُمْ. صَاحِبُکُمْ یُطِیعُ اللّه وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ یَعْصِی اللّهَ وَهُمْ یُطِیعُونَهُ. لَوَدِدْتُ وَاللّهِ أَنَّ مُعَاوِیَةَ صَرَفَنی بِکُمْ صَرْفَ الدِّینَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّی عَشَرَةً مِنْکُمْ وَأَعْطَانِی رَجُلاً مِنْهُمْ!» .

الشرح والتفسیر

شدد الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة من تقریعه وصب جام غضبه علی أولئک القوم، علی أمل انبثاق حرکة فی خضم سکونهم المدهش وإرادتهم الخاویة، لیهبوا قبل بروز الخطر فقال علیه السلام : «أیّها القوم الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المبتلی بهم أمراؤهم» .

فقد رکز الإمام علیه السلام فی هذه العبارة علی ثلاث نقاط ضعف: الاولی: غیاب العقول، وکأنّ عقولهم فارقت أبدانهم فأصبح وجودهم کبلد لیس له من مدیر ومدبر. الثانیة: عدم وجود عری التواصل بینهم أبداً، حیث لکل منهم طلباته علی ضوء اهوائهم وعقولهم القاصرة. وبالبداهة سوف لن تتمکن محل هذه الفئة من حل مشالکها، فضلاً عن مشاکل الآخرین.

الثالثة: نقطة ضعفهم تکمن فی اضطرار زعمائهم للتاقلم معهم. وقد أدت بهم هذه الصفات إلی الخواء فی میدان قتال العدو، ثم قال علیه السلام: «صاحبکم یطیع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام یعصی الله وهم یطیعونه» .

ص:191

یاللعجب! فمن أطاع الله أحق بان یطاع، ومن عصاه لابدّ من معصیته والوقوف بوجهه، بینما انعکست القضیة هنا؛ فقد عومل مطیع الله بالجفاء، وعاصیه بالحب والاحترام! !

ثم تطالعنا عبارة لامثیل لها فی نهج البلاغة، حیث قال علیه السلام: «لوددت والله أن معاویة صار فنی بکم صرف الدینار بالدرهم، فأخذ منی عشرة منکم، وأعطانی رجلاً منهم» ، فالتأکیدات المتعددة فی هذه العبارة تفید جدیة الإمام علیه السلام دون أدنی مبالغة، وکأنّ أهل الشام بمنزلة سکة ذهبیة وأهل العراق فضیة. کما تفید العبارة مدی انضباط أهل الشام آنذاک حیث وقفوا بکل صلابة خلف معاویة رفم خداعه لهم؛ بینما لم یکن هناک أدنی انضباط لأهل العراق فلم یکن قیمة عشرة منهم تعدل قیمة واحد من أهل الشام!

ص:192

القسم الثالث: العمل بالتکلیف

اشارة

«یَا أهْلَ الْکُوفَةِ، مُنِیتُ مِنْکُمْ بِثَلَاثٍ وَاثْنَتَیْنِ: صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ، وَبُکْمٌ ذَوُو کَلَامٍ، وَعُمْیٌ ذَوُو أَبْصَارٍ، لَاأَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلَاءِ! تَرِبَتْ أَیْدِیکُمْ! یَا أشْبَاهَ الإبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا! کُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ، وَاللّهِ لَکَأَنّی بِکُمْ فِیمَا إِخَالُکُمْ: أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَی، وَحَمِیَ الضِّرَابُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أبی طَالِبٍ انفراج الْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا. وَإِنَّی لَعَلَی بَیِّنَة مِنْ رَبِّی، وَمِنْهَاجٍ مِنْ نَبِیِّی، وَإنِّی لَعَلَی الطَّرِیقِ الْوَاضِحِ أَلْقُطُهُ لَقْطاً» .

الشرح والتفسیر

صعد الإمام علیه السلام هنا من حدة کلامه وامطار أرواح القوم بوابل تقریعه ولومه، مع بیان نقاط ضعفهم، علهم یفیقون من غفلتهم ویجدوا فی اصلاح أنفسهم، فقال علیه السلام: «یا أهل الکوفة منیت منکم بثلاث واثنتین صم ذوو أسماع، و بکم ذوو کلام، وعمی ذوو أبصار» .

فالإمام علیه السلام یشیر إلی عجزهم عن مشاهدة الأحداث والافتقار إلی تحلیلها الصحیح وعدم السعی للعثور علی الحلول، فقد قبعوا فی مخادعهم ینتظرون العدو الذی لایأبه بشییء، دون أن تتحرک لهم قصبة، أو یسمعوا رعیده ووعیده فیستعدوا لمجابهته.

إلی جانب ذلک فهناک خصلتان لم تکن فیهم «لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء» .

لا شک أنّ الحیاة ملیئة بالأحداث الساخنة والطبیعیة: فأحیاناً الحرب والقتال والاُخری

ص:193

الصلح والسلام، وتارة الراحة والأمان واُخری التعب والبلاء. والأصدقاء الأوفیاء والاخوة الثقاة لایعرفون عند الراحة والاستقرار، ومیدان معرفتهم إنّما یکمن فی الصعوبات والمعضلات والنزاعات والبلایا والأحداث الألیمة، وممّا یؤسف له أهل الکوفة لم ینجحوا آنذاک فی الامتحان، وقد کشفوا مراراً عن غدرهم وضعفهم وعدم صمودهم وثباتهم.

ومن هنا دعا علیهم الإمام علیه السلام فی العبارات القادمة، ثم اختتم کلامه یتشبیهین رائعین لاوضاعهم النفسیة فقال: «تربت (1)أیدیکم» ، ثم اتبعها بالقول: «یا أشباه الابل غاب عنها رعاتها» .

فالتشبیه تعبیر واضح عن جهل القوم وعدم انضباطهم. فقد شبههم فی البدایة بالحیوانات ومن ثم بعدم وجود الراعی النافذ الکلام.

ثم قال علیه السلام بعد أن أقسم أنّهم لو حمی الوطیس ونشبت الحرب لترکوا الإمام علیه السلام وحده فی الساحة وانفرجوا عنه انفراج المرأة عن ولیدها حین وضعها لحملها: «والله لکأنی بکم فیما إخالکم: أن لو حمس (2)الوغی (3)، وحمی (4)الضراب، قد انفرجتم عن ابن أبی طالب انفراج المرأة عن قبلها» .

هذا وقد ذکرت عدة تفاسیرللعبارة «انفرجتم. . .» إلّاأن ما أوردناه سابقا هو الأنسب لمقام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام إلی جانب رعایة الفصاحة والتناسب فی مقام التشبیه. فالمرأة حین الوضع ترجو أن تضع حملها کل لحظة لما تعانیه من الاُم وأوجاع، والإمام علیه السلام شبه أهل الکوفة بهذه المرأة التی تعد اللحظات أملا فی وضع الحمل، فکانوا یعیشون حالة من الجزع فی میدان القتال بحیث ینتظرون بفارغ الصبر الفرصة المؤاتیة للهروب من ساحة المعرکة، وهو الهروب الذی لاعودة فیه، کالولید الذی ینسلخ عن رحم أمه فلا یعود إلیه. وللإمام علیه السلام تشبیه رائع

ص:194


1- 1) «تربت» من مادة «تراب» ، تستعمل فی الخسارة والفقر، وکأنّ الفقیر قد صرع وخالط التراب یده.
2- 2) «حمس» بالفتح من مادة «حمس» علی وزن قفص بمعنی الشدة و «الحماسة» و «التحمس» یعنی التشدیدولا سیما فی المعرکة.
3- 3) «وغی» یعنی فی الأصل اصوات المقاتلین فی المعرکة، کما تطلق علی نفس المعرکة، وقد وردت عنا بهذا المعنی.
4- 4) «حمی» من مادة «حمی» علی وزن سعی شدة الحرارة، و «الضراب» بمعنی الاشتیاک والمناوشة والقتال.

بهذا الشأن ورد فی الخطبة 34 حیث قال علیه السلام: «وأیم الله إنّی لأظن بکم أن لوحمس الوغی، واستحر الموت، قد انفرجتم عن إبن أبی طالب انفراج الرأس» .

وفی الختام یکشف عن موقفه فی هذه الأحداث فقال علیه السلام : «وإنّی لعلی بینة من ربّی، ومنهاج من نبیی، وإنی لعلی الطریق الواضح ألقطه لقطا (1)» . فمن الطبیعی أن لایکون هناک من شعور بالفشل أو الهزیمة لمن انطلق فی حرکته علی هدی من الله ونور من رسوله صلی الله علیه و آله، ولایری فی کل ما یحدث سوی الغلبة والنصر وأداء التکلیف والوظیفة. والعبارة «ألقطه لقطا» تعنی جمع الأشیاء من نقاط مختلفة، الأمر الذی یحتاج إلی الدقة والفطنة، ومراد الإمام علیه السلام من هذه العبارة أنّی أجد فی الاختیار من أجل التقدم فی مسار الحق وانتخب أفضل السبل من أجل بلوغ الهدف.

تأمّل: مقارنة بین أهل العراق والشام

لقد أورد الإمام علیه السلام عبارة عجیبة فی إطار مقارنته بین أهل العراق والشام لم یرمثیلها حیث قال: لوددت والله أنّ معاویة صرفنی بکم صرف الدینار بالدرهم، فأخذ منی عشرة منکم وأعطانی رجلا منهم. والحال کان ینبغی أن تکون القضیة معکوسة، فقد عقد القرآن الکریم مثل هذه المقارنة بین المؤمنین والکفار فقال: «إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ یَغْلِبُوا مِاَتَیْنِ» (2)، تری لم انقلب هذا المعیار القرآنی بشأن أهل العراق والشام؟

یبدو أنّ التحلیلات الدقیقة من شأنها ایقافنا علی ماورد فی کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام بهذا الشأن.

فالکوفة منطقة حربیة حدیثة، وأنّ أهلها الذین کانوا یمثلون القسم الأعظم من جیش الإمام علیه السلام قد قدموا هناک من عدّة مناطق وهم ینحدرون من مختلف القبائل بحیث لم یکن یسودهم الانسجام والانضباط المطلوب. فکان لکل واحد منهم أهدافه وطموحاته

ص:195


1- 1) «لقط» أخذ الشیء من الأرض، وتطلق «القطة» علی الأشیاء المفقودة، لانّها عادة ماتلتقط من الأرض.
2- 2) سورة الانفال/65. [1]

وطروحاته الفکریة، بینما کانوا أهل الشام کتلة واحدة عاشت هناک لیتحلوا بکافة عناصر الوحدة والانسجام ووحدة الفکر والثقافة. هذا أولا.

وثانیاً: کان فی جیش الإمام علیه السلام من قدم بغیة الحصول علی الغنائم، فان کانت هناک غنیمة سارعوا لمیادین القتال، بینما یقبعون فی بیوتهم حیث التضحیة والفداء والشهادة.

ثالثاً: کان أهل الشام ینظرون إلی منطقتهم کوطن لابدّ من الدفاع عنه والذود عن حیاضه، بینما کان لأغلب أهل الکوفة وطن آخر خارج الکوفة، وکلما ضاقت علیهم السبل فی الکوفة عادوا إلی أوطانهم.

أضف إلی ذلک فانّ ضعف إرادتهم وسرعة خداعهم وانفعالهم بالأعیب العدو، ومن ذلک خدیعتهم فی صفین، وعدم معرفتهم بمقام الإمام علیه السلام ومنزلته، والاغماض عن الحوادث المستقبلیة، کل هذه الاُمور کانت تفعل فعلها فیهم فی میدان القتال.

ومن هنا کانوا یختلقون مختلف الذرائع للهروب من ساحة الحرب، ولایتوانون فی اغتنام أیة فرصة تسنح لهم من أجل الفرار، منهم یتذرعون تارة بحرارة الجو، واُخری ببرودته والحال یصرخ فیهم الإمام علیه السلام: «فاذا کنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم والله من السیف أفر» . (1)

وکأنّ القتال لابدّ أن ینشب فی فصل الربیع؛ علی ظلال الأشجار وسط الحقول الخضراء والمیاه المتدفقة وتغرید العصافیر والطیور.

العنصر الآخر الذی أدی إلی ضعف جیش الکوفة وعدم تحلیه بالانضباط هو أنّ أشرافهم کانوا مرفهین علی عهد عثمان، حیث کان یقسم أموال بیت المال دون حساب بین الناس، وکانت الحصة العظیمة تمنح للزعماء والاشراف والبطانة والأقرباء. فلما تسلم الإمام علیه السلام زمام الاُمور تغیرت الأوضاع لیعیشوا مرارة العدالة بعد أن أنسوا بالظالم والجور، ومن هنا کانوا لا ینفکون عن الشکوی، هذا من جانب ومن جانب آخر فانّ معاویة کان یسعی جاهداً لتحقیق أهدافه دون الاکتراث لدین الله والقیم الإسلامیة والموازین الشرعیة،

ص:196


1- 1) نهج البلاغة، خطبة 27. [1]

فکان یبذل الآف الدنانیر لشراء هذا الفرد أو ذاک من أجل ترسیخ دعائم حکومة، فان لم یسعفه ذلک عمد إلی التهدید والارعاب والقتل.

ومن هنا نقف علی عمق حکمة الإمام علیه السلام وبعد أفقه وتدبیره فی کیفیة تمکنه من زج هؤلاء القوم فی الجمل وصفین والنهروان، وإن شهدت هذه الوقائع بعض الانکسارات بسبب تمرد البعض وعدم طاعتهم لأوامر الإمام علیه السلام.

وهنا نکتشف عمق ماقاله ابن أبی الحدید: إنّ سیاسة علی علیه السلام إذا تأملها المنصف متدبراً لها بالاضافة إلی أحواله التی دفع الیها مع أصحابه، حِرت محِری المعجزات، لصعوبة الأمر وتعذره ثم کسربهم الأعداء، وقتل بهم الرؤوساء، فلیس یبلغ أحد فی حسن السیاسة وصحة التدبیر مبلغه (1).

والحق إننا إذا أردنا أن نصدر حکمنا علی سیاسة أمیرالمؤمنین علیه السلام ونعلن رأینا بهذا الشأن، کان علینا أن نأخذ هذه الاُمور بنظر الاعتبار. وناهیک عن کل ما سبق فانّ الإمام علیه السلام لم یکن لیعتمد أیة وسیلة من أجل بلوغ الهدف، حیث یمنعه دینه وعدله وورعه وتقواه عن ذلک.

ص:197


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/73. [1]

ص:198

القسم الرابع: صحب النبی صلی الله علیه و آله

اشارة

«انْظُرُوا أهْلَ بَیْتِ نَبِیِّکُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ، وَاتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ فَلَنْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ هُدیً، وَلَنْ یُعِیدُو کُمْ فِی رَدیً، فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا، وَإِنْ نَهَضُوا فِانْهَضُوا. وَلا تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، وَلَا تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِکُوا. لَقَدْ رَأَیْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّی اللّهُ عَلیهِ و آلِهِ، فَمَا أَرَی أحَداً یُشْبِهِهُمْ مِنْکُمْ! لَقَدْ کَانُوا یُصْبِحُونَ شُعثاً غُبْراً، وَقَدْ بَاتُوا سُجَّداً وَقِیَاماً، یُرَاوِحُونَ بَیْنَ أَعْیُنِهِمْ رُکَبَ الْمِعْزَی مِنَ طُولِ سُجُودِهِمْ! إِذَا ذُکِرَ اللّهُ هَمَلَتْ أَعْیُنُهُمْ حَتَّی تَبُلَّ جُیُوبَهُمْ، وَمَادُوا کَمَا یَمِیدُ الشَّجَرُ یَوْمَ الرِّیحِ الْعَاصِفِ، خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ، وَرَجَاءً لِلثَّوَابِ!» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام - فی المقطع الأخیر من هذه الخطبة - إلی نقطتین مهمتین؛ الاُولی: تعریفه بالقادة الذین لایضلون أبداً، بهدف تمسک الاُمّة بهم وعدم الانفراج عنهم والتماس الهدایة عن طریقهم بغیة الفوز بالفلاح والسعادة - والثانیة: یتحدث عن صفات أصحاب النبی صلی الله علیه و آله لتکون نموذجاً للاخرین، فیکونوا مصداقاً لمضمون الآیة الشریفة: «وَالَّذِینَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» (1)، فیجدوا ویجتهدوا فی هذا السبیل ویسعوا لأن یتحلوا بصفاتهم. فقال علیه السلام: «انظروا أهل بیت نبیکم فالزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم، فلن یخرجوکم من هدی، ولن یعیدوکم فی ردی» .

فهذا الکلام فی الواقع إشارة إلی حدیث الثقلین الذی یعتبرمن الأحادیث المتواترة والذی

ص:199


1- 1) سورة التوبة/100. [1]

أوصی بالتمسک بالقرآن وأهل البیت اللذان لن یفترقا حتی یردا الحوض، ولن تضل الامة أبدا إن تمسکت بهما.

ومن الواضح طبعاً أنّ المراد بأهل البیت، هم أئمة العصمة علیهم السلام الذین قال فیهم الحق سبحانه وتعالی: «إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً» (1).

ثم أمرهم علیه السلام بالحرکة خلفهم أن تحرکوا ونهضوا، والقعود أن جلسوا وصمتوا: «فان لبدوا فالبدوا (2)، وإن نهضوا فانهضوا» .

فالحق أن الشرائط والظروف الزمانیة والمکانیة فی تغیر مستمر؛ فان کانت الظروف تقتضی القیام والنهضة وخوض غمار الجهاد، فان السکوت یقود قطعاً إلی البؤس والشقاء، وان کانت الظروف لاتسمح بالقیام، فانّ النهضة لاتنطوی سوی علی الخیبة والخسران وهدر الطاقات. وأئمّة العصمة من أهل البیت علیهم السلام أعلم من غیرهم بهذه الظروف والشرائط وینطلقون فی حرکتهم وسکونهم من خلالها، وعلیه فعدم الاقتداء بهذا الاُسلوب إنّما یؤدی إلی الخسران.

ومن هنا قال علیه السلام: «ولاتسبقوهم فتضلوا، ولاتتأخروا عنهم فتهلکوا» ، فالمجتعمات لاتخلو علی الدوام من الأفراد الذین یعیشون حالة الافراط والتفریط. فالمفرطون یحکمون یبطیء حرکة الزعماء الحق فیتقدموا علیهم، لیقودوا المجتمع إلی الهاویة. والمفرطین علی العکس یرون حرکتهم مستعجلة فیتأخرون عنهم بذریعة الحزم والاحتیاط وإجالة الفکر؛ الأمر الذی یؤدی إلی هلاکهم واختلال حرکة المجتمع.

والواقع هو أنّ عبارة الإمام علیه السلام تنسجم والحدیث النبوی المشهور: «مثل أهل بیتی فکیم، مثل سفینة نوح من رکیها نجی ومن تخلف عنها هلک» ، وقد ورد هذا الحدیث بعبارات مختلفة فی مصادر الفریقین، وهو یکشف عن علم أهل بیت النبی علیهم السلام المستقی من القرآن الکریم والسنة النبویة المطهرة، کونهم السفینة الوحیدة للنجاة فی هذه البحار العاصفة؛ علی غرار الطوفان الذی لم یکن فیه من وسلیة للنجاة سوی سفینة نبی الله نوح علیه السلام (3).

ص:200


1- 1) سورة الاحزاب/33. [1]
2- 2) «لبدوا» من مادة «لبود» الإقامة فی المکان.
3- 3) نقل هذا الحدیث المرحوم السید حامد حسین الهندی فی کتاب عبقات الأنوار عن 92 کتاب من 92 عالم من علماء العامة.

والجدیر ذکره ماورد شبیه هذه العبارة فی الخطبة 87 بشأن القرآن فی وصفه خلص عباد الله الذین جعلوه محوراً فی حیاتهم «فهو قائده وإمامه، یحل حیث حل ثقله، وینزل حیث کان منزله» .

وهذا تأکید آخر لحدیث الثقلین.

ثم تطرق علیه السلام إلی خصائص طائفة معینة من صحب النبی الأکرم صلی الله علیه و آله لیقتدی بها صحبه، فقال علیه السلام: «لقد رأیت أصحاب محمد صلی الله علیه وآله، فما أری أحدا یشبههم منکم لقد کانوا یصبحون شعثا (1)غبراً» . (2)

ثم قال فی صفتهم الثانیة: «وقد باتوا سجداً وقیاماً، یراوحون (3)بین جباههم وخدودهم (4)» .

وقال أیضاً: «ویقفون علی مثل الجمر (5)من ذکر معادهم» .

نعم فقد شعروا بعظم العذاب الإلهی بکل کیانهم، فلم یهدأ بالهم ویسکن روعهم : «کأنّ بین أعینهم رکب (6)المعزی (7)من طول سجودهم» ، فقد ذاقوا حلاوة العبودیة، فتراهم یطیلون سجودهم، حتی بدت آثار السجود علی جباههم.

«إذا ذکر الله هملت (8)أعینهم حتی تبل جیوبهم» .

فقد تنهمر دموعهم حیاً لله تارة، وخوفاً من العقاب وخشیة الفراق تارة اُخری: «ومادوا (9)کما یمید الشجر یوم الریح العاصف، خوفاً من العقاب، ورجاءا للثواب» .

والتشبیه بالشجر الذی یمید من جراء الریح العاصف، هو تشبیه رائع، وقد أشار علیه السلام إلی

ص:201


1- 1) «لشعث» جمع «أشعث» وهو المغیر الرأس وهی کنایة عن الفقر أو الزهد.
2- 2) غیر جمع أغیر بمعنی الغبار.
3- 3) «یراوحون» من مادة «تراوح» القیام بالأعمال الواحد بعد الاخر.
4- 4) «خدود» جمع «خد» طرفا الوجه.
5- 5) «جمر» جمع «جمرة» قطعة من النار، وتطلق الجمرة وجمعها جمرات.
6- 6) «رکب» جمع «رکبة» موصل الساق من الرجل بالفخذ.
7- 7) «معزی» و «معز» معروف.
8- 8) «هملت» من مادة «همول» الجریان والنزول.
9- 9) مادوا من مادة میدان الحرکة و الاضطراب.

دلیل ذلک والذی یکمن فی خوف العقاب تارة ورجاء الثواب تارة اُخری.

فهم یبکون بعین شوقا إلی لقاء ربّهم، بینما تهمل الاُخری خشیة من عقاب ربّهم! وهذا هو دیدن الصالحین من عباد الله الذین یعیشون بین الخوف والرجاء.

تأمّلات

1 - ولایة أهل البیت وعصمتهم

تتضح عصمة أهل البیت علیه السلام بجلاء من خلال عبارات الإمام علیه السلام وذلک أنّه علیه السلام: «انظروا أهل بیت نبیکم والزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم، فلن یخرجوکم من هدی، ولن یعیدوکم فی ردی، فان لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، ولاتسبقوهم فتضلوا، ولاتتأخروا عنهم فتهلکوا» .

فالعبارات من أوضح الادلة علی مقام عصمتهم علیهم السلام؛ لأنّ مثل هذه الوصایا لاتصح فی غیر المعصومین من الذنب والخطأ.

کما تدل من جانب آخر علی أنّ امامة المسلمین دائما فی أهل البیت وذلک لأنّ الإمام علیه السلام لم یقید وصایاه بزمان معین.

کما تدل من جهة اُخری علی أنّ مفهوم الولایة لاینسجم وانتقاء أوامر أهل البیت علیهم السلام، بل الولایة الحقیقیة فی امتثال أوامرهم فی کل شیء وعلی أی حال. أمامن یتبع أهل البیت علی مستوی اللسان والقول أو بعض التصرفات الفردیة والاجتماعیة، فلایمکن اعتباره من الموالین الواقعیین، بل ذلک زعم وإدعاء فقط. ومن البدیهی أنّ مراد الإمام علیه السلام لایقتصر علی عصره أو زمانه؛ لأنّه یعرف بأهل البیت بصفتهم أئمة وولاة ولیس فقط شخصه والشاهد الحی علی هذا الکلام ما ورد فی الحدیث النبوی الشریف أنّ النبی صلی الله علیه و آله قال: «انی وأهل بیتی مطهرون، فلا تسبقوهم فتضلوا، ولاتتخلفوا عنهم فتزلوا، ولا تخالفوهم فتجهلوا، ولا تعلموهم فانّهم أعلم منکم. هم أعلم الناس کباراً، وأحلم الناس صغاراً؛ فاتبعوا الحق وأهله حیث کان» (1)

ص:202


1- 1) تفسیر القمی [1]نقلاً عن بحارالانوار 23/130 ح 12. [2]
2 - ممیزات أهل الکوفة والشام

هناک رابطة لطیفة بین القسم الأخیر من هذه الخطبة، الذی یدعو الناس من جانب إلی اتباع اهل البیت، ومن جانب آخر إلی بیان خصائص أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله، والاقسام السابقة من الخطبة التی عرضت بالذم الشدید لأهل العراق والکوفة. وذلک لأنّها تفهمهم من جانب أن لیس لکم من عذر عند الله، لأنّ قادتکم أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله، الذین ما انفک رسول الله صلی الله علیه و آله یوصی الاُمّة بالتمسک بهم وعدم مفارقتهم، فهم عدل القرآن وسفن النجاة، والحال زعیم اهل الشام معروف بالظلم والانحراف والسلب والنهب، وعلیه فقد تمت علیکم الحجة.

والآخر أنّ ضعفکم وهو أنّکم لیس لعدم قدرتکم البدنیة، بل لضعف ارتباطکم بالله وخواؤکم الروحی وانعدام معنویاتکم، ومن هنا دعاهم لاقتفاء آثار تلک الثلة من صحب رسول الله صلی الله علیه و آله بصورة عملیة حیث کانت لها أعظم رابطة بالله سبحانه وتعالی.

ثم تطرق علیه السلام إلی بیان صفاتهم التی تدعوا إلی الغلبة والنصر فقال: لقد کانوا یصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجداً وقیاماً، یراوحون بین جباههم وخدودهم، ویقفون علی مثل الجمر من ذکر معادهم. إذا ذکر الله هملت أعینهم حتی تبل جیوبهم، ومادوا کما یمید الشجر یوم الریح العاصف، خوفاً من العقاب، ورجاء للثواب. و قد کان هذا التعبد و الإلتزام هو سر إنتصارهم علی خصومهم.

3 - حقیقة الصحابة

لعل هناک من یفهم من اطلاق کلام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّ هذه الخصائص قد جمعت فی کافة أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله، وعلیه فهو دلیل علی ماذهبوا إلیه من نظریتهم المعروفة فی تنزیه الصحابة، والحال أنّ هذه الخصائص إنّما تتصف بها فئة خاصة من اصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله کسلمان وأبی ذر وعمار والمقداد ومن کان علی شاکلتهم، لا جمیع الصحابة. وذلک لأنّه أولاً: أنّ هذا الموضوع یخالف السیر والتواریخ، حیث لم تدون لهم کل هذه الصفات، ثانیاً: تفید أغلب آیات القرآن الکریم أنّ بینهم من عرف بالنفاق والذنوب والخطایا والمعاصی. ومن

ص:203

ذلک أن بعضهم قد خان رسول الله صلی الله علیه و آله وجیش المسلمین، وقد تابوا بعد أن افتضح أمرهم؛ کحاطب بن أبی بلتعة وأبی لبابة، وقصتهم معروفة، وعمود التوبة فی مسجد النبی صلی الله علیه و آله شاهد حی علی هذه الحقیقة.

وفیهم من اعترض علی رسول الله صلی الله علیه و آله فی حکم الزکوة، والمال و منهم من عاهد الله بالانفاق أن آتاهم من فضله ومنهم ثعلبة بن حاطب الانصاری الذی وردت قصته فی الآیات 75 - 77 من سورة التوبة.

وفیهم من تخلف عن غزوة تبوک وتمرد علی أوامر رسول الله صلی الله علیه و آله، وقد وردت قصتهم فی ذیل الآیة 118 من سورة التوبة.

وفیهم الحِواسیس الذین وصفتهم الآیة 47 من سورة التوبة: «وَفِیکُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ» .

وفیهم من بنی مسجد ضرار بهدف ایجاد الفرقة والاختلاف بین صفوف المؤمنین، وقد وردت قصتهم فی الآیات 107 - 110 من سورة التوبة.

وفیهم من سار علی الصراط علی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله ثم انقلبوا بعده فاثاروا الفتن واشعلوا نیران الحروب وسفکوا دماء المسلمین، کطلحة والزبیر الذین أججا نار الجمل وخرجا علی إمام المسلمین، ومعاویة الذی آثار الفتن ومنها فتنة صفین.

وعلیه یبدو من السذاجة أن نتغاضی عن هذه الحقائق والوقائع التأریخیة وصریح الآیات القرآنیة، لنعتبر الصحابة منزهین جمیعاً یتصفون بالطهر والعفاف والورع والتقوی.

وبناءاً علی ما تقدم فان أمیرالمؤمنین علی علیه السلام إذا مدح الصحابة وأثنی علیهم - فی هذه الخطبة أو سائر الخطب - فالمفروغ منه أن مراده خاصة صحب رسول الله صلی الله علیه و آله لاجمیعهم.

وهم ثلة معدودة من صحابه کانت تقتفی آثار رسول الله صلی الله علیه و آله وتلتحق به فی کافة المعارک والغزوات، حتی استشهد أغلبهم علی عهده صلی الله علیه و آله.

علی کل حال فانّ هذه الثلة من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله التی انطوت علی أعظم دروس العبودیة والاستقامة والصمود والتضحیة فی سبیل الله والإسلام، وتعلمتها من معلم البشریة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله لجدیرة بان تکون قدوة للمسلمین فی کل عصر وزمان.

وهم الذین قال قیهم المؤرخون أنّهم کانوا یتلون لبعضهم البعض الآخر سورة العصر حین

ص:204

یفترقون، لیوصی کل منهم الاخربالایمان والعمل الصالح والتحلی بالحق والصبر. (1)

وصفهم القرآن بقوله: «سِیماهُمْ فِی وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» . (2)

وهم المعروفون بشدتهم وصلابتهم تجاه الاعداء، واللین والرحمة تجاه الأصدقاء: «وَالَّذِینَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلی الکُفّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ» (3).

ص:205


1- 1) اسد الغایة 3/144.
2- 2) سورة الفتح/29. [1]
3- 3) سورة الفتح/29. [2]

ص:206

الخطبة الثامنة والتسعون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

یشیر فیه إلی ظلم بنی أمیة

نظرة إلی الخطبة

تحدث الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة بعبارات قصار عن فجائع حکومة بنی أمیة وظلمهم وانحرافهم، بحیث صور جمیع مظالمهم وفضائحهم فی هذه الکلمات المختصرة، وهی تفید وخامة العواقب التی تنتظر المجتمع الإسلامی إذا ضعفت إرادته فی المجابهة والتصدی.

التأریخ من جانبه أشار إلی تحقق کافة تکهنات الإمام علیه السلام، وأنّ عدم الالتفات إلی تحذیراته علیه السلام فساد ذلک الظلم والجور الذی عم المسلمین بما لم یشهد له التأریخ مثیلاً.

والخطبة ضمنیاً رد قاطع علی أولئک الذین یترددون فی قتال الإمام علیه السلام لبنی أمیة، علی أنّه قتال المسلمین للمسلمین.

ص:207


1- 1) سند الخطبة: قال صاحب مصادر نهج البلاغة، روی هذه الخطبة ابن قتیبة فی کتاب الإمامة والسیاسة، والذی یفهم من عباراته أنّ الإمام علی علیه السلام خطبها بعد الخطبة 123 (مصادر نهج البلاغة 2/193) .

ص:208

«وَاللّهِ لایَزَالُونَ حَتَّی لایَدَعُوا لِلّهِ مُحَرَّماً إِلَّا اسْتَحَلُّوهُ، وَلَا عَقْداً إِلَّا حَلُّوهُ، وَحَتَّی لاَ یَبْقِی بَیْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إلّادَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ وَنَبَا بِهِ سُوءُ رَعْیِهِمْ، وَحَتَّی یَقُومَ الْبَاکِیَانِ یَبْکِیَانِ: بَاکٍ یَبْکِی لِدِینِهِ، وَبَاکٍ یَبْکِی لِدُنْیَاهُ، وَحَتَّی تَکُونَ نُصْرَةُ أَحَدِکُمْ مِنْ أَحَدِهِمْ کَنُصْرَةِ الْعَبْدِ مُنْ سَیِّدِهِ، إذا شَهِدَ أَطَاعَهُ، وَإِذَا غَابَ اغْتَابَهُ، وَحَتَّی یَکُونَ أَعَْمَکُمْ فِیهَا عَنَاءً أَحْسَنُکُمْ بِاللّهِ ظَنّاً، فَإِنْ أتَاکُمُ اللهُ بِعَافِیَةٍ فَاقْبِلُوا، وَإِنِ ابْتُلِیتُمْ فَاصْبِرُوا، فَإِنَّ «الْعَاقَبَة لِلْمُتَّقِینَ»» .

الشرح والتفسیر

مظالم بنی أمیة

أشار الإمام علیه السلام بهذه العبارات القصار إلی مصیر بنی أمیة، کما یشیر إلی الفجائع التی ارتکبتها هذه الطغمة الفاسدة. حیث أقسم علی امتداد حکومتهم حتی تستحل کل حرام وتنتهک کافة المواثیق والعهود: «والله لایزالون (1)حتی لا یدعوا لله محرماً إلّااستحلوه، ولا عقداً إلّاحلوه» .

وقد قام بعض الأعلام باحصاء بدع بنی أمیة والمحارم التی انتهکوها واستحلوها، والعهود التی نقضوها، سنستعرضها فی الأبحاث القادمة. ویتضح من خلالها عمق الفجائع التی جروها علی العالم الإسلامی.

ثم أشار علیه السلام إلی الفضائع التی ارتکبوها بحق المسلمین وعموم ظلمهم وشموله بحیث لایفلت منه بیتاً من البیوت: «وحتی لایبقی بیت مدر، ولا وبر إلّادخله ظلمهم ونبا به سوء رعیهم» ، والمراد ببیوت المدر المبنیة من الطوب والحجر ونحوهما وهی بیوت المدینة عادة. أمّا

ص:209


1- 1) قال بعض شرّاح نهج البلاغة ان العبارة «لایزالون» فیها محذوف تقدیره «لایزالون ظالمین» ، والظاهرالأنسب أن یکون تقدیره لایزالون حاکمین، ولا سیما بالنظر إلی العبارات اللاحقة.

الوبر فیرادبه صوف الناقة، فالمراد ببیت الوبر الخیام التی کانت تقام فی القری والبوادی، والحق أنّ هذا أروع تعبیر لشمولیة الظلم بحیث لایسع أحد النجاة من ذلک الظلم. وهو الظلم الذی قد یدفع بالبعض إلی الفرار من بیوتهم.

ثم تطرق علیه السلام إلی أنّ الناس آنذاک علی طائفتین؛ طائفة تبکی دینها، واُخری تبکی دنیاها: فی تصویره للفاجعة الثالثة «وحتی یقوم الباکیان یبکیان: باک یبکی لدینه، وباک یبکی لدنیاه» .

نعم فالمتدینون یبکون خشیة علی دینهم من الأخطار التی تهدده من هذه الطغمة سلیلة الجاهلیة، بینما یبکی أصحاب الدنیا علی دنیاهم، فالظلمة قد ساموا الناس الظلم فی دینهم ودنیاهم.

ثم قال علیه السلام: فی بیانه للفاجعة الرابعة «وحتی تکون نصرة أحدکم من أحدهم کنصرة العبد من سیده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه» .

فی أشارة إلی أنّهم یستعبدون الناس، ولیتها کانت من نوع العبودیة التی تسودها علاقة الحب والرأفة بین العابد والمعبود، بل العبودیة التی تختزن کل معانی الظلم والتحقیر والاستخفاف؛ وکأنّهم قیدوا أعناق الناس وسحبوهم بالاتجاه الذی یریدون.

ذهب بعض شراح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بالعبارة طلب الناس العون من هؤلاء، لاعون الناس لهم بمعنی نصرتهم (فالاضافة إلی المفعول لا إلی الفاعل) : وعلیه مفهوم العبارة أنّکم إذا طلبتم عونهم فانّ ذلک کطلب الغلام العون من سیده الظالم، لا طلب الرفیق من رفیقه. إلّاأنّ عبارتی: «إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه» تؤیدان المعنی الأول.

ثم وصف فاجعتهم الأخیرة بأنّها أشد وأعظم علی ذلک الأقرب لله والأکثر عبودیة له: «وحتی یکون أعظمکم فیها عناء أحسنکم بالله ظنا» .

وهل ینتظر غیر هذا من حکومة ظالمة مستبدة مجرمة، لادین لها ولا أخلاق، قطعاً محنة العبد فی ظل هذه الحکومة تکون أعقد وأصعب کلما کان لربه أطوع وأقرب.

ثم اختتم علیه السلام کلامه بتسلیة أصحابه وأنصاره لما ینتظرهم من أحداث ألیمة: «فان أتاکم الله بعافیة فاقبلوا، وإن ابتلیتم فاصبروا فان العاقبة للمتقین» .

ص:210

فالذی یفهم من هذه العبارة أنّ حکومة بنی أمیة وإن مارست ظلمها وضغوطها بحق الاُمّة، فجرعتها أنواع العذاب، إلّاأنّ هناک البعض الذی نجی من هذه الحوادث الخطیرة والمؤطة، وقد أوصی الإمام علیه السلام الطائفة الاولی بالصبر والتحمل وانتظار الفرج، بینما أوصی الثانیة بالحمد والشکر.

تأمّل: بدع بنی أمیة

لقد حصلت کافة تکهنات الإمام علیه السلام التی أوردها فی هذه الخطبة بشأن شمولیة فجائع بنی أمیة، حیث لم تأل هذه الحکومة المستبدة جهدوا عن مقارفة أنواع الظلم والجور، کما سفکت بحاراً من الدماء من أجل ترسیخ دعائم سلطتها الغاشمة، إلی جانب ملئ السجون بالأبریاء من المومنین وسومهم سوء العذاب، وممارسة أقصی درجات العنف والبطش، فعم الخوف والرعب کافة أبناء الاُمّة، بما فیهم مقربی هذه الحکومة وبطانتها. وقد قام المرحوم العلّامة الأمینی بجمع کافة الانتها کات والبدع التی ارتکبها بنی أمیة، مع ذکر اسنادها فی کتابه الغدیر، نورد طائفة منها، ونترک للقاریء العزیز الوقوف علی تفاصیلها فی المجلد الحادی عشر من کتاب الغدیر أنّ معاویة:

أوّل من أحدث الاذان فی صلاة العیدین؟ !

أوّل من رأی الجمیع بین الأختین إحیاء لما ذهب إلیه عثمان؟ !

أوّل من غیّر السنّة فی الدیات وأدخل فیها ما لیس منها؟ !

أوّل من ترک التکبیر فی الصلوات عند کلِّ هویّ وانتصاب وهی سنّة ثابتة؟ !

اوّل من ترک التلبیة وأمر به خلافاً لعلیّ أمیر المؤمنین علیه السلام العامل بسنّة اللّه ورسوله؟ !

أوّل من قدم الخطبة علی الصلاة فی العید لإسماع الناس سبّ علیّ علیه السلام؟ ! وقد صحّ عن نبیّ الإسلام: «من سبّ علیّاً فقد سبّه، ومن سبّه فقد سبّه اللّه» .

أوّل من عصی ربّه بترک حدوده وإقامة سنّتة؟ ! «وَمَنْ یَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَیَتَعَدَّ حُدُودَهُ یُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِیها وَلَهُ عَذابٌ مُهِینٌ» .

ص:211

أوّل من نقض حکم العاهر، وأحیی طقوس الجاهلیّة، وخالف دین محمد صلی الله علیه و آله: «الولد للفراش وللعاهر الحَجر» ؟ !

أوّل من تختّم بالسیار؟ فأخذ المروانیة بذلک إلی أن نقله السفّاح إلی الیمین فبقی إلی أیّام الرشید فنقله إلی الیسار.

أوّل من سنّ سبّ علیّ وقنت به وجعله سنّة جاریة فی خلفه الذین أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات، وشوّة خطب المنابر بذلک الحادث النخری؟ !

أوّل من بغی علی إمام وقته وحاربه وقاتله وقتل أُمّة کبیرة من صلحاء الصحابة البدریّین وأهل بیعة الشجرة الذین رضی اللّه عنهم ورضوا عنه؟ !

أوّل من أعطی المال لوضع الحدیث وتحریف کتاب اللّه وکلمته الطیّبة عن مواضعها؟ !

أوّل من اشتراط البراءة من علیّ علیه السلام من بایعه فی خلافته الغاشمة أو فی ملکه العضوض؟ !

أوّل من حُمل إلیه رأس الصحابّی العادل عمرو بن الحمق وأُدیر به فی البلاد؟ !

أوّل من قتل عدول الصحابة الأوّلین والتابعین لهم بإحسان من عیون الأُمّة وعبّادها ونسّاکها لمحض ولائهم سیّد العترة، وقد جعله اللّه أجر رسالة نبیّه الخاتم صلی الله علیه و آله؟ !

أوّل من قتل نساء کلّ وإلی أهل بیت النبیّ وذبح صبیانهم ونهب أموالهم، ومثَّل بقتلاهم وشتَّت شملهم، وفّرق جمعهم، واستأصل شأفتهم، ونفاهم عن عقر دورهم، وأبادهم تحت کلّ حجر ومدَر؟ !

أوّل من عبثت به رعیّته، وسنَّ العمل بالشهادات المزوّرة، وسلّط ورجال الشرِّ والغیّ والجور علی صلحاء أُمة محمد صلی الله علیه و آله.

أوّل من همَّ بنقل منبر رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن المدینة المشرّفة إلی الشام؟ ! ولّما حرّک المنبر خسفت الشمس فترک.

أوّل من بدّل الخلافة الإسلامیّة إلی شرّ ملک وسلطة سوء؟ !

أوّل من ملک وتجبّر فی الإسلام بلبس الحریر والدیباج، وشرب فی آنیة الذهب والفضّة، ورکب السروج المحلّاة بهما؟ !

أوّل من سمع الغناء وطرب علیه وأعطی ووصل إلیه وهو یری نفسه أمیرالمؤمنین؟ !

ص:212

أوّل من هتک دین اللّه باستخلاف جروه الفاجر المستهتر التارک الصلاة؟ !

أوّل من شنَّ الغارة علی مدینة الرسول صلی الله علیه و آله حرم أمن اللّه، وأخاف أهلیها، وما رعی حرمة ذلک الجوار المقدّس؟ !

إلی جرائم وبوائق تجر الرجل فیها هو السابق الأوّل إلیها.

أصحیحٌ أنَّ مثل هذا الطاغیة تصدر فیه کلمة إطراء من مصدر النبوّة؟ أو یأتی عن نبیِّ العدل والحقِّ والصدق ما یوهم الثناء علیه؟ لا، لا یمکن ذلک؛

2 - غیض من فیض فضائع بنی أمیة

ذکر أبوالفرج الاصفهانی وهو من مشاهیر علماء القرن الرابع الهجری فی کتابه المعروف «الاغانی» بعض الاُمور العجیبة بشأن بنی أمیة، نورد طائفة منها:

1- خالد بن عبداللّه القسری و الی هشام بن عبدالملک علی الکوفة کان زندیقا و أمه نصرانیه و کان یوّلی النصاری و المجوس علی المسلمین. (1)

2- بنی کنیسة لأمه خلف قبلة مسجد الکوفة فکان یضرب فیها الناقوس حین یرتفع صوت الأذان (2).

3- کان یقول - و العیاذ باللّه - بأفضلیة الخلیفة هشام علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و کان یقول بکل و قاحة: و اللّه لو أمرنی الخلیفة لهدمت الکعبة و نقلت حجرها إلی الشام. (3)و العجیب عزله هشام بعد مدة إثر تعرضه لبنی أمیة. (4)

روی ابن أبی الحدید المعتزلی (5)فی شرح نهج البلاغة عن أبی عثمان الجاحظ أن بنی هاشم کانوا یفخرون علی بنی أمیة أنا لم نقم بهذه الأعمال:

أ هدم الکعبة (إشارة لما فعله الحجاج علی عهد عبد الملک)

ب - تغییر القبلة (إشارة لصلاة الولید لغیر القبلة ثملا و هو یقول أینما تولوا فثم وجه اللّه)

ص:213


1- 1) الأغانی 22/23. [1]
2- 2) الأغانی 22/22. [2]
3- 3) الأغانی 22/25. [3]
4- 4) الأغانی 22/33. [4]
5- 5) شرح نهج البلاغة 15/240-242. [5]

ج - لم یجعلوا الخلیفة أفضل شأنا من النبی صلی الله علیه و آله (إشارة لما ورد فی کتاب الأغانی)

ع - لم یختموا رقاب المسلمین (إشارة إلی ختم بنی أمیة لرقاب المسلمین کعبید کما کانوا یختمون الخیل) .

ه - لم ینهبوا حرم النبی صلی الله علیه و آله و ینتهکوا حرمة المسلمات (إشارة إلی قصة مسلم بن عقبة الذی إستباح المدینة بأمر یزید فارتکب فیها من الجرائم ما یعجز القلم عن وصفها) .

و قد وجّه معاویة قبل ذلک یسر بن أرطاة لیهجم علی المدینة و یطوف فی مسجد النبی صلی الله علیه و آله دعیا الناس لبیعته و قتل من تخلف و هدم بیته و مصادرة أمواله.

و نختتم الکلام بما ذکره ابن عساکر - المؤرخ السنی المعروف - فی کتابه تأریخ دمشق أن عبداللّه بن حنظلة - و أبوه غسیل الملائکة من کبار صحابة النبی صلی الله علیه و آله - خاطب الناس حین أمر یزید مسلم بن عقبة بالهجوم علی المدینة فقال: یا قوم اتقوا اللّه وحده لاشریک له، فواللّه ماخرجنا علی یزید حتی خفنا أن نرمی بالحجارة من السماء - إن رجلا ینکح الأمهات و البنات و الأخوات و یشرب الخمر و یدع الصلاة - و اللّه لو لم یکن معی أحد من الناس لأبلیت للّه فیه بلاء حسناً. (1)

و هنا نقف علی عمق کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام «لکل أمة آفة، و آفة هذه الأمة بنو أمیة» (2)و یالهم من جهال أولئک الذین یطرون معاویة و یتغنون بأمجاد بنی أمیة رغم هذه الفجائع.

ص:214


1- 1) تاریخ دمشق لابن عساکر 12/127.
2- 2) کنز العمال 11/364 ح 31755.

الخطبة التاسعة والتسعون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

فی التزهید من الدنیا

نظرة إلی الخطبة

تفید بعض الروایات أنّ الإمام علیه السلام خطب بهذه الخطبة فی صلاة الجمعة، فأوصی فیها الناس بالزهد فی الدنیا، وقد صور غدرها وتقلب أحوالها بالشکل الذی جعل طلابها یمجونها ولایرکنون الیها؛ ولا سیما أنّه تحدث عن اُولئک الذین یذرفون الدمع حزنا علی فقد أعزتهم، وآخرین یعزونهم، وطائفة من الناس قد رقدت علی فراش المرض تنتظر الموت، بهدف ایقاظهم من غفلتهم وسیطرة أهوائهم وهوسهم. فالخطبة موعظة لمرضی القلب من عبدة الدنیا.

ص:215


1- 1) سند الخطبة: رواها قبل السید الرضی (ره) جامع نهج البلاغة زید بن وهب (وهو من أصحاب أمیرالمؤمنین علی علیه السلام الذی نقل جانباً من خطبه علیه السلام فی کتابه خطب أمیرالمؤمنین علی المنابر فی الجمع والأعیاد وغیرهما، وهو أول کتاب صنفه بهذا الشأن) ونقلها عنه المرحوم المحدث النوری فی مستدرک الوسائل باختلاف قلیل، ورواها المرحوم الصدوق فی کتابیه معانی الأخبار ومن لایحضره الفقیه. کما رواها عدد آخر ممن عاش بعد السید الرضی (ره) . (مصادر نهج البلاغة 3/196) . [1]

ص:216

القسم اول: السلامة فی الدین والبدن

«نَحْمَدُهُ عَلَی مَا کَانَ، وَنَسْتَعِینُهُ مِنْ أَمْرنا عَلَی مَا یَکُونُ، وَنَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِی الأَدْیَانِ، کَمَا نَسَأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِی الأَبْدَانِ» .

الشرح والتفسیر

إستهل الإمام علیه السلام خطبته بحمد الله والثناء علیه لتتهیی القلوب لسماع الکلمات القادمة فی الوعظ والنصح، فقال علیه السلام: «نحمده علی ما کان» فمفهوم هذه العبارة واسع شامل، حیث تشمل النعم التی یفیضها الله سبحانه وتعالی علی العباد، کما تشمل الحوادث المریرة والألیمة. وذلک لأنّ خاصة عباد الله تعد کل ما صدر من الله نعمة ورحمة، فتری علیها شکره علی کل حال.

ثم قال علیه السلام: «ونستعینه من أمرنا علی ما یکون» ، فمن الطبیعی أن یکون الحمد والثناء علی الماضی، والاستعانة علی المستقبل، وهذا هو دیدن العباد المخلصین الذی یکمن فی شکر الباریء علی ماکان والاستعانة به علی ما یکون.

ثم قال علیه السلام : «ونسأله المعافاة فی الأدیان، کما نسأله المعافاة فی الأبدان» ، فالعبارة إشارة إلی نقطة لطیفة وهی أنّ الناس لو أولوا سلامة دینهم ذات الأهمیة التی یولونها لسلامة ابدانهم ودنیاهم، لأخذوا العافیة بطرفیها ونجوا. إلّاأنّ المؤسف له أنّ الإنسان قد یتعرض إلی مرض بسیط فتراه یراجع عدداً من الأحیاء، بینما لا یتجه إلی طبیب واحد حتی لو أصابته عشرات الأمراض الروحیة والأخلاقیة الخطیرة.

هذا وقد أورد بعض شرّاح نهج البلاغة عن بعض المفکرین قوله لو سکبت عشر هذه الدموع التی تسکب علی البطون الجائعة والأبدان العاریة علی الأرواح الجائعة للمعرفة

ص:217

والعاریة من الفضائل لزال کل هذا الجوع والعری البدنی، کما زال کل هذا الجوع والعری المعنوی. (1)

جدیر بالذکر أن الأدیان بصیغة الجمع إشارة إلی تدین أفراد البشر، لامختلف الأدیان، علی غرار الأبدان جمع البدن.

ص:218


1- 1) شرح نهج البلاغة العلّامة الجعفری 18/9.

القسم الثانی: سرعة زوال الدنیا

«عِبَادَ اللّهِ، أوصِیکُمْ بِالرَّفْضِ لِهذِهِ الدُّنْیَا التَّارِکَةِ لَکُمْ وَإِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْکَهَا، وَالْمُبْلِیَةِ لأَجْسَامِکُمْ وَإنْ کُنْتُمْ تحبون تجدیدها، فَإِنَّمَا مَثَلُکُمْ وَمَثَلُهَا کَسَفْرٍ، سَلَکُوا سَبِیلاً فَکَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ، وَأَمُّوا عَلَماً فَکَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ. وَکَمْ عَسَی الْمُجْرِی إِلَی الْغَایَةِ أَنْ یَجْرِیَ إِلَیْهَا حَتَّی یَبْلُغَهَا! وَمَا عَسَی أَنْ یَکُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ یِوْمٌ لَایَعْدُوهُ، وَطَالِبٌ حَثِیثٌ مِنَ الْمَوتِ یَحْدُوهُ وَمُزْعِجٌ فِی الدُّنْیَا حَتَّی یُفَارِقَهَا رَغْماً! فَلَا تَنَافَسُوا فِی عِزِّ الدُّنْیَا وَفَخْرِهَا، وَلَا تَعْجَبُوا بِزِینَتِهَا وَنَعِیمِهَا، وَلَا تَجْزَعُوا مَنْ ضَرَّائِهَا وَبُؤْسِهَا، فَإِنَّ عِزَّهَا وَفَخْرَهَا إِلَی انْقِطَاع، وَإِنَّ زِینَتَهَا وَنَعِیمَهَا إِلَی زَوَالٍ، وَضَرَّاءَهَا وَبُؤْسَهَا إلی نَفَادٍ، وَکُلُّ مُدَّةٍ فِیهَا إلَی انْتِهَاءٍ، وَکُلُّ حَیٍّ فِیهَا إِلَی فَنَاءٍ» .

الشرح والتفسیر

بعد أن حمد الإمام علیه السلام الله وأثنی علیه شرع فی هذا المقطع من الخطبة حث الناس علی الزهد فی هذه الدنیا بعبارات نافذة مؤثرة، إلی جانب تصویره لتفاهة هذه الدنیا فقال علیه السلام: «عباد الله أوصیکم بالرفض (1)لهذه الدنیا التارکه لکم وان لم تحبوا ترکها» .

ویالها من فاجعة ان یسعی الإنسان بکل کیانه وذاته نحو معشوق یسعی بکل ما أوتی من قوة للهروب منه! فقد قال علیه السلام: إذا کانت الدنیا تارکة لکم فاترکوها، وان شق ذلک علی

ص:219


1- 1) «رفض» تعنی فی الأصل ترک الشیء، ومن هنا سمیت الشیعة بالرافضة لترکها الخلفاء الثلاثة، وقیل استعملت هذه المفردة لأول مرة علی عهد زید بن علی، حیث نهاهم زید عن سب الشیخین، ولهذا ترکوه.

أهوائکم ورغباتکم، وذلک امتثالاً لقوله سبحانه: «وَعَسی أَنْ تُحِبُّوا شَیْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَکُمْ» (1)، فلعل هناک بعض الاُمور التی تبدو حسنة الظاهر یحبها الإنسان، بینما تستبطن السم الزعاف.

ثم قال علیه السلام: «والمبلیة (2)لأجسامکم وإن کنتم تحبون تجدیدها» .

فکل فرد یلاحظ علی نفسه آثار العجز والتعب بمرور الزمان من قبیل ذهاب النشاط والحیویة وذبول الجلد وضعف العظام وضعف البصر وثقل السمع وتمتمة اللسان وانحناء الظهر وضعف العضلات والاعصاب وما إلی ذلک من الاُمور التی تؤرق الإنسان وتجعله یشعر بالاسی والحزن. ومن هنا یسعی احیانا وبشتی الوسائل لا ستعادة حیویته ولکن هل یصلح العطار ما أفسد الدهر، طبعاً قد یحقق بعض النجاحات الطفیفة فی هذا المجال، إلّاأنّ هناک مسیرة لابدّ له من اجتیازها والوصول إلی مصیره المحتوم، فهل من الصحیح أن یولی الإنسان ظهره لکل هذه الاُمور ویتعلق بالدنیا؟ ! الجدیر بالذکر أن الدنیا لاتبلی الکائنات الحیة ولاسیما بدن الإنسان فحسب، بل یشمل هذا القانون عالم المادة برمته من المجرات حتی الذرات. بل حتی هذه الشمس المشرقة التی تبعث بأشعتها إلی کل مکان إنّما تبلی بالتدریج حتی تنتهی یوماً إلی الزوال؛ الأمر الذی أشار إلیه القرآن الکریم «تکویر الشمس» وأیده العلم الحدیث.

ثم قال علیه السلام: «فانما مثلکم ومثلها کسفر (3)سلکوا سبیلاً فکأنّهم قد قطعوه، وأموا (4)علماً فکأنّهم قد بلغوه، وکم عسی المجری (5)إلی الغایة أن یجری إلیها حتی یبلغها» .

ثم أکد ذلک علیه السلام بقوله، کیف یمکن أن یؤمل البقاء من کان له یوم لابدّ من بلوغه ولایمکنه تجاوزه، والموت یجری خلفه لیسوقه إلی حتفه وان کان کارها: «وما عسی أن یکون بقاء من له یوم لا یعدوه، وطالب حثیث (6)من الموت یحدوه (7)، ومزعج (8)فی الدنیا حتی یفارقها رغما (9)» .

ص:220


1- 1) سورة البقرة/216. [1]
2- 2) «مبلیة» من مادة «بلاء» منهکة.
3- 3) «سفر» جمع «مسافر» بمعنی مسافر.
4- 4) «أموا» من مادة «أم» علی وزن غم القصد.
5- 5) «مجری» من مادة «اجراء» کنایة عن المسافر، وقد وردت فی تفسیره عدة أقوال، الأنسب ما أوردناه فی المتن.
6- 6) «حثیث» من مادة «حث» بفتح الحاء السرعة فی العمل.
7- 7) «یحدو» من مادة «حدی» یسوق.
8- 8) «مزعج» من مادة «ازعاج» السوق والاضطراب والاجتثاث.
9- 9) «رغم» بمعنی الاجبار، ومنه تمریغ الأنف بالتراب حین یضاف للأنف فیقال رغم أنفه.

فالعبارات بمجموعها تکشف النقاب عن ذات الحقیقة وهی تقلب الدنیا وانعدام قیمتها؛ الحقیقة التی یغفلها أغلب الناس، فتقودهم هذه الغفلة إلی البؤس والشقاء والحرمان من السعادة.

ثم یخلص الإمام علیه السلام من هذا البحث بشأن تفاهة الدنیا إلی نتیجة ینبغی أن یبلغها الجمیع، وهی مادامت الدنیا کذلک فلا ینبغی اضاعة الجهود من أجل الحصول علی مفاخرها الزائفة وعزتها الموهومة، کما لاینبغی الانخداع بزینتها وزخارفها الزائلة، ولاینبغی الشعور بالامتعاض والغصة علی آلامها وأحزانها: «فلا تنافسوا (1)فی عز الدنیا وفخرها، ولا تعجبوا بزینتها ونعیمها، ولاتجزعوا من ضرائها وبؤسها» .

وذلک لأنّ فخرها آیل إلی الزوال ونعمتها إلی الفناء، وآلامها إلی انقضاء «فان عزها وفخرها إلی انقطاع، وان زینتها ونعیمها إلی زوال، وضراءها ویؤسها إلی نفاد (2)، کل مدة فیها إلی انتهاء، وکل حی إلی فناء» .

فقد رکز الإمام علیه السلام فی هذه العبارات الرائعة علی عزة الدنیا وفخرها ونعمها وزینتها وآلامها ومصائبها، لیری فناء کل شیء فیها وزواله، ثم عرض لقانون کلی إلی أنّ کل عز فیها إلی انقطاع وزینة ونعیم إلی زوال وضراء وبؤس إلی نفاد وکل مدة فیها إلی انتهاء، وکل حی فیها إلی فناء؛ فاذا کان الأمر کذلک فما معنی کل هذا النزاع والتنافس والجزع؟ ! فقد صرح أحد شرّاح نهج البلاغة بأن الماضین قد ذهبوا وأصبحوا ترابا واننا لنطی ترابهم ثم نکون مثلهم، ثم یعبر علینا الآخرون من بعدنا. ومع کل هذا لا نفیق من غفلتنا! ! وما أروع حدیث الإمام الباقر علیه السلام الذی شبه نعم الدنیا بالمال الذی یراه النائم فان نهض من نومه لم یر شیئاً: «أو کمال وجدته فی منامک، فاستیقظت ولیس معک منه شیء» (3).

أو کما صورها الشاعر: ألا إنّما الدنیا کمنزل راکب أناخ عشیاً وهو فی الصبح راحل

وکل شباب، أو جدید إلی البلاء وکل امرء یوماً إلی الله صائر

ص:221


1- 1) «تنافسوا» من مادة «تنافس» بمعنی بذل الجهد والسعی، ومحاولة شخصین او مجموعتین للحصول علی شیء نفیس.
2- 2) نفاد بمعنی الفناء والزوال.
3- 3) بحارالانوار 70/36. [1]

ص:222

القسم الثالث: دروس الدنیا وعبرها

«أَوَلَیْسَ لَکُمْ فِی آثارِ الأوَّلینَ مُزْدَجِرٌ، وَفی آبَائِکُمُ الْمَاضِینَ تَبْصِرَةٌ وَمُعْتَبَرٌ، إنْ کُنْتُمْ تَعْقِلُون َ! أَوَلَمْ تَرَوْا إلَی الْماضِینَ مِنْکُمْ لَایَرْجِعُونَ، وَإلَی الْخَلَفِ الْبَاقِینَ لَایَبْقَوْنَ! أَوَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْیَا یُصْبِحُونَ وَیُمْسُونَ عَلَی أَحْوَالٍ شَتَّی: فَمَیِّتٌ یُبْکَی، وَآخَرُ یُعَزَّی، وَصَرِیعٌ مُبْتَلیً، وَعَائِدٌ یَعُودُ، وَآخَرُ بِنَفْسِهِ یَجُودُ، وَطَالِبُ لِلدُّنْیَا وَالْمَوْتُ یَطْلُبُهُ، وَغَافِلٌ وَلَیْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ؛ وَعَلَی أَثَرِ الماضِی مَا یَمْضِی الْباقِی!» .

الشرح والتفسیر

واصل الإمام علیه السلام هذا المعلم الربانی العظیم کلامه السابق من أجل نفخ الیقظة فی هذه الأرواح التی تعیش السبات والغفلة من خلال للدنیا وتقلب أحوالها فقال علیه السلام: «أو لیس لکم فی آثار الأولین مزدجر (1)، وفی آبائکم الماضین تبصرة ومعتبر، ان کنتم تعقلون» .

ثم وضح علیه السلام هذه العبارة بقوله: «أولم تروا إلی الماضین منکم لا یرجعون، وإلی الخلف الباقین لا یبقون» .

إشارة إلی قانون الموت والفناء؛ القانون العام الشامل الذی لیس فیه أی إستثناء، فمن ذهب لایعود، ومن بقی فهو سائر اثر تلک القافلة إلی الزوال وعدم العودة. مع هذا الفارق وهو أنّ البعض فی الصفوف المقدمة والبعض الآخر فی الصفوف المؤخرة؛ علی غرار عباراته التی

ص:223


1- 1) مزدجر من مادة زجر المانع، مصدر میمی بمعنی اسم الفاعل.

خاطب بها الأموات ممن دفنوا ظهر الکوفة: «أنتم لنا فرط سابق، ونحن لکم تبع لاحق» (1).

ثم خاض علیه السلام فی بیان هذا الکلام بعبارات أدق وأوضح و تحلیل دقیق و بلیغ بعد أن قسم أحوال أهل الدنیا فی مصابهم بالحوادث إلی سبعة أقسام لیقول: «أولستم نزون أهل الدنیا یصبحون ویمسون علی أحوال مشتی: فمیت یبکی، وآخر یعزی، وصریح مبتلی، وعائد (2)یعود، وآخر بنفسه یجود (3)، وطالب للدنیا والموت یطلبه، وغافل ولیس بمغفول عنه؛ وعلی أثر الماضی مایمضی الباقی» .

یا لها من عبارات رائعة وشاملة عظیمة الثأثیر إذا استطاع الإنسان أن یتمثل صورها للناس وهم یتحرکون؛ فهذا یموت ویبکی علیه، وهنالک مجلس للعزاء تتوافد علیه الناس جماعات لیعزوا ذوی الفقید. وهناک من رقد علی فراش المرض وقد عاده جمع من الاخوة والأصدقاء. وهناک من یعالج سکرات الموت ویحتضر ولیس لأحد أن یفعل له شیئاً. وهناک صورة اُخری یطالعک فیها الناس وهم یسارعون فی الرکض والحرکة دون الالتفات إلی الحلال والحرام والمشروع والممنوع بغیة الحصول علی شیء من حطام الدنیا؛ بینما کمن لهم الموت فی الطریق؛ وإذا به یباغتهم لیقضی علی جمیع آمالهم وأحلامهم. وبالتالی هناک فئة غافلة مشغولة بالذائذ العیش وسکر النعم والفرح والسرور دون أن تلتفت إلی الموت الذی ینتظرها؛ فاذا هجم الموت علی أحدهم أحال فرحهم حزناً وغماً.

هذه هی صور الحیاة السائدة طیلة تاریخ البشریة وستکون کذلک، ویا لها من صور تنطوی علی الدروس والعبر، إلّاأنّ القلة القلیلة من تعتبر.

ص:224


1- 1) نهج البلاغة، کلمات القصار 130.
2- 2) «عائد» من یذهب لعبادة أحد.
3- 3) «یجود» من مادة «جود» السخاء، وتستعمل فی الاحتضار وکأنّ الإنسان یسخو بانفس ما لدیه وهی روحه.

القسم الرابع: هادم اللذات

اشارة

«ألَا فَاذْکُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ، وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ، وَقَاطَعِ الْأُمْنِیَاتِ، عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ لِلأَعْمَالِ الْقَبِیحَةِ، وَاسْتَعِینُوا اللّهَ عَلَی أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ، وَمَا لَایُحْصَی مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی ختام هذه الخطبة الفصیحة والبلیغة النافذة إلی نقطتین تکملان البحث السابق:

الاولی: الإشارة إلی الموت الذی یدعو ذکره إلی یقظة الإنسان من سباته وغفلته: «ألا فاذکروا هادم اللذات، ومنغص (1)الشهوات، وقاطع الامنیات، عند المساورة (2)للأعمال القبیحة» .

فقد وصف الإمام علیه السلام الموت هنا بثلاث: الأول: أنّه هادم اللذات؛ لأن أغلب الناس یفنون أعمارهم لیوفرا لأنفسهم العیش الهنیئ واللذیذ، بالضبط فی الوقت الذی تهجم فیه الأمراض علی الإنسان وتردیه میتاً. أضف إلی ذلک کثیراً ما تشاهد مجالس السرور واللذة وقد تعکرت وتبدلت عزاءا إثر بعض الحوادث، والعجیب لیس هنالک من ضمانة لأحد بعدم وقوع هذه الحوادث.

ص:225


1- 1) «منغص» من مادة «نغص» علی وزن نقص بمعنی لیس عذب، وبمعنی اعتراض الماء فی الحلق، ثم اطلقت علی الحیاة الصعیة ونحو ذلک.
2- 2) «مساورة» من مادة «سور» علی وزن غور المواثبة، کأنّه یری العمل القبیح لبعده عن ملاءمة الطبع الإنسانی بالخطرة ینفر عن مقترفه کما ینفر الوحش، فلایصل إلیه المغبون إلّابالوثبة علیه.

الثانی: منغص الشهوات؛ لأن الموت - الذی لیس له من زمان معین ولا یمکن التکهن به قط - یهجم علی الإنسان فی تلک اللحظة التی ینعم فیها بالشهوات.

الثالث: قاطع الامنیات؛ فامانی الإنسان کثیرة طویلة لاتعرف الحدود ولا یقطعها ویعطلها سوی الموت. فهذه العبارات علی درجة من القوة. بحیث تؤثر علی کل إنسان. و الرائع أنه قال «الا فاذکروا هادم اللذات. . . عند المساورة للأعمال القبیحة» إشارة إلی أن القبائح کثیرا ما تتزین بحیث یهجم علیها الإنسان کالوحش الذی ینقض علی فریسته - ففی هذه اللحظة یمکن أن یصده عن ذلک ذکر الموت.

ثم أوصی علیه السلام بذکر نعم الله التی تحول دون ارتکاب الذنوب علی أنها العامل الثانی الذی یصد عن المعاصی «واستعینوا الله علی أداء واجب حقه، وما لا یحصی من أعداد نعمه وإحاسنه» .

فشکر المنعم لایؤدی إلی معرفة الله فحسب، بل یلعب دوراً مباشراً فی دفع الإنسان لاداء الواجبات وترک المحرمات.

تأمّلان

1 - خداع الدنیا محدود

یزعم أغلب الناس أن الدنیا خادعة بزینتها وزخرفها؛ وقد اُشیر إلی هذا المعنی فی الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة. إلّاأننا إذا فکرنا بصورة سلیمة لتوصلنا إلی أنّ هذا الخداع إنّما یطیل السذج والحمقی من الناس. وهذا ما أورده الإمام علیه السلام حیث صور الدنیا وقد ملئت بحوادث الغدر والخیانة والتنکر والتقلب. کما حفلت بالآف الصور التی تبعث علی الاعتبار من قبیل المرض والموت والعزاء والحوادث الالیمة وماشاکل ذلک، فهل خادعة هی الدنیا وهی بهذه الصفات.

ومن هنا قال علیه السلام وقد سمع رجلاً یذم الدنیا، أیها الذام للدنیا، المغتر بغرورها، المخدوع بأباطیلها! أتغتر بالدنیا ثم تذمها؟ أنت المتجرم علیها، أم هی المتجرمة علیک؟ متی استهوتک، أم متی غرتک؟ أبمصارع آبائک من البلی أم بمضاجع أمهاتک تحت الثری؟ کم عللت بکفیک،

ص:226

وکم مرضت بیدیک! تبتغی لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، غداة لا یغنی عنهم دواؤک، ولایجدی علیهم بکاؤک. (1)

کما قال علیه السلام: مثل الدنیا کمثل الحیة لین مسها، والسم الناقع فی جوفها، یهوی الیها الغر الجاهل، ویحذرها ذواللب العاقل. (2)

2 - أکیس الناس

ورد فی بعض الروایات سئل رسول الله صلی الله علیه و آله من أکیس المؤمنین؟

فقال صلی الله علیه و آله: «أکیس المؤمنین أکثرهم ذکرا للموت، وأشدهم له استعدادا» (3).

وفی حدیث آخر عنه صلی الله علیه و آله تحت عنوان: «أکیس الناس وأحزمهم» جاء فی آخره: «أولئک الأکیاس ذهبوا بشرف الدنیا وکرامة الآخرة» (4).

والدلیل علی ذلک واضح لأن ذکر الموت وفناء الحیاة عامل مهم فی الصد عن الذنوب والمعاصی التی تنشأ عادة من حب الدنیا والتعلق بزخارفها والحرص والطمع الذی ینسی ذکر الموت والآخرة «فَإِذا رَکِبُوا فِی الفُلْکِ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلی البَرِّ إِذا هُمْ یُشْرِکُونَ» (5).

ومن الاُمور التی حث علیها الإسلام زیارة القبور التی تهدف إلی احترام أرواح الأموات من المؤمنین، إلی جانب کونها من العوامل المهمة فی إیقاظ الإنسان، حیث لایملک الإنسان هناک سوی الأذعان لهذه الحقیقة. کل فتی وان طالت سلامته لابدّ یوماً علی آلة الحدباء محمول

ص:227


1- 1) نهج البلاغة، [1] کلمات القصار 131.
2- 2) نهج البلاغة، [2] کلمات القصار 119.
3- 3) میزان الحکمة 3/ ح 18013.
4- 4) میزان الحکمة 3 / ح 18014.
5- 5) سورة العنکبوت/65. [3]

ص:228

الخطبة مأة

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

فی رسول الله وأهل بیته علیه السلام

نظرة إلی الخطبة

کما أشرنا فی سند الخطبة فانّ الإمام علیه السلام خطبها أوائل خلافته. حیث استهلها بحمد الله والثناء علیه، ثم تطرق إلی رسالة النبی صلی الله علیه و آله وضرورة طاعته واتباعه. ثم أشار علیه السلام إلی بعض الأخبار عنه وعن أهل العراق فقال: فاذا أنتم ألنتم له رقابکم، وأشرتم إلیه باصابعکم، جاءه الموت فذهب به.

ثم یختتم الخطبة بالحدیث عن عظمة آل محمد صلی الله علیه و آله وبرکتهم واستمرار هدایتهم، و کلما ذهب منهم أحد خلّفه آخر.

ص:229


1- 1) سند الخطبة، لابن أبی الحدید کلام فی هذه الخطبة یدل علی أنّه نقلها من مصدر آخر غیر نهج البلاغة فقد قال: واعلم أنّ هذه الخطبة خطب بها أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی الجمعة الثالثة من خلافته، وکنی فیها عن مال نفسه، وأعلمهم فیها أنّهم سیفارقونه ویفقدونه بعد اجتماعهم علیه وطاعتهم له؛ وهکذا وقع الأمر، فانّه نقل أن أهل العراق لم یکونوا أشد اجتماعاً علیه من الشهر الذی قتل فیه علیه السلام. وجاء فی الأخبار أنّه عقد للحسن ابنه علیه السلام علی عشرة ألاف، ولأبی أیوب الأنصاری علی عشرة ألاف ولفلان وفلان، حتی اجتمع له مائة ألف سیف، وأخرج مقدمته، أمامه یرید الشام فضربه اللعین ابن ملجم، وکان من أمره ما کان، وانفضت تلک الجموع، وکانت کالغنم فقدت راعیها. (مصادر نهج البلاغة 2/198) . [1]

ص:230

القسم الأول: رایة الحق

اشارة

«الْحَمْدُ لِلّهِ النَّاشِرِ فی الْخَلْقِ فَضْلَهُ، وَالْبَاسِطِ فِیهمْ بِالْجُودِ یَدَهُ. نَحْمَدُهُ فِی جَمِیع أُمُورِهِ، وَنَسْتَعِینُهُ عَلَی رِعَایَةِ حُقُوقِهِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَاإلهَ غَیْرُهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بَأَمْرِهِ صَادِعاً، وَبَذِکْرِهِ نَاطِقاً، فَأَدَّی أَمِیناً، وَمَضَی رَشِیداً؛ وَخَلَّفَ فِینَا رَایَةَ الْحَقِّ، مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ، وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ، دَلِیلُهَا مَکِیثُ الْکَلام، بَطِیءُ الْقِیَامِ، سَرِیعٌ إذَا قَامَ، فَإذَا أنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَکُمْ، وَأَشَرْتُمْ إلَیْهِ بِأَصَابِعِکُمْ، جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ، فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللّهُ حَتَّی یُطْلِعَ اللّهُ لَکُمْ مَنْ یَجْعُکُمْ وَیَضُمُّ نَشْرَکُمْ، فَلا تَطْمَعُوا فِی غَیْرِ مُقْبِلٍ، وَلَا تَیْأَسُوا مِنْ مُدْبِرٍ، فَإِنَّ الْمُدْبِرَ عَسَی أَنْ تَزِلَّ بِهِ إِحْدَی قَائِمَتَیْهِ، وَتَثْبُتَ الأُخْری، فَتَرْجِعَا حَتَّی تَثْبُتَا جَمِیعاً» .

الشرح والتفسیر

لاشک أنّ الهدف الأصلی للخطبة بیان أوصاف رسول الله صلی الله علیه و آله ومقامات أهل بیته علیهم السلام، ولکن وعلی ضوء الحدیث المعروف: «أن کل خطبة لیس فیها تشهد فهی کالید الجذماء» (1)، فانّ الإمام علیه السلام إستهل کلامه بحمد الله والثناء علی والشهادة له بالوحدانیة وللرسول الأکرم صلی الله علیه و آله بالنبوة، لتستنیر القلوب بهاتین الشهادتین وتتأهب لسماع المطالب القادمة. فقال علیه السلام: «الحمد لله الناشر فی الخلق فضله، والباسط فیهم بالجود یده» .

ص:231


1- 1) شرح نهج البلاغة للمرحوم العلامة الخوئی 7/157.

فوصف بالله بهذه الصفات هو فی الواقع دلیل علی تفرده سبحانه بکل حمد وثناء، نعم فهو الجدیر بکل مدح وحمد وثناء، کیف لا وقد عم فضله وانتشر جوده وملأت أرکان العالم نعمه وآلائه. و لا ینبغی ذلک لمن سواه، فهم عیال علی نعمه.

ثم أشار إلی سعة حمده و الثناء علیه قال علیه السلام: «نحمده فی جمیع أموره، ونستعینه علی رعایة حقوقه» .

فالعبارة «جمیع أموره» تفید أننا لانحمده عند النعم والرفاه والدعة والعافیة فحسب، بل نحمده ونشکره فی البلاء والشدة وحین الوقائع الخطیرة، وذلک لأنه أولاً: کل ما یفعله الله یتفق والحکمة والمصلحة، حتی المصائب التی تصب علینا إختباراً فهی کفارة لذنوبنا، أو أنّها سبب لیقظتنا من نوم الغفلة.

وثانیاً: أنّ هذه الحوادث تجعلنا ننال أجر وثواب الصابرین وجزاء الشاکرین وهذه نعمة کبری.

والعبارة «ونستعینه. . .» أی إننا یجب أن نستمد العون منه لطاعته وإمتثال أوامره ورعایة حقوقه، حیث لایسعنا فعل شیء دون عونه، وهذا ما نردده لیل نهار فی صلواتنا «إِیَّاکَ نَعبُدُ وَإِیَّاکَ نَستَعِین» ولما فرغ علیه السلام من حمد الله والثناء علیه، شهد لله بالوحدانیة وأن لا معبود سواء «ونشهد أن لا إله غیره» . لأننا إذ سلمنا أنّ النعم منه، فانّ العبودیة والطاعة لاتلیق الا به سبحانه وبذاته المقدسة.

ثم اتبعها بالشهادة للنبی صلی الله علیه و آله بالنبوة والعبودیة: «وأن محمدا عبده ورسوله» أمّا تقدیم العبودیة علی الرسالة، فتفید نفیها لکافة أنواع الشرک عن المؤمنین، إلی جانب کون مقام العبودیة أفضل وأسمی من مقام النبوة! لأنّ العبد الکامل المخلص لله یری تمام وجوده لله، فلایفکر فی سواه ولایرجو غیره، وهذا بحد ذاته أوج تکامل الإنسان الذی لیس بعده من مقام. ثم أشار علیه السلام إلی بعض صفات النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی أنّه صدح بالحق، وأدی رسالته بکل أمانة حتی مضی إلی ربّه بعد أن ثبت دعائم الحق: «أرسله بأمره صادعاً، (1)وبذکره ناطقاً،

ص:232


1- 1) «صادع» من مادة «صدع» فالقا به، کما وردت هذه المفردة بمعنی الاظهار والاعلان، حیث یظهر باطن الشیء عند فلقه وهذا ما ارید بها فی العبارة، وأمّا «الصداع» الذی یطلق علی وجع الرأس فکأنه یرید أن یفلقه.

فأدی أمینا، ومضی رشیدا؛ وخلف فینا رایة الحق» .

فقد أشار الإمام علیه السلام بهذه العبارة إلی الخدمات الجلیلة التی أسداها النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، إلی جانب ابلاغه لأوامر الحق ونواهیه، کما شرح من جانب آخر کل مایلزم لمعرفة الله سبحانه، وأنّه صلی الله علیه و آله کان أمیناً فی قیامه بهذه المهمة فی أداء الرسالة، کما عمل صلی الله علیه و آله بما قال لیکون للاُخری أسوة صالحة، کما کان حریصاً علی الأجیال القادمة فنصب لهم رایة الحق، حیث خلف فی الاُمّة کتاب الله وسنته.

واختلف الشرّاح فی تفسیر المراد بقوله: «رایة الحق» فذهب البعض الر أن المراد به القرآن الکریم، وقیل الکتاب والسنة، کما فسر بالکتاب والعترة اللذان وردا فی حدیث الثقلین.

إلّا أنّ تفسیرها بالکتاب والسنة (لأنّ الکتاب دعا إلی السنة) أنسب بالنظر لتصدر الکلام بالعبارة: «دلیلها مکیث الکلام» .

ثم أضاف علیه السلام قائلاً: «من تقدمها مرق (1)، ومن تخلف عنها زهق (2)ومن لزمها لحق» .

فالعبارة تشیر إلی کیفیة التعامل الطوائف الثلاث من الناس مع الحق: طائفة مفرطة تتقدم علی الحق فتصیبها الحیرة والضلال کالخوارج الذین ذهبت بهم الظنون بأنّهم إنّما یعملون بالقرآن فتقدموا علی إمام زمانهم فعاشوا بحماقتهم ذلک التناقض، أو کأولئک الذین کانوا علی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله فرأوه أفطر حین سافر فزعموا أنّهم لایفطرون رعایة طرحة شهر رمضان حتی تسموا بالعصاة (3)الطائفة الثانیة من أهل التفریط الذین یتقدمون بضع خطوات فی الحق ثم تحول أهوائهم وضعفهم دون مواصلة الطریق.

والطائفة الثالثة الملازمة للحق التی لا تتقدم علیه ولا تتخلف عنه؛ فهی تتحرک دائماً فی ضل الحق حتی تبلغ أهدافها. (4)

ص:233


1- 1) «مرق» من مادة «مروق» علی وزن غروب الخروج عن الدین، ومن هنا اطلق الخوارج علی تلک الفرقة التی خرجت عن الإیمان.
2- 2) «زهق» من مادة «زهوق» الاضمحلال والهلکة.
3- 3) وسائل الشیعة 7/125، ح 7 (ابواب من یصح منه الصوم) .
4- 4) یمکن أن یکون مفعول لحق کتاب الله أو رسول الله أو الحق أو جمیعها.

ثم قال علیه السلام: «دلیلها مکیث (1)الکلام، بطییء القیام، سریع إذا قام» .

والسؤال الذی یطرح نفسه هنا: هل المراد بالدلیل فی العبارة حامل الرایة؟ أم الشخص الذی یتحرک فی مقدمة العسکر والعارف بالطریق الذی یهدی الآخرین إلی جادة الصواب؟

یبدو الاحتمال الأول هو الاقوی، لأنّ حامل الرایة ینهض بمسؤولیة الهدایة أیضاً، والعسکر مکلف باتباعه أینما حل.

علی کل حال فقد صرح أغلب شرّاح نهج البلاغة أنّ المراد به شخص أمیر المؤمنین علیه السلام أو جمیع أهل البیت علیهم السلام؛ فقد قرنوا علیه السلام - حسب حدیث الثقلین - بالقرآن وأنّهم لن یفترقوا عنه أبداً، حیث جاء فی الحدیث: «إنّی تارک فیکم الثقلین ما أن تمسکتم بهما لن تضلوا بعدی أبداً کتاب الله وعترتی أهل بیتی وقد نبأنی اللطیف الخبیر أنّها لن یفترقا حتی یردا علی الحوض، فانظروا کیف تخلفونی فیهما» .

وأمیرالمومنین علی علیه السلام من قال له رسول الله صلی الله علیه و آله حسب مصادر الفریقین: «انت مع الحق والحق معک حیثما دار» (2).

فقد کان علیه السلام القرآن الناطق ومبین سنة رسول الله صلی الله علیه و آله.

والعبارة «مکیث الکلام» لا تعنی أنّه قلیل الکلام؛ بل تعنی تریثه فی الکلام، وبعبارة اُخری أنّه رزین فی کلامه فلا یبادر من غیر رویة. والعبارة «بطیئی القیام، سریع إذا قام» تأکید لهذا المعنی وهو أنّ أعماله هی الاخری رزینة کأقواله، فلایعجل فی قیامه بالأعمال، ولکن إذا حان العمل لم یفوت الفرصة، فیقدم علیه بکل صرامة دون أدنی تردید. والحق أنّ من عرف

ص:234


1- 1) «مکیث» من مادة «مکث» الرزین فی قوله فلایبادر من غیر رویة فی قوله وعمله.
2- 2) نقل هذه الحدیث عن أم سلمة بطرق مختلفة عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله. ومن ذلک نقله ابن عساکر فی تاریخ دمشق وأبوبکر البغدادی فی تاریخ بغداد والحموی فی فرائد السمطین. وجاء فی صحیح الترمذی أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال «اللّهم أدر الحق معه حیثما دار» (للوقوف علی تفاصیل هذا الحدیث راجع کتاب احقاق الحق 5/623 [1] والغدیر 3/176) . [2] والطریف مانقله الفخر الرازی فی تفسیر سورة الحمد فی مورد الجهر بالبسملة عن البیهقی عن أبی هریرة ان رسول الله صلی الله علیه و آله کان یجهر بالبسملة، ثم قال: کما کان یجهر بها عمر وابن عباس وعبدالله بن عمر وعبد الله بن الزبیر أمّا علی علیه السلام فقد ثبت بالتواتر أنّه کان یجهر بالبسملة دائماً، فمن اقتدی به فی دینه هدی إلی الحق والدلیل علی ذلک حدیث النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «اللّهم أدر الحق مع علی حیث دار» (تفسیر الفخر الرازی 1/204 - 205.

سیرة أمیرالمؤمنین علی علیه السلام یذعن بهذه الصفات التی انطوت علیها شخصیته. فقد تواتر علیه بعض الأفراد بعد رحیل النبی صلی الله علیه و آله وناشدوه القیام؛ إلّاأنّه لم یجبهم بسبب عدم توفر الشرائط اللازمة إلی جانب خشیته من الأعداء المتربصین بالإسلام، بینما نهض بالأمر لما تغیرت الظروف.

وهناک شواهد اُخری کثیرة وردت فی کلماته علیه السلام بهذا الشأن (1).

ثم قال علیه السلام: «فاذا أنتم ألنتم له رقابکم، وأشرتم إلیه باصابعکم، جاءه الموت فذهب به» .

إشارة إلی أنّه یعانی الأمرین حتی یجمعکم تحت رایته، وتسلمون لإمامته بحیث تشیرون إلیه من کل جانب، ولکن ما أن تتمهد مقومات الاتحاد وعناصر النصر والغلبة حتی تأخذه ید القدر منکم فتتفرقون ثانیة ویتسلط علیکم الأعداء.

ولعل العبارة إشارة لما أوردناه سابقاً فی سند الخطبة فی أنّ الناس اجتمعوا علی الإمام علیه السلام فی الشهر الذی قتل فیه بحیث اجتمع له مأة الف سیف، عقد کل عشرة الآف لرجل، فخرج علیه السلام یرید الشام، فحال ابن ملجم بینه وبین ذلک. إلّاأنّ بعض شرّاح نهج البلاغة فسروها بعصره علیه السلام، إلّاأنّ هذا التفسیر یبدو بعیداً، وذلک لأن العبارات قبل هذه الجملة تفید خلاف هذا المعنی، ولاسیما أنّ الخطبة بعد خلافة علیه السلام وفیها اشارات إلی المستقبل.

ثم حاول الإمام علیه السلام الحیلولة دون شعور أصحابه بالیأس، فبشرهم بالنصر القادم قائلاً: «فلبثتم بعده ماشاء الله حتی یطلع الله لکم من یجمعکم، ویضم نشرکم» .

أمّا من المقصود بهذا القیام؟ فقد أورد الشرّاح احتمالین: أحدهما: أن یکون المراد قیام الإمام المهدی علیه السلام، والآخر قیام بنی العباس الذی أنهی حکومة بنی أمیة واجتث جذور ظلمهم وفسادهم، وان ما رسوا بدورهم نوعاً آخر من الجرائم والجنایات. ویبدو الاحتمال الأول أنسب، فلم تکن لبنی العباس مثل هذه الجدارة فی عباراته علیه السلام، کما لم تکن جنایاتهم بحق شیعة علی علیه السلام وأهل العراق بأقل من جنایات بنی أمیة. أضف إلی ذلک فالکلام فی رافع رایة

ص:235


1- 1) راجع شرح الخطبة الخامسة والسادسة من المجلد الأول من هذا الکتاب.

الحق، ومن المسلم به أنّ رایة بنی العباس کانت باطلة.

کما قیل فی تفسیر العبارة المذکورة أنّ المراد بذلک الاجتماع لأصحابه هو الاجتماع الفکری والثقافی إلی جانب الاجتماع السیاسی والعسکری، وهو المعنی الذی تحقق علی عهد الإمام الباقر والصادق والرضا علیه السلام، والعبارات الأخیرة من الخطبة إنّما تؤید هذا المعنی.

إلّا أنّ هذا الاحتمال ییدو مستعبداً بالنظر إلی عدم انسجام هذا التفسیر مع العبارات السابقة التی أشارت إلی الاجتماع السیاسی والعسکری. ولکن علی کل حال، فالهدف من هذه العبارة نفی ما یسیطر علی الأفکار عادة بعد الهزیمة و هو الیأس و التشاؤم. فوصفها بأنها أمواج عابرة و هنالک المستقبل المشرق الذی ینتظر المجتمع الإسلامی. و من هنا ذکر ما یؤید ذلک.

ثم قال علیه السلام: «فلا تطمعوا فی غیر مقبل، ولاتیأسوا من مدبر، فانّ المدبر عسی أن تنزل به إحدی قائمتیه، وتثبت الاُخری، فترجعا حتی تثبتا جمیعاً» .

قالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام بین قاعدتین کلیتین لابدّ من الاهتمام بهما فی الحوادث الصعبة: الاولی: لاینبغی التفاؤل المفرط فی مثل هذه الحالات والاعتماد علی شیء لم تتوفر بعد مقدماته.

الثانیة: ألاتدعو الهزیمة إلی الیأس والقنوط - فیشبه الإمام علیه السلام ذلک بمن یتحرک فی جادة فتزل احدی قدمیه، فیظن الناس أنّه سقط ولاسبیل إلی قیامه ثانیة، إلّاأنّه سرعان مایعتمد علی قدمه الاُخری فینهض من سقطته ویجد فی الحرکة ثانیة.

یناءاً علی هذا لاینبغی الیأس عند الحوادث الاجتماعیة الصعبة والاستسلام لمعاناتها، کما لاینبغی التعلق بالحرکات الطائشة.

وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ سائر الأئمة علیه السلام غیر الإمام المهدی علیه السلام هم المرادون بقوله «غیر مقبل» ، وأنّ قوله علیه السلام لاتطمعوا فی غیر مقبل، إشارة إلی الشرائط اللازمة لقیامهم علیه السلام لیست متوفرة، ومدبر إشارة إلی الإمام المهدی علیه السلام فلاینبغی الیأس من ظهوره فی أی زمان.

إلّا أنّ هذا التفسیر لاینسجم قط والعبارات فی آخر هذا المقطع من الخطبة؛ لأنّ زلل القدم

ص:236

والاعتماد علی الاُخری لاینطبق علیه علیه السلام إلّابتکلف شدید.

اضافة إلی أنّ التعبیر بمقبل ومدبر بصیغة التنکیر یدل علی أنّ المراد بیان قاعدة کلیة، لا الإشارة إلی مصداق شخصیی، وإلّا کان من المناسب تحلیتها بالالف واللام.

تأمّلان

1 - أولیاء الله

إنّ الخصائص التی ذکرها الإمام علیه السلام بحقه بصورة غیر مباشرة فی العبارة المذکورة، هی فی الواقع إشارة إلی الصفات التی ینبغی أن یشتمل علیها کل زعیم ربانی مدیر ومدبر:

الأول: لابدّ أن یکون رزینا فی کلامه إلی جانب التریث والتروی قبل المبادرة. کما ورد ذلک فی ماروی عن أمیرالمومنین علیه السلام قوله «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه» . (1)

فالعاقل یفکر أولاً ثم یتکلم، أمّا الأحمق فهو یتکلم ثم یفکر.

الثانی: أعماله هی الاُخری رزینة کأقواله، فهو یفکر فی عواقب العمل، فاذا احاط به وعرفه أقدم علیه دون تردد - فقد جاء فی الحدیث الشریف عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فان یک خیراً ورشداً فاتبعه، وان یک غیاً فاجتنبه» (2).

2 - الفشل قنطرة النجاح

هناک من یشعر بالیأس لأدنی حادثة صعبة، فیما رس بعض ردود الفعل الساذجة، ومثل هذا الیأس یحول دون القیام بالأنشطة والمواقف المطلوبة مستقبلاً؛ الأنشطة التی قد تحیل النشل نجاحا والهزیمة نصراً. والالتفات إلی أمرین مهمین أوردهما الإمام علیه السلام فی الخطبة من شأنه أنّ یعالج هذه المواقف السلبیة.

الأول: إجتناب الاستعجال فی الأعمال والتعویل علی مالم تتوفر مقدماته، الثانی: عدم

ص:237


1- 1) نهج البلاغة، الکلمة 40.
2- 2) شرح نهج البلاغة للعلّامة الخوئی 7/159.

الیأس من جراء بعض الاخفاقات المرحلیة؛ لأنّ الاخفاق یتحول إلی نجاح بالتجارب.

أضف إلی ذلک فانّ الألطاف الإلهیة قد تشمل الإنسان وتهمد له کل أسباب النجاح ومقومات النصر. فقد ورد عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام طبق روایة الشیخ الصدوق فی الامالی أنّه قال «کن لما لاترجو أرجی منک لما ترجو» ، ثم یوضح ذلک علیه السلام بذکر ثلاثة نماذج رائعة بقوله أنّ موسی بن عمران خرج یلتمس لاهله ناراً فعاد نبیاً، کما قدمت ملکة سبأ للقاء نبی الله سلیمان علیه السلام فأسلمت وآمنت، کما خرج السحرة یبغون العزة لفرعون فانقلبوا مؤمنین بالله وبموسی علیه السلام. (1)

ص:238


1- 1) امالی الصدوق /150 ح 7. [1]

القسم الثانی: هدی آل محمد صلی الله علیه و آله

اشارة

«ألَا إِنَّ مَثَلَ آل مُحَمَّدٍ، صَلَّی اللّه عَلَیْهَ وَآلهِ کَمَثَلِ نُجُومِ السَّماءِ، إِذَا خَوَی نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ، فَکَأَنَّکُمْ قَدْ تَکَامَلَتْ مِنَ اللّه فِیکُمُ الصَّنَائِعُ، وَأَرَاکُمْ مَا کُنْتُمْ تَأْمُلُونَ» .

الشرح والتفسیر

خاطب الإمام علیه السلام کافة الناس فی آخر الخطبة داعیا ایاهم إلی الحرکة خلف آل النبی صلی الله علیه و آله بصفتهم الکواکب الزاهرة، وکلما غاب کوکب خلفه آخر «ألا إنّ مثل آل محمد صلی الله علیه وآله کمثل نجوم السماء، إذا خوی (1)نجم طلع نجم» .

ثم قال علیه السلام: «فکأنکم قد تکاملت من الله فیکم الصنائع (2)، وأراکم ماکنتم تأملون» ، فقد أشار الإمام علیه السلام بهذه العبارة القصیرة إلی عدّة أمور: منها أنّ آل محمد صلی الله علیه و آله کالنجوم التی قال بشأنها الحکیم فی کتابه الکریم: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ یَهْتَدُونَ» (3)، کما قال فی موضع آخر: «وَهُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُم النُّجومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِی ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالبَحْرِ» (4)فالقوافل کانت تهتدی فی الصحاری والبحار فی اللیالی الظلماء بنجوم السموات، حیث لم یخترع آنذاک البوصلة، کما لم تکن الطرق معبدة بالشکل الذی هی علیه الیوم.

فالنجاة فی الدنیا والآخرة ونیل السعادة إنّما تتحقق فی ظل هدی آل محمد صلی الله علیه و آله والأمر الآخر أنّ السماء لاتخلو لیالیها من النجوم، فاذا غابت نجمة، أشرقت اُخری فی أفقها؛ وهکذا

ص:239


1- 1) «خوی» من مادة «خوی» بمعنی غرب.
2- 2) «صنایع» جمع «صنیعة» النعمة والاحسان.
3- 3) سورة النحل/16. [1]
4- 4) سورة الانعام/97. [2]

أهل البیت علیه السلام إذا رحل امام خلفه آخر حتی یقوم آخرهم المهدی علیه السلام فیملأ الدنیا قسطا وعدلا، فالعبارة تفید اتصال سلسلة الإمامة التی تأبی القطع. بعبارة اُخری فانّ الأرض لاتخلو من حجة الله. والعجیب ما أورده بعض شرّاح نهج البلاغة کابن أبی الحدید حین بلغ العبارة المذکورة اذ قال: وهذا إشارة إلی المهدی الذی یظهر فی آخر الوقت، وعند أصحابنا أنّه غیر موجود الان وسیوجد ویملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

ولو أمعن هذا القائل فی العبارات التی وردت فی ذیل الخطبة لوقف علی خطأه فی ما ذهب إلیه؛ ولکن للأسف! فانّ التعصب قد لایسمح أحیاناً بان یلتفت الإنسان إلی القرائن الواضحة.

وأخیراً قال الإمام علیه السلام بأنّ اتباع أهل البیت علیه السلام یؤدی إلی نیل کافة الأمانی وبلوغ جمیع النعم، وهذا ما یکشف بدوره عن دور أهل البیت فی التکامل الدینی والدنیوی فی کافة الازمنة، وماذهب إلیه بعض الشرّاح من أنّه إشارة إلی زمان ظهور الإمام المهدی علیه السلام فهو کلام یفتقر إلی الدلیل.

کما یکمن ان یکون المراد بالعبارة هو أنّ الإمام علیه السلام قال: إنّ الله سبحانه وفرّ لکم کل أسباب السعادة ومنها وجود آل محمد صلی الله علیه و آله.

تأمّلان

1 - حدیث النجوم

ما أورده الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة شأن آل محمد صلی الله علیه و آله وتشبیههم بنحوم السماء، هو فی الواقع اقتباس من الحدیث النبوی المعروف الذی قال فیه صلی الله علیه و آله: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بیتی أمان لأمتی من الاختلاف» .

رواه الحاکم النیشابوری من علماء العامة فی کتاب المستدرک عن ابن عباس وقال: «هذا حدیث صحیح الاسناد» (1).

ص:240


1- 1) مستدرک الحاکم 3/149 (طبق نقل احقاق الحق 9/294) . [1]

کما رواه عدد من محدثی العامة ومنهم الحموینی فی فرائد السمطین وابن حجر فی الصواعق ومحمد بن صبان فی اسعاف الراغبین وغیرهم (1)وقد أفرد المرحوم العلّامة المجلسی فی بحث الإمامة من کتابه بحار الانوار عنواناً أسماه: «إنّهم أمان لأهل الأرض من العذاب» ، وقد نقل فیه عدة أحادیث عن طرق أهل البیت، کما صرح قائلاً: رواه أحمد بن حنبل فی مسنده عن النبی صلی الله علیه و آله. (2)

ومن الواضح أنّ تشبیه أهل البیت علیه السلام بالنجوم یدل علی ما أورده الإمام علیه السلام فی الخطبة أیضاً بدلیل الدلالة الالتزامیة، لأنّ طبیعة نجوم السماء بهذه الشاکلة إذا غرب أحدها فی أفق المغرب، طلع الآخر فی أفق المشرق - أضف إلی ذلک فان التعبیر بأمتی تفید أن جمیع أمّة النبی صلی الله علیه و آله علی طول الزمان یمکنها أن تهتدی بأهل البیت علیه السلام، وبالنتیجة فانه سیکون هناک إماماً علی الدوام من اهل البیت علیه السلام فی الاُمّة.

2 - آخر مراحل تکامل النعم الإلهیة

هذه النقطة جدیرة بالالتفات أیضاً وهی أنّ تکامل النعم الإلهیة فی ظل أهل البیت علیه السلام سیکون فی کل زمان، إلّاأنّ ذروة کما لها ستکون فی عصر ظهر الإمام المهدی علیه السلام أرواحنا فداه.

فقد نقل المرحوم ابن میثم حدیثا فی شرح هذه الخطبة وقال: رأیت حدیثا للإمام علیه السلام یمکنه أن یوضح هذه الخطبة: «یا قوم اعلموا علما یقیناً، إن الذی یستقبل قائمناً من أمر جاهلیتکم لیس بدون ما استقبل الرسول من أمر جاهلیتکم. . . ولعمری لینزعن عنکم قضاة السوء، ولیقبضن عنکم المراضین (المرائین) ولیعزلن عنکم أمراء الجور، ولیطهرن الأرض من کل غاش، ولیعملن فیکم بالعدل، ولیقومن فیکم بالقسطاس المستقیم» . (3)

ص:241


1- 1) احقاق الحق 9/294 - 296. [1]
2- 2) بحارالانوار 27/308. [2]
3- 3) شرح نهج البلاغة لابن میثم 3/9.

ص:242

الخطبة المأة وواحد

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

وهی إحدی الخطب المشتملة علی الملاحم

نظرة إلی الخطبة

هذه الخطبة کما ینهم من عنوانها تتحدث بصورة رئیسیة عن الحوادث القادمة، والأخطار التی تهدد المسلمین، خاصة أهل العراق.

الا أنّها تتناول أمرین قبل ذلک: الأول: حمد الله والثناء علیه والشهادة له بالوحدانیة مع ذکر بعض الاُمور. والثانی: الاعراب عن القلق من بعض من یسمع کلمات الإمام علیه السلام واخباراته علی سبیل الشک والتردید.

ص:243


1- 1) سند الخطبة: ورد فی کتاب مصادر نهج البلاغة لم تذکر هذه الخطبة فی غیر مصدر السید الرضی (ره) ، وأن ذکرت اسناد هذه الخطبة فی نهج البلاغة، طبعة جماعة مدرسی الحوزة للمحقق المرحوم حجة الإسلام الدشتی، غیر أنّه تبین خطأها بعد الرجوع إلی المصادر الأصلیة التی ذکرت فی ذلک الکتاب.

ص:244

القسم الأول: الشهادة المطلقة

«الْحَمْدُ لِلّهِ الأوَّلِ قَبْلَ کُلَّ أَوِّلٍ، وَالْآخِرِ، بِعْدَ کُلِّ آخِرٍ، وَبِأَوَّلِیَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا أَوَّلَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَاإلهَ إلّااللّهُ شَهَادَةً یُوَافِقُ فِیهَا السِّرُّ الإعْلَانَ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ» .

الشرح والتفسیر

استهل علیه السلام هذه الخطبة کسائر الخطب بحمد الله والثناء علیه والشهادة له بالوحدانیة، ثم تطرق إلی ذکر صفات الحق سبحانه: «الحمد لله الأول قبل کل أول، والآخر بعد کل آخر» .

فالإمام علیه السلام انطلق هنا نحو أزلیة الله وأبدیته سبحانه التی تعد من أهم صفاته وتعود الیها سائر الصفات؛ وذلک لأننا قلنا فی بحث الصفات: أنّ أساس صفاته الجمالیة والجلالیة عدم تناهی ذاته المقدسة من جمیع الجهات، والازلیة والأبدیة هی بیان آخر لعدم محدودیة تلک الذات المقدسة.

ثم خاض علیه السلام فی بیان الدلیل أو وضح ذلک بقوله «وبأولیته وجب أن لا أول له، وبآخریته وجب أن لا آخر له» .

فالعبارة تشتمل علی نقطة لطیفة وهی أنّ أولیته سبحانه وتعالی لیست أولیة زمانیة، بل أولیة ذاتیة وبمعنی الأزلیة، ومن الواضح أنّ الذاتی الذی هو أزلی لیس له من أولیة زمانیة. وکذلک آخریته هی الآخری ذاتیة، لا زمانیة وبمعنی الأبدیة، وما کان أبدیاً فلاآخر زمانی له.

وقد أورد بعض شرّاح نهج البلاغة احتمالات اُخری فی تفسیر هذه العبارة لا تنسجم وسائر عبارات الإمام علیه السلام.

ص:245

ثم شهد لله بالوحدانیة والعبودیة له علی مستوی اللسان والقلب: «وأشهد أن لا إله إلّا الله شهادة یوافق فیها السر الاعلان، والقلب اللسان» .

فالعبارة تفید ان الشهادة المطلوبة التی تشمل تمام وجود الإنسان والکیان والتی ینسجم فیها الظاهر والباطن والقلب واللسان.

فالأعم الأغلب یشهد بالوحدانیة لساناً، بینما یعیش الوثنیة والصنمیة فی قلبه. وکذلک الکثیر ممن یشهد قلباً بهذه الوجدانیة، بینما تخالط الشرک أعمالهم وأفعالهم. فهم یسجدون للمال والمقام ویرکعون أمام الشهوات؛ بینما قد یرددون صباح مساء علی ألسنتهم أو قلوبهم «لا إله إلّاأنت» ، و نعلم أنّ کل هذا من شعب النفاق، ومثل هؤلاء الأفراد بحق فی زمرة المنافقین.

ص:246

القسم الثانی: الحق ما أقول

«أَیُّهَا النَّاسُ، لَایَجْرِمَنَّکُمْ شِقَاقِی، وَلَا یَسْتَهْوِیَنَّکُمْ عِصْیَانِی، وَلَا تَتَرَامَوْا بِالأَبْصَارِ عِنْدَ مَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّی. فَوَ الَّذِی فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّ الَّذِی أُنَبِّئُکُمْ بِهِ عَنَ النَّبِیِّ الأُمِّیِّ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهَ وَآلِهِ، مَا کَذَبَ الْمُبَلِّغُ، وَلَا جَهِلَ السَّامِعُ» .

الشرح والتفسیر

مهد الإمام علیه السلام فی الواقع بکلامه ما أراد أنّ یورده هنا فی إماطة اللثام عن بعض الحوادث الآتیة هو عین الیقین والحق الذی سمعه من رسول الله صلی الله علیه و آله ولا سبیل إلی مخالفته. وتفید هذه العبارات أن الإمام علیه السلام قد أخبر سابقاً عن بعض الحوادث فانکرها علیه بعض المنافقین أوضعاف الإیمان. فو عظهم علیه السلام بأنّ عدائی ومخالفتکم لی لا تدفعکم إلی مقارفة الذنب، ولاینبغی أن تسوقکم معصیتکم لی إلی اتباع هوی أنفسکم، فاذا سمعتم ما أقول أنکرتم علیَّ «أیّها الناس لا یجرمنکم (1)شقاقی (2)، ولا یستهو ینکم (3)عصیانی، ولا تتراموا بالأبصار، عند ما تسمعونه منّی» .

ومراده علیه السلام أنّ الحقد والحسد والضغینة تسوق الإنسان فی أغلب الأحیان إلی ارتکاب الذنب والمعصیة، فتکون حجاباً علی بصره لتمنعه عن رؤیة الحقائق.

ص:247


1- 1) «یجرَمَّن» من مادة «جرم» علی وزن جهر (جرم علی وزن ظلم، اسم مصدر) تعنی فی الأصل القطع، ولماکان الإثم یقطع صلته بالله، فهذه الکلمة تطلق علی الذنب، وعلیه لایجرمنکم بمعنی لا یحملنکم علی الذنب.
2- 2) «شقاق» فی الأصل تعنی المخالفة والنزاع.
3- 3) «یستهوین» من مادة «هوی» من هوی النفس.

ثم قال علیه السلام: «فو الذی فلق (1)الحبة وبرأ (2)النسمة (3)إن الذی أنبئکم به عن النبی الاُمّی (4)صلی الله علیه وآله، ما کذب المبلغ، ولا جهل السامع» والعبارة التی صدرت بالقسم لمن ابداعات أمیرالمؤمنین علیه السلام التی ذکرت لمرات فی خطب نهج البلاغة، حیث یشیر إلی نقطة مهمّة وهی أنّ أهم وأعقد مسألة فی نظام عالم الوجود هی مسألة الحیاة؛ سواء فی عالم النباتات أوفی عالم البشریة، ورغم الجهود المضنیة التی بذلها الإنسان فی هذا المجال، مازالت هنالک الأسرار التی تختزنها هذه الحیاة لم تکتشف بعد. وبناءاً علی هذا فانّ الحیاة رائعة الخلق و هو الشیء الذی یربطنا تأمله باللّه و یدل علی أن هذه الظاهرة العجیبة لیست بالشیء الذی انبثق دون علم الله وقدرته، فالاستفادة من هذه الأوصاف حین القسم تجسد مفهوما بارزاً فی الأذهان.

علی کل حال فانّ هدف الإمام علیه السلام طمأنة مخاطبیه إلی أنّ مایقوله بشأن الحوادث المستقبلیة لایستند إلی الحدس والتخمین، ولا من قبیل نبوءات الکهنة، بل هو واقع وحق سمعه من رسول الله صلی الله علیه و آله ولیس الإمام علیه السلام من یخطیء فی إدراک کلام النبی صلی الله علیه و آله. وعلیه فما یقوله هو عین الحقیقة والصواب، واطلاعهم علی هذه الأحداث من سبیله الحد من أخطارها.

فقد ورد فی الخبر حین نزلت الآیة الشریفة: «وَتَعِیَها أُذُنٌ واعِیَةٌ» (5).

قال رسول الله صلی الله علیه و آله لعلی علیه السلام : «سألت الله تعالی أن یجعلها أذنک یا علی! قال علیه السلام فما نسیت شیئاً بعد ذلک» (6).

ص:248


1- 1) «الخلق» : وتأتی أحیانا بمعنی الإبداع والإیجاد والتقدیر، وأحیانا بمعنی الابتعاد والبرائة من الشیء. وفی هذه الخطبة جاءت هذه الکلمة بالمعنی الاول.
2- 2) «برأ» من مادة «برء» علی وزن ظلم وتعنی الصحة وحسن الحال، أی خروج الشخص من حالته الاولی، والتی کان فیها مریضاً إلی حالة جیدة وحسنة.
3- 3) «نسمة» تعنی فی الأصل هبوب الریاح المعتدلة، کما تأتی بمعنی التنفس، ومن هنا تطلق علی الإنسان.
4- 4) التعبیر بالأمی یطلق علی الشخص الذی لا یعرف القراءة والکتابة، أو علی الشخص الذی ینسب الی الأم، وهو الذی تعلم فی أحضان أمه ولم یتعلم من غیرها. وهنا نود ان نشیر اشارة لطیفة فی هذا المورد، وهی أن الرسول الاکرم صلی الله علیه و آله کان اُمیاً، ولکنه أخبر عن الماضی والمستقبل، وهذه من علامات ارتباطه بالله سبحانه وتعالی.
5- 5) سورة الحاقة/12. [1]
6- 6) کفایة الطالب للکنجی /40 وردی مثل هذا المعنی أغلب مفسری العامة کالقرطبی فی تفسیر جامع الأحکام والبرسوی فی روح البیان والآلوسی فی روح المعانی، ذیل الآیة 12 من سورة الحاقة.

القسم الثالث: فتنة ضلیل الشام

اشارة

«لَکَأَنّی أَنْظُرُ إلَی ضِلِّیلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ، وَفَحَصَ بِرَایَاتِهِ فِی ضَوَاحِی کُوفَانَ، فَإذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ، وَاشْتَدَّتْ شَکِیمَتُهُ، وَثَقُلَتْ فِی الأرْضِ وَطْأَتُهُ، عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْناءَهَا بِأَنْیَابِهَا، وَمَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا، وَبَدَا مِنَ الأَیَّامِ کُلُوحُهَا، وَمِنَ اللَّیَالِی کُدُوحُهَا. فَإِذَا أَیْنَعَ زَرْعُهُ، وَقَامَ عَلَی یَنْعِهِ، وَهَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ، وَبَرَقَتْ بَوَارِقُهُ، عُقِدَتْ رَایَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَةِ، وَأَقْبَلْنَ کاللَّیْلِ الْمُظْلِمِ، وَالْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ. هذا، وَکَمْ یَخْرِقُ الْکُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ وَیَمُرُّ عَلَیْهَا مِنْ عَاصِفٍ وَعَنْ قَلِیلٍ تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ، وَیُحْصَدُ الْقَائِمُ، وَیُحْطَمُ الْمَحْصُودُ!» .

الشرح والتفسیر

کشف الإمام علیه السلام فی هذا الکلام - الذی یمثل فی الواقع جوهر الخطبة - النقاب عن الحوادث المستقبلیة الخطیرة التی تنتظر أهل العراق، ثم یشرح علیه السلام بعض تفاصیل وجزئیات هذه الحوادث المروعة، بغیة أعداد الاُمّة للحد من أخطارها: «لکأنّی أنظر إلی ضلیل (1)قد نعق (2)بالشام، وفحص (3)برایاته فی ضواحی کوفان» (4).

ص:249


1- 1) «ضلیل» من مادة «ضلال» الشدید الضلال فهو ضال مضل.
2- 2) «نعق» من مادة «نعق» علی وزن نعل تعنی فی الاصل صوت الفرس، ثم اطلق علی الأصوات التی تطلق لحرکة الحیوانات و أمرها و نهیها، و وردت فی العبارة بمعنی أنّ بنی أمیة قد استضعفوا جماعة، یسوقونها کالحیوانات حیثما أرادوا.
3- 3) «فحص» البحث والتفتیش.
4- 4) «کوفان» بمعنی الکوفة.

ثم خاض فی توضیح هذه الفاجعة الکبری: «فاذا فغرت (1)فاغرته، واشتدت شکیمته (2)وثقلت فی الأرض وطأته، عضت الفتنة أبناءها بانیابها، وماجت الحرب بامواجها، وبدا من الایام کلوحها (3)، ومن اللیالی کدوحها (4)» .

هناک قولان رئیسیان لشرّاح نهج البلاغة فی المراد بالضلیل فی عبارة الإمام علیه السلام:

الأول: أن یکون المراد به معاویة الذی أحکم قبضته علی العراق بعد شهادة أمیرالمومنین علی علیه السلام وصلحه مع الإمام الحسن علیه السلام، وقد نفذ کل ماورد فی العبارة عملیاً، والثانی: أن یکون المراد به عبدالملک بن مروان الذی سلط ذلک المجرم المعروف الحجاج علی الکوفة فسام الناس سوء العذاب وجرعهم أنواع الظلم، ومهما کان فالعبارة إشارة إلی الطغاة من حکام بنی أمیة.

والعبارة : «عضت الفتنة أبناءها بأنیابها» إشارة إلی أن هذه الفتن ستطیل حتی أولئک الذین یثیرونها! فعادة ماتعصف بهم الاختلافات الداخلیة، أو أن یتسلط علیهم أعداؤهم فیذیقونهم أشد العذاب.

ثم قال علیه السلام : «فاذا أینع زرعه وقام علی ینعه (5)، وهدرت شقاشقه (6)، وبرقت بوارقه، عقدت رایات الفتن المعضلة، وأقبلن کاللیل المظلم، والبحر الملتطم» .

فی إشارة إلی أنّ حکومة هؤلاء لن تدوم، کما لن یلتذ هؤلاء الضلال الظلمة بفتنهم، وسرعان ما تحیط بهم رایات المخالفین.

ویمکن أن تکون هذه العبارة إشارة إلی قیام بنی العباس ضد بنی أمیة.

ثم اختتم علیه السلام الخطبة بالقول: «هذا، وکم یخرق الکوفة من قاصف، ویمرعلیها من

ص:250


1- 1) «فغرت» من مادة «فغر» علی وزن فقر فتح الضم.
2- 2) «شکیمة» تعنی فی الاصل الحدیدة المعترضة فی اللجام فی فم الدابة، ویعبر بقوتها عن شدة البأس، ثم اطلقت علی کل قوة.
3- 3) «کلوح» عبوس.
4- 4) «کدوح» شدة السعی والجهد، وتعنی فی الأصل الخدش وأثر الجراحات.
5- 5) «ینع» بمعنی نضج الفاکهة، ثم اطلق علی کل نضج واستعداد لتلقی نتیجة.
6- 6) «شفاشق» جمع «شقشقة» شیء کالرئة یخرجه البعیر من فیه إذا هاج.

عاصف، وعن قلیل تلتف القرون بالقرون، ویحصد القائم، ویحطم المحصود» .

والعجیب أن ما تکهن به الإمام علیه السلام فی هذه العبارات القصار قد وقع سریعاً، فقد طحنت الکوفة بفتن بنی أمیة ومن بعدهم بنی العباس؛ لتصبح هذه المنطقة مرکزاً المختلف الحوادث العنیفة، وکل من کان له أدنی المام بتاریخ الکوفة یدرک بسهولة عمق کلمات الإمام علیه السلام التی أوردها فی هذه الخطبة.

والعبارة: «تلتف القرون بالقرون» إشارة إلی الحروب الطاحنة التی خاضها مختلف الأقوام فی العراق والکوفة، ولاسیما حروب بنی أمیة وبنی العباس.

والعبارة: «یحصد القائم، ویحطم المحصود» کنایة لطیفة عن الاضرار والخسائر التی تلحق بالاُمّة طیلة هذه الحوادث. فمن کان قائما صرع، و من کان مصروعا تحطم.

أمّا ابن أبی الحدید فقد قال فی شرحه للعبارة: «یحصد القائم» کنایة عن قتل أمراء بنی أمیة فی الحرب و «یحطم المحصود» کنایة عن قتل المأسورین منهم صبراً، وهکذا وقعت الحال.

والحق أن ماذکره ابن أبی الحدید هو بعض مصادیق المفهوم الواسع للعبارة المذکورة.

تأمّلان

1 - الملاحم

ملاحم جمع ملحمة تعنی فی الأصل الواقعة المهمة المقرونة بالفتنة، وقد طالعتنا أغلب خطب نهج البلاغة فی بعض الموارد التی یتحدث فیها أمیرالمومنین علی علیه السلام عن الفتن المهمة التی تنتظر الناس، ثم یشرح جزئیاتها، ویعلن صراحة أنه سمع ذلک عن رسول الله صلی الله علیه و آله. ویبدو أن الإمام علیه السلام یهدف شیئین من هذه الأخبار: الأول: حب الإمام علیه السلام للناس الذی یدفعه لاخبارهم بغیة تأهبهم واستعدادهم لیحذروا من أخطار هذه الفتن؛ بالضبط کمن یخبر الآخرین قبل وقوع الزلزال أو السیل؛ وان تعذر منعها، إلّاأنّ العلم المسبق یحد من هذه الاخطار، الثانی: افهامهم أنّ التوانی عن الجهاد والضعف والاختلاف إنّما یقود إلی مثل هذه الحوادث، علهم یفیقون إلی أنفسهم فیتوبون وینیبون إلی الله.

وسنبحث نظیر هذه الاُمور فی شرحنا للخطب 128 و138 من هذه الکتاب.

ص:251

2 - الکوفة مرکز الازمات والعواصف

لاشک أنّ من له أدنی معلومات مختصرة بتأریخ الکوفة، لیعلم أنّ الکوفة من المناطق التی شهدت أقسی الأحداث وأخطرها طیلة التأریخ الإسلامی. بعبارة اُخری فان الکوفة کانت مسرحاً لاحداث دامیة، وجرائم وجنایات بشعة مارستها بحقها طغاة بنی أمیة وبنی العباس، بما یندی لها جبین البشریة حین یتصفح التاریخ.

هذا وقد أوردنا شرحاً مفصلاً فی الخطبة 25 و47 من المجلد الثانی والخطبة 87 من المجلد الثالث بشأن الحوادث البشعة التی تعرضت لها الکوفة، ولا نری من ضرورة لإعادتها.

ص:252

الخطبة المأة واثنان

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

تجری هذا المجری وفیها ذکر یوم القیامة وأحوال الناس المقبلة

نظرة إلی الخطبة

تتالف هذه الخطبة من قسمین:

القسم الأول: وهو قصیر، إشارة إلی الحوادث الصعبة ویوم القیامة، الذی یجمع الله فیه الاولین والاخرین للحساب والثواب والعقاب القسم الثانی: إشارة إلی الفتن المرعبة التی تهجم علی الناس کقطع اللیل المظلم فتضیق الخناق علی الناس، حتی یهب لها جماعة من المجاهدین. ثم یرکز الإمام علیه السلام فی کلامه علی البصرة التی ستکون مسرحا لهذه الفتن.

ص:253


1- 1) سند الخطبة: لم ترد هذه الخطبة فی المصادر التی الفت قبل السید الرضی (ره) ، ولکن یبدو أنّها جزء من الخطبة 128 التی سنتعرض باذن الله لشرحها، إلّاأنّها ذکرت فی الکتب التی دونت بعد السید الرضی (ره) .

ص:254

القسم الأول: هول المحشر

«وَذلِکَ یَوْمٌ یَجْمَعُ اللهُ فِیهِ الأَوَّلِینَ وَالآخِرِینَ لِنِقَاشِ الْحِسَابِ، وَجَزَاءِ الأَعْمَالِ، خُضُوعاً، قِیاماً، قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ، وَرَجَفَتْ بِهِمُ الأرْضُ، فَأَحْسَنُهُمْ حَالاً مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَیْهِ مَوْضِعاً، وَلِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً» .

الشرح والتفسیر

کما أوردنا سابقاً أن الإمام علیه السلام أشار فی القسم الأول من الخطبة إلی وضع الناس فی یوم القیامة بعبارات قصار مؤثرة وقد ذکر الممیزات المهولة لذلک الیوم.

فقد قال علیه السلام: «وذلک یوم یجمع الله فیه الأولین والآخرین لنقاش الحساب، وجزاء الاعمال، خضوعاً قیاماً» .

فالعبارة «الأَولین» و «الأَخرین» تشیر إلی حقیقة وهی أنّ القیامة والحساب سیشمل جمیع الناس فی یوم واحد، کما ورد ذلک فی القرآن الکریم : «وَکُلُّهُمْ آتِیهِ یَوْمَ القِیامَةِ فَرْداً» (1). وورد فی موضع آخر: «قُلْ إِنَّ الأَوَّلِینَ وَالآخِرِینَ * لََمجْمُوعُونَ إِلی مِیقاتِ یَوْمٍ مَعْلُومٍ» (2).

والتعبیر بالنقاش یفید الدقة فی الحساب حیث تخضع أصغر الأعمال ذلک الیوم للحساب فیعاقب الإنسان أو یثاب علیه.

والتعبیر بالخضوع والقیام إشارة إلی أنّ الناس یوم القیامة کمثل من یحضر فی المحکمة ویمثل بین یدی القاضی العادل، حیث تظهر علیه آثار الخوف والخشیة.

ص:255


1- 1) سورة مریم/95. [1]
2- 2) سورة الواقعة/49 - 50. [2]

وقد أشارت بعض الآیات القرآنیة إلی هذه المعانی، ومن ذلک الآیة الشریفة: «خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ. . .» (1)والآیة «یَوْمَ یَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمِینَ» (2).

ثم قال علیه السلام: «قد الجمهم العرق، ور جفت (3)بهم الأرض» .

فهل هذا العرق بسبب حرارة محیط المحشر، أم من شدة الخجل، أم کلاهما؟ وهل رجف الأرض بسبب أعمالهم، أم هکذا هی طبیعة محکمة العدل الإلهی، بحیث ینشغل الجمیع بأنفسهم ویعترفوا بکل ما اقترفوا؟

کیفما کان فالاجواء هناک مرعبة مهولة للغایة.

وقد صرحت الآیات والروایات الإسلامیة بالعوامل التی تدعو إلی الخوف والخشیة فی ذلک الیوم (نسأل الله أن یشملنا جمیعاً برحمته وألطافه ویجنبنا هلع ذلک الیوم) .

وقد ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة - کدیدنهم فی سائر الموارد - إلی أن الألفاظ المذکورة کنایة عن الاُمور الباطنیة والروحیة، والحال لیست هناک آیة قرینة تدعو إلی مثل هذا التأویل - ولو فتح الباب لمثل هذه التأویلات بشأن الآیات والرویات وباب التفسیر بالرأی وأن یسطر الإنسان کل ما یفهمه من الآیة والروایة، أو الاسلوب الذی یعتمده بعض من یتسمی بالانفتاحی والذی یکمن فی القراءات الجدیده للآیات والروایات، فمن المسلم به لسوف تزول إصالة المتون الدینیة، ولایبقی من شیء للاستدلال بالمسائل العقائدیة والعلمیة.

ثم أشار علیه السلام فی ختام هذا القسم من الخطبة إلی معضلة اُخری من معضلات القیامة: «فأحسنهم حالاً من وجد لقدمیة موضعاً، ولنفسه متسعاً» .

فالعبارة تشیر إلی زحام الناس وضیق المکان، حیث یفهم من الروایات أنّ هول المحشر ووحشة حساب الأعمال مسألة عامة تشمل کافة أهل المحشر؛ وذلک لأن خلص عباد الله أیضاً یخشون الحساب! فلهول المحشر عدة عوامل، یکمن أحدها فی ضیق المکان الذی ورد فی هذه العبارة.

ص:256


1- 1) سورة القمر/7. [1]
2- 2) سورة المطفقین/6.
3- 3) «رجف» من مادة «رجف» علی وزن ربط تعنی الاضطراب، ولما کانت أخبار الفتن تدعو لاضطراب المجتمع فقد اصطلح علیها بالاراجیف.

القسم الثانی: فتنة البصرة

ومنها:

«فِتَنٌ کَقِطَعِ الْلَّیْلِ الْمُظْلِمِ، لَاتَقُومَ لَهَا قَائِمَةٌ، وَلَا تُرَدُّ لَهَا رَایَةٌ، تَأْتِیکُمْ مَزْمُومَةً مَرْحُولَةً: یَحْفِزُهَا قَائِدُهَا، وَیَجْهَدُهَا رَاکِبُهَا، أَهْلُهَا قَوْمٌ شَدِیدٌ کَلَبُهُمْ، قَلِیلٌ سَلَبُهُمْ، یُجَاهِدُهُمْ فِی سَبِیلِ اللهِ قَوْمٌ أَذِلَّةٌ عِنْدَ الْمُتَکَبِّرِینَ، فِی الأَرْضِ مَجْهُولُونَ، وَفی السَّماءِ مَعْرُوفُونَ. فَوَیْلٌ لَکِ یَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذلِکَ، مِنْ جَیْشٍ مَنْ نِقَمِ الله! لا رَهَجَ لَهُ، وَلأَ حَسَّ، وَسَیُبْتَلَی أَهْلُکِ بِالْمَوتِ الأَحْمَرِ، وَالْجُوعِ الأَغْبَرِ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا الکلام من الخطبة إلی فتنة اُخری تنتظر أهل العراق ولا سیما البصرة، لعل الاُمّة تستعد للدفاع وتقلل من خسائرها فی هذه الفتنة، وکذلک تخشی العقاب الإلهی الذی یتمثل أحیاناً بظهور الفتن فلا تحید عن الطریق وتلتزم بدینها. فقد وصف علیه السلام هذه الفتن بأنّها کقطع (1)اللیل المظلم، والتی لایسع أحد الوقوف برجهها والتغلب علیها «فتن کقطع اللیل المظلم، لا تقوم لها قائمة، ولا ترد لها رایة» .

فی إشارة إلی أنّ مثیری هذه الفتن یردون المیدان بکل قوة واقتدار فیأتون علی کل ما یقف فی طریقهم.

ص:257


1- 1) «قطع» جمع «قطعة» ولعله إشارة إلی بعض أقسام اللیل کنصفه، أو الوقت الذی فیه القمر، کما فسّره البعض بالظلمة.

ثم یواصل الإمام علیه السلام کلامه بتشبیه هذه الفتن بالناقة التی وضع علیها رجلها ویسوقها سائقها بسرعة: «تأتیکم مزمومة (1)مرحولة (2)یحفزها (3)قائدها، ویجهدها راکبها» .

ثم أشار علیه السلام إلی شدة هذه الفتنة وجسامة خسائرها بعد أن شبهها بالناقة المعدة للرکوب وقد استسلمت لراکبها بعبارة أخری فإن کل شیء جاهز للفتنة بحیث تکون ضربة أصحابها غایة فی الشدة و تلفاتها قلیلة: «أهلها قوم شدید کلبهم (4)وقلیل سلبهم (5)» .

فالإمام علیه السلام بین خصائص هؤلاء القوم الذین یقتحمون المیدان بکامل العدة والعدد، وسنری لاحقاً ومن خلال ما ورد فی التواریخ من تنطبق علیه هذه الأوصاف.

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی نقطة مهمّة وهی عدم تداوم هذه الفتنة لمدة طویلة، حیث یتصدی لها طائفة من أولیاء الله فیهبون للوقوف بوجه أصحاب هذه الفتن (ویقضون علیهم) ، ثم وصف هذه الطائفة بأنّها ذلیلة لدی المتکبرین، فهی لیست معروفة فی الأرض، لکنها معروفة فی السماء: «یجاهدهم فی سبیل الله قوم أذلة عند المتکبرین، فی الأرض مجهولون، وفی السماء معروفون» .

فهذه الطائفة من أولیاء الله ذات المقام الرفیع لدیه والشدیدة فی الجهاد فی سبیل الله ستخمد نار الفتنة، کما تفقد هذه الطائفة منزلتها لدی المتکبرین بسبب زهدها فی الدنیا وبعدها عن التظاهر والریاء، فهی مجهولة فی الأرض بین الناس، بینما معروفة لدی ملائکة السماء الخبیرة بباطن هذا العالم.

أمّا من هم هؤلاء القوم الذین أخبر الإمام علیه السلام عن فتنتهم وفجائهم، ومن هم المجاهدون الذین سیتصدون لهم ویخمدوا نیران الفتنة، فیبدوهنالک اختلاف بین شرّاح نهج البلاغة بهذا الشأن.

ص:258


1- 1) «مزمومة» من مادة «زمام» الحیوان الذی الجم.
2- 2) «مرحولة» من مادة «رجل» جهاز الناقة أو أدوات السفر، ومرحولة هنا بمعنی الناقة الجاهزة للرکوب، وهی کنایة عن تمام الفتن وقوتها.
3- 3) «یحفز» من مادة «حفز» علی وزن حبس یحث ویدفع.
4- 4) «کلب» علی وزن طلب الاذی والشدة.
5- 5) «سلب» محرکة ما یأخذه القاتل من ثیاب المقتول وسلاحه فی الحرب.

فقد ذهب البعض إلی أنّ المراد بأصحاب الفتن هم أنصار رجل یدعی صاحب الزنج واسمه علی بن محمد وقد نسبوه إلی سلالة النبی صلی الله علیه و آله (وإن کان هنالک شک فی نسبه) حیث یجمع عددا من الزنوج حوله ومن هنا لقب بصاحب الزنج. فقد نهض فی نصف القرن الثالث وأثار فتنة عظیمة أطراف البصرة، ثم قتل علی ید المجاهدین بعد 12 سنة من حکومة لتلک المنطقة.

کما فسرها البعض الآخر بفتنة المغول، الذین لم یسیطروا علی العراق فحسب، بل سیطروا علی أجزاء واسعة من العالم الإسلامی، ثم تصدی لهم المجاهدون المسلمون بعد مدة طویلة وقضوا علیهم. وأخیرا فسرها البعض بحوادث آخر الزمان وتعم الفتنة أغلب العالم الإسلامی فلا تقتصر علی العراق، ثم یهب لهم جیش الإمام المهدی علیه السلام فیقضی علیهم.

ولما کان أغلب شرّاح نهج البلاغة یرون هذه الخطبة جزءا من الخطبة 128، لذلک نرجح تناول هذا الموضوع بصورة أعمق حین نخوض فی شرح تلک الخطبة.

ثم اختتم الإمام علیه السلام خطبته مخاطبا البصرة: «فویل لک یا بصرة عند ذلک، من جیش من نقم الله! لارهج (1)له ولا حس (2)، وسیبتلی أهلک بالموت الأحمر، والجوع الأغبر (3)» .

والعبارة عند ذلک تشیر إلی أنّ حادثة البصرة لیست حادثة منفصلة، بل البصرة إحدی مراکز الفتنة التی یتعرض أهلها إلی أشد الضربات والعقوبات.

والعبارة نقم الله تفید أنّ هذه الفتنة المرعبة جزاء لاعمالهم.

والعبارة لارهج له ولا حس إشارة إلی الاستعداد التام للقوات المهاجمة بحیث تدخل المدینة وفق خطة دقیقة دون أن تثیر بعض الاصوات والجلبة فتسلب زمام المبادرة من الطرف الآخر بحیث لایبقی أمامه من مجال للمقاومة.

والعبارة الموت الاحمر إشارة إلی عظم المقتلة التی تقع فی البصرة، فقد ورد فی تاریخ صاحب الزنج أنّه قتل ثلاثمئة ألف من الناس حین دخل البصرة. (4)

ص:259


1- 1) «رهج» بالتحریک والسکون الغبار کنایة عن دخول الجیش بکل هدوء وبصورة مباغتة دون أن یثیر شیئاً.
2- 2) «حس» الجلبة والاصوات المختلفة.
3- 3) «أغبر» من الغبار والجوع الأغیر کنایة عن المحل والجذب والقحط الشدید؛ فوجوه الناس تبدو مغبرة فی القحط من شدة الجوع.
4- 4) مروج الذهب 4/119. [1]

والعبارة الجوع الأغبر إشارة إلی القحط الشدید إثر الحروب والاضطرابات بحیث یشحب وجههم.

وقد صرح بعض المؤرخین بأنّ الظروف الصعبة جعلتهم یقتلون بعض الحیوانات من قبیل الکلب والقط والفأر ویأکلونها، کما کانوا أحیاناً یأکلون میتة الإنسان (1).

وقد فسّر بعض شرّاح نهج البلاغة الموت الأحمر والجوع الأغبر بالطاعون والوباء والغرق أثر السیول وهجوم أمواج البحر، ولا یبدو مثل هذا التفسیر مناسباً.

ص:260


1- 1) مروج الذهب 4/119.

الخطبة المأة و ثلاث

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

فی التزهید فی الدنیا

نظرة إلی الخطبة

یستفاد من تعبیرات المرحوم السید الرضی (ره) (منها ومنها) أنّه لم یأت یتمام الخطبة هنا، بل اقتطف بعضها کعادته. ویبدو بصورة عامة أنّ لهذه الخطبة عدة أهداف: الأول: الحث علی الزهد والتقوی والرغبة عن الدنیا. الثانی التفکر والاعتبار والتبصر فی الاُمور، ثم التعریف بالعالم الحق وبیان اتباع الحق من اتباع الباطل من خلال ذکر الصفات، ثم اختتام الخطبة ببیان محن المؤمنین فی آخر الزمان ومصیر الإسلام فی ظل تلک الشرائط، بغیة تأهب المؤمنین والحد من الاضرار علی مستوی الإیمان والأخلاق.

والخطبة علی العموم ارشاد معنوی ومادی للإنسان یجعله یتغلب علی ما یواجهه من مشاکل.

ص:261


1- 1) سند الخطبة: ما نقله المرحوم السید الرضی (ره) فی هذه الخطبة جزء من خطبة طویلة ولذلک قال منها ومنها. وقد وردت أجزاء مختلفة من هذه الخطبة فی عدة مصادر قبل نهج البلاغة، ومنها روضة الکافی وتحف العقول واصول الکافی وعیون الأخبار لابن قتییة وکتاب الفتن لنعیم بن حماد الخزاعی المتوفی عام 228 (مصادر نهج البلاغة 2/206) .

ص:262

القسم الأول: الدنیا الفانیة

اشارة

«أَیُّهَا النَّاسُ! انْظُرُوا إلی الدُّنْیَا نَظَرَ الزَّاهِدِینَ فِیهَا، الصَّادِفِین عَنْهَا؛ فَإِنَّهَا وَاللّهِ عَمَّا قَلِیلٍ تُزِیلُ الثَّاوِیَ السَّاکِنَ، وَتَفْجَعُ الْمُتْرَفَ الآمِنَ؛ لَایَرْجِعُ مَا تَوَلَّی مِنْهَا فَأَدْبَرَ، وَلَا یُدْری مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَیُنْتَظَرَ. سُرورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ، وَجَلَدُ الرِّجَالِ فِیهَا إلَی الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ، فَلا یَغُرَّنَّکُمْ کَثْرَةُ مَا یُعْجِبُکُمْ فِیهَا لِقِلَّةِ مَآ یَصْحَبُکُمْ مِنْهَا» .

الشرح والتفسیر

کما ذکرنا سابقاً فانّ الإمام علیه السلام تطرق فی هذا الکلام من الخطبة إلی مسألة الزهد فی الدنیا الذی یقود إلی کافة الصالحات والفضائل.

فقال علیه السلام: «أیّها الناس! انظروا إلی الدنیا نظر الزاهدین فیها، الصادفین (1)عنها» ، طبعاً لا تعنی هذه العبارة أنّ الإنسان ینبغی أن یترک الدنیا ویعیش الرهبنة فیها، بل الهدف عدم فقدان النفس، وعدم الرکون إلی الدنیا والاغترار بها. فقد ثبت بوضوح أنّ التعلق بالدنیا والاغترار بما لها وجاهها ولذاتها یشکل حجاباً علی سمع الإنسان وبصره، فیؤدی به إلی مقارفة الذنب والمعصیة.

فقد ورد فی الحدیث أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: «حب الدنیا رأس کل خطیئة» (2).

ص:263


1- 1) «صادف» من مادة «صدف» علی وزن حرف بمعنی الأعراض عن الشیء.
2- 2) روی هذا الحدیث بعبارات مختلفة عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأمیرالمؤمنین والإمام الصادق وحتی الأنبیاء الماضین علیهم السلام. (میزان الحکمة 2/ ح 5813 - 5823) - [1] وفی الحدیث الذی نقله الکلینی فی الکافی عن الإمام السجاد علیه السلام بعد شرح ودوافع الذنوب قال: «فاجتمعن کلهن فی حب الدنیا» . فقال الأنبیاء والعلماء - بعد معرفة ذلک - «حب الدنیا رأس کل خطیئة» . (اصول الکافی 2/131) . [2]

إنّ الذنب هو المادة التی تفضی إلی کافة الحروب والنزاعات والجنایات وسفک الدماء وما إلی ذلک من انحرافات.

ثم تطرق الإمام علیه السلام بعبارات قصیرة لأدلة اثبات تلک الحقیقة فأوجزها فی ستة أدلة: «فانّها والله عما قلیل تزیل الثاوی (1)الساکن» .

نعم لابدّ لکل إنسان دون استثناء ان یودع یوماً هذا العالم، بعضهم یودع أبکر، والبعض الآخر قلیل یتأخر، ولکن لامناص من تذوق هذه المرارة: «کُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ» (2).

والفارق بین ثاوی وساکن هو أنّ الثاوی تطلق عن من أقام بصورة مستمرة فی مکان وقد استقر فیه، وقد یکون الساکن کذلک أو لایکون، وبناءاً علی هذا فالشباب الذین یعتقدون باستقرارهم لمدة مدیدة فی هذه الدنیا معرضون للزوال، وکذلک الکهول یبدو سکنهم مؤقتاً ومحدوداً، فالجمیع یسیر نحو الفناء والزوال، إلی عالم البقاء والخلود.

ثم قال فی الدلیل الثانی أنّ الدنیا تفجع بمصائبها من غرق فی النعم واغتربها: «وتفجع المترف (3)الأمن» .

نعم بینما تری هذا الإنسان غارقاً فی لذاته ونعمه وإذا نقل إلیه خبر موت فلان. ویالها من عبرة هذه الوفیات المفاجئة، وما أکثرها فی هذا الزمان. ویالها من عبرة أنّ تراه غارقاً لیلاً فی نعمه وملذاته فیصحوا صباحاً وقد فقد کل شیء.

أمّا الدلیل الثالث والرابع فهو أنّ ما یذهب من الدنیا لایعود أبداً، ولا یعلم کیف سیکون المستقبل: «لایرجع ما تولی منها فأدبر، ولایدری ما هو آت منها فینتظر» .

ویالها من محنة إلّایعثر الإنسان علی ضالته قط، کما یفقد الأمل بالمستقبل! فهو فی حسرة دائمة! فلا الشباب یعود إلیه، ولا قواه وطاقاته التی ذهبت أدراج الریاح مع تقادم العمر، هذا کله من جانب، ومن جانب آخر فالخوف من المستقبل الغامض الذی یهز کیانه ویؤرق تفکیره ویقض مضجعه.

ص:264


1- 1) «ثاوی» من مادة «ثواء» الاقامة مع الاستقرار.
2- 2) سورة آل عمران/185. [1]
3- 3) «مترف» من مادة «ترف» التنعم ویطلق «المترف» علی من تغفله کثرة النعم وتؤدی به إلی الغرور والطغیان.

ثم أورد علیه السلام الدلیل الخامس والسادس الذی یدعو إلی الزهد فی الدنیا وهو أنّ فرحها مقرون بالحزن وسرورها بالهم وقدرة الرجال وقوتهم إلی الضعف والوهن: «سرورها مثوب بالحزن وجلد (1)الرجال فیها إلی الضعف والوهن» .

فمشکلة النعم المادیة الدنیویة قد أشار الیها الإمام علیه السلام فی موضع آخر فقال: «لاتنالون منها نعمة إلّابفراق اُخری» (2)، علی سبیل المثال فالعقیم یتصدع قلبه بفعل عدم وجود الأولاد؛ إلّا أنّ مشکلته قد تحل بأن یمنح الأولاد، فسرعان ما تهجم علیه سائر المشاکل! لیس له ثروة کافیة فیؤرقه ألم الفقر والحاجة، فاذا ما أصاب ثروة، واجهته مشاکل الحسد وخیانة الخونة وطمع اللصوص بثروته، حتی یفقد سکینته واستقراره. نعم فسرور الدنیا مشوب بالهم والغم والحزن، وقوة الإنسان آیلة فیها إلی الوهن، وهکذا یخلص الإمام علیه السلام من هذه الأدلة إلی نتیجة مؤداها: «فلا یغرنکم کثرة ما یعجبکم فیها لقلة ما یصحبکم منها» .

صحیح أنّ الدنیا ملیئة بمعانی الزینة والجمال والمظاهر الخلایة، إلّاأنّها وعلاوة علی استبطانها للمشاکل والمحن، فهی متقلبة سائرة نحو الفناء والزوال. وعلیه فلا یجدر بالعاقل الاهتمام بها والرکون إلیها.

علی کل حال فانّ أدنی تأمل لهذه الأدلة یکفی لافاقة الغافلین من سباتهم، إلّاأنّ المؤسف هو أنّ أغلب الناس یبخل علی نفسه حتی بتلک اللحظة من التأمل.

تأمّل: الزهد فی الدنیا

قد یتصور أحیاناً بأنّ مفهوم الزهد هو التخلی التام عن الدنیا، والتقوقع فی زاویة والابتعاد عن المجتمع، والحال لاینسجم هذا المعنی والروح الاجتماعیة للإسلام؛ الأمر الذی ورد النهی عنه فی الروایات الإسلامیة.

والحق أنّ للزهد معنی آخر وهو ترک التعلق المفرط بالدنیا وعدم الوقوع أسیراً فی قبضة

ص:265


1- 1) جلد بمعنی القوة والصلابة.
2- 2) نهج البلاغة، الخطبة 145. [1]

زخارفها ومفاتنها؛ وبخلافه فانّ الإنسان یسیر نحو الذنب والخطیئة ویبیع دینه وآخرته بمتاع الدنیا الفانی وهذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام بقوله: «إنّ من أعون الاخلاق علی الدین، الزهد فی الدنیا» (1).

وقال الإمام الصادق علیه السلام بهذا الخصوص: «إذا تخلی المؤمن من الدنیا لسما، ووجد حلاوة حب الله» (2). وورد فی الحدیث أنّ علیاً علیه السلام رأی جابر بن عبدالله وهو یتنهد فقال: «یا جابر علام تنفسک؟ أعلی الدنیا؟» قال جابر: بلی.

فتطرق الإمام علیه السلام إلی بیان لذات الدنیا وأنّها لا تعدو أن تکون فی المأکل أو المشرب أو اللباس الفاخر، أو اللذة الجنسیة أو المرکب الهنیئ، ثم شرح ذلک قائلاً: فألذ المأکولات العسل وهو بصق من ذبابة، وأحلی المشروبات الماء؟ وکفی باباحته وسیاحته علی وجه الأرض، وأعلی الملبوسات الدیباج وهو من لعاب دودة، وأعلی المنکوحات النساء وهو مبال فی مبال، ومثال لمثال، وإنّما یراد أحسن ما فی المرأة لأقبح ما فیها، وأعلی المرکوبات الخیل وهو قواتل، وأجمل المشمومات المسک وهو دم من سرة دابة، وأجل المسوعات الغناء والترنم وهو إثم، فما هذه صفته لم یتنفس علیه عاقل.

قال جابر بن عبدالله: فو الله ما خطرت الدنیا بعدها علی قلبی (3).

ص:266


1- 1) منهاج البراعة، للعلّامة الخوئی 7/182.
2- 2) المصدر السابق.
3- 3) بحارالانوار 75/11. [1]

القسم الثانی: سرعة العمر

اشارة

«رَحِمَ اللهُ امْرَأً تَفَکَّرَ فَاعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ، فَکَأَنَّ مَا هُوَ کَائِنٌ مِنَ الدُّنْیَا عَنْ قَلِیلٍ لَمْ یَکُنْ، وَکَأَنَّ مَا هُوَ کَائِنٌ مِنَ الآخِرَةِ عَمَّا قَلَیلٍ لَمْ یَزَلْ، وَکُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ، وَکُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ، وَکُلُّ آتٍ قَرِیبٌ دَان» .

الشرح والتفسیر

قال علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة - والذی یعتبر فی الواقع نتیجة لما تقدم - «رحم الله امرأ تفکر فاعتبر، واعتبر فأبصر» .

طبعاً مراد الإمام علیه السلام التفکر فی مصیر الدنیا الذی تطرق إلیه سابقاً، فانّ مثل هذا التفکیر یؤدی إلی الاعتبار والیقظة. ومن الواضح أنّ من یعتبر ویتعظ یتبصر الاُمور ویقف علی بواطن الأشیاء بدلاً من ظواهرها، ویفکر فی المقدمات والنتائج فیلتمس سبیل النجاة فی ظل هذا الاعتبار والأبصار. وبعبارة اُخری فانّ الإنسان لیتعرف علی سلسلة من الحقائق من خلال تأمل حوادث الماضی والحاضر، فیحتذیها فی مسیره لیمیز الحق من الباطل.

فقد ورد فی الحدیث أنّ رجلاً سأل الإمام الصادق علیه السلام عن صحة هذا الخبر «إن تفکر ساعة خیر من قیام لیلة» ، فأجاب علیه السلام: نعم، قال رسول الله صلی الله علیه و آله: «تفکر ساعة خیر من قیام لیلة» . فسأل الراوی: «کیف یتفکر؟» . قال علیه السلام: «یمر بالدور الخربة، فیقول: أین بانوک؟ أین ساکنوک؟ مالک لا تتکلمین؟» (1).

ص:267


1- 1) بحارالانوار 68/324 ح 16. [1]

ولو کانت له أذن سامعة لسمعها وهی تنادیه: لقد ارتحلوا جمیعاً بعد أن توسدوا التراب ولم یبق سوی آثارهم.

ثم قال علیه السلام: «فکأن ما هو کائن من الدنیا عن قلیل لم یکن، وکأن ما هو کائن من الآخرة عما قلیل لم یزل» .

أی أنّ الدنیا لتمضی بسرعة، والآخرة تأتی بسرعة بحیث یتصور الإنسان أنّه لم تکن هناک من دنیا، والآخرة هی التی کانت موجودة دائماً.

وقد جربنا هذه المسألة فی العدید من حوادث الدنیا؛ فقد نمر أحیاناً بدار بعض الاشراف وقد کانت داره تغص بالناس والذهاب والایاب، وإذا بها صامتة هادئة وکأن لم تشهد تلک الضجة.

ثم اختتم علیه السلام خطبته بثلاث عبارات غایة فی الروعة والدقة، فی أنّ ما کان معدوداً (کساعات عمر الإنسان) فهو إلی انقضاء، وما کان منتظرا فهو إلی قدوم ووقوع، وما کان قریباً فهو حاصل: «وکل معدود منقض، وکل متوقع آت، وکل آت قریب دان» .

فالعبارة الاُولی إشارة إلی قاعدة کلیة فلسفیة فی محدودیة کل ما دخل تحت العدد، وما کان محدوداً فهو إلی انقضاء، ولما کان عمر الإنسان والدنیا برمتها داخل فی العدد والارقام، فلابدّ من انتظار انقضائه، والعبارات اللاحقة مکملة لذلک؛ لأنّ ما ننتظره سیأتینا یوماً لا محالة، وما یأتینا لیس ببعید عنا! وعلیه فلا ینبغی الاعتقاد ببعد الموت وخلود الحیاة، والعمر لیس بباق. و الواقع هو أن هذه العبارات الثلاث بمنزلة الدلیل علی العبارات السابقة.

تأمّل: فی الاعتبار

ملیئة حیاة الإنسان فی کل عصر ومصر بالدروس والعبر؛ الدروس التی توقظ القلب وترفع الحجب وتفضح ماهیة الحیاة الدنیا؛ إلّاأنّ الموسف قلة الاعتبار. فالناس عادة ما تمر مرّ الکرام علی الحوادث التی من شأنها اثارة الاعتبار لدیهم، کما أنّ تکرارها یدعوهم لاهمالها.

العامل الآخر الذی یقف وراء عدم الاعتبار إنّما یکمن فی حصر مکاره الدهر فی الآخرین،

ص:268

وکأنا بمعزل عن تلک المکاره وأنا مخلدون فی هذه الدنیا. ولو کانت هناک بصیرة حقا فإن کل شیء فی الأرض یشتمل علی عبرة تدعونا للإعتبار.

جاء فی الأخبار أن هارون الرشید کتب رسالة إلی الإمام موسی بن جعفر علیه السلام طلب فیها أن یعظه قائلاً «عظنی وأوجز» (طبعا من المستبعد أن یکون مثل هؤلاء الأفراد صادقین وأنّهم یطلبون النصح والوعظ والارشاد؛ لأنّ هذه الاُمور إنّما تکون عادة جزءاً من مخططاتهم السیاسیة، لیوحوا للآخرین أنا من اهل الوعظ الذی نسأله من ابن رسول اللّه) .

فأجابه علیه السلام: «ما من شیء تراه عینک ألّاوفیه موعظة» (1).

نعم فالأرض والسماء والکائنات والاشجار والحوادث وأنین المرضی ومشیب الشعر وانحناء الظهر والمقابر والقصور الخاویة للملوک، کلها تغص بالدروس والعبر فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام اراد أن یقول له لوکان لک عین باصرة لاعتبرت.

فقصور الملوک مملوءة بالعبر، ولکن لایعتبر بها سوی من له آذانا صاغیة.

و کفی بالقرآن واعظا بهذا الشأن: «کَمْ تَرَکُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُیُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ کَرِیمٍ * وَنَعْمَةٍ کَانُوا فِیهَا فَاکِهِینَ * کَذَلِکَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِینَ * فَمَا بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا کَانُوا مُنظَرِینَ» . (2)

ص:269


1- 1) سفینة البحار - مادة وعظ.
2- 2) سورة الدخان / 25 - 29. [1]

ص:270

القسم الثالث: العلماء والمتشبهون بهم

اشارة

ومنها: «الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَکَفَی بِالْمَرءِ جَهْلاً أَلّا یَعْرِفَ قَدْرَهُ؛ وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الرِّجَالِ إِلَی اللهِ تَعَالَی لَعَبْداً وَکَلَهُ اللهُ إِلَی نَفْسِهِ، جَائِراً عَنْ قَصْدِ السَّبِیلِ، سَائِراً بَغَیْرِ دَلِیلٍ؛ إِنْ دُعِیَ إِلَی حَرْثِ الدُّنْیَا عَمِلَ، وَإِنْ دُعِیَ إِلَی حَرْثِ الْآخِرَةِ کَسِلَ! کَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَیْهِ؛ وَکَأَنَّ مَا وَنَی فِیهِ سَاقِطٌ عَنْهُ!» .

الشرح والتفسیر

اتجه الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة - والذی یبدو منفصلاً، وان کان له نحو ارتباط بالمقاطع الماضیة - صوب التعریف بالعلماء الحق ومن تشبه بالعلماء (العلماء الحقیقیون والعلماء المزیفون) حیث یعرض لصفات کل منهما، فقال علیه السلام: «العالم من عرف قدره» .

ثم أکد هذه العبارة بقوله علیه السلام «وکفی بالمرء جهلا ألا یعرف قدره» .

وقد وردت عدة احتمالات فی تفسیر هاتین العبارتین کلها مناسبة، ویمکن جمعها فی مفهوم کلامه علیه السلام.

الأول: أنّ العالم الحقیقی من یعرف قیمته وقدره ازاء عظمة الله سبحانه فی هذا العالم، فیری أنّه لیس بشیء یذکر بالنسبة لذلک الوجود المطلق، وأنّه تابع له، فیحث الخطی للفوز بقربه، ولعل هذا هو المعنی الذی هدف إلیه الحدیث: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (1).

والثانی: أن المراد معرفة القیم والمکانة الواقعیة فی المجتمع، وبعبارة اُخری: العالم الحقیقی من

ص:271


1- 1) بحار الانوار 2/34 ح 22.

یبتعد عن الامال التی لا تستند لأی المنطق، ولایتجاوز حدود نفسه، ولایضع نفسه فی موضع لیس له باهل، فلا یعبث بماء وجهه وقدره. علی غرار ما ورد فی بعض الروایات: «رحم الله من عرف قدره، ولم یتجاوز حده» (1).

والثالث: أنّ المراد هو أنّ الإنسان موجود قیم له استعدادته العالیه، فلا ینبغی أن یبیع هذه الجوهرة الثمینة برخص ولایزهد فی نفسه وإمکاناته؛ الأمر الذی ورد فی الشعر المنسوب لأمیر المومنین علی علیه السلام إذ قال: أتزعم أنک جرم صغیر وفیک انطوی العالم الأکبر

وبالنظر إلی إمکانیة استعمال اللفظ لأکثر من معنی، حیث یعد ذلک من جمالیة الکلام وبدائعه، فلا یبدو من المستبعد الجمع بین هذه الاحتمالات الثلاث فی تفسیر الکلام المذکور؛ وإن کانت العبارات القادمة أنسب للمعنی الثانی والثالث.

ثم واصل علیه السلام کلامه بالتعریف بمن تشبه من العلماء من الجهال البعیدین عن الحق والصواب فقال علیه السلام: «وإن من أبغض الرجال إلی الله تعالی لعبدا وکله الله إلی نفسه، جائراً عن قصد السبیل، سائراً بغیر دلیل» .

طبعا لایسع الإنسان ما لم تحفه عنایة الله والطافه ان یتجاوز هذه الموانع والآفات الخطیرة التی تعترض طریقه، فاذا وکلّ إلی نفسه فسوف لن تکون عاقبته سوی المهلکة؛ فهو ینحرف عن الصراط، ویفقد الدلیل فیسیر علی عمی وضلال.

ثم وضح ذلک علیه السلام بالقول أنّه اغتر بالدنیا وخدع بها بحیث لایعمل إلّالها ولا یجهد نفسه إلّا من أجل الحصول علی متاعها: «إن دعی إلی حرث الدنیا عمل، وإن دعی إلی حرث الآخرة کسل» .

فهو نشط من أجل الدنیا، کسل من أجل الآخرة، وذلک لضعف ایمانه بالآخرة وعدم اعتقاده بالوعد والوعید الإلهی. فلم یبصر سوی الدنیا و ینسی الآخرة.

ومن هنا إختتم علیه السلام کلامه بهذا الشأن بالقول: «کأن ما عمل له وأحب علیه، وکأن ما ونی فیه ساقط عنه» (2).

ص:272


1- 1) اشتهرت هذه العبارة التی یطلقها العلماء بالاستفادة من الاحادیث.
2- 2) «ونی» بمعنی ضعف وتعب.

والتعبیر بالزرع عن الدنیا والآخرة هو اقتباس من الآیة الشریفة: «مَنْ کانَ یُرِیدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِی حَرْثِهِ وَمَنْ کانَ یُرِیدُ حَرْثَ الدُّنْیا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِی الآخِرَةِ مِنْ نَصِیبٍ» (1).

یمکن للدنیا أن تکون مزرعة الآخرة، کما یمکنها أن تکون مزرعة لنفسها. ویذرها الأعمال الحسنة والسیئة، وأعمالها الحسنة کالحبة التی تنبت سبع سنابل وفی کل سنبلة مأة حبة، أمّا الأعمال السیئة فهی البذور التی تزرع فی الأراضی المالحة: «لا یَخْرُجُ إِلّا نَکِداً» (2).

وتشیر العبارة الأخیرة ضمنیا إلی أنّ الأعمال الصالحة والطالحة إنّما تفرزها طبیعة الاعتقادات القویة والضعیفة.

تأمّل: العلماء الحقیقیون

أوضح الإمام علیه السلام بجلاء فی هذه الخطبة صفات العلماء، و من تشبه بهم من علماء السوء، فکان فی مقدمتها عدم معرفة قدر النفس. عدم معرفة قدر النفس ازاء عظمة الله، ولا قدره تجاه المجتمع، ولا قدر نفسه حیال نفسه. ومن لم یعرف قدر نفسه فانّه سیتیه فی أمواج من الجهل والبؤس والحیرة والشقاء، حتی یکله الله إلی نفسه فیضل فی خضم هذه الحیاة؛ فهو لا یری سوی النعم المادیة، وعلیه فالدنیا عنده ماء، والآخرة سراب من الهواء. والحلال والحرام والحق والباطل لدیه علی حد سواء؛ وهو ینطلق نحو المال والمقام وکأنّها أوجب الواجبات، بینما یتقاعس عن واجباته وکأنّها من المحرمات.

وقد اوردنا شرحاً مفصلاً بهذا الخصوص فی الخطبة السابعة عشر من المجلد الأول، ولا حاجة للتکرار.

ص:273


1- 1) سورة الشوری/20. [1]
2- 2) سورة الاعراف/58. [2]

ص:274

القسم الرابع: علامات آخر الزمان

اشارة

ومنها: «وَذلِک زَمَانُ لَایَنْجُو فِیهِ إِلَّا کُلُّ مُؤْمِنٍ نُوَمَةٍ، «إنْ شَهِدَ لَمْ یُعْرَفْ، وَإنْ غَابَ لَمْ یُفْتَقَدْ، أُولَئِکَ مَصَابِیحُ الْهُدی،» وَأَعْلَامُ السُّرَی، لَیْسُوا بِالْمَسَایِیحِ، وَلَاالْمَذَایِیعِ الْبُذُرِ، أُولَئِکَ یَفْتَحُ اللهُ لَهُمْ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ وَیَکْشِفُ عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ.

أَیُّهَا النَّاسُ، سَیَأْتری عَلَیْکُمْ زَمَانٌ یُکْفَأُ فِیهِ الإسْلَامُ، کَمَا یُکْفَأُ الإنَاءُ بِمَا فِیهِ، أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَعَاذَکُمْ مِنْ أَنْ یَجُورَ عَلَیْکُمْ، وَلَمْ یُعِذْکُمْ مِنْ أَنْ یَبْتَلِیکُمْ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: «إِنَّ فی ذلِکَ لآیَاتٍ وَإِنْ کُنَّا لَمُبْتَلِینَ»» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع الذی یمثل آخر الخطبة إلی الوضع فی آخر الزمان، وبعبارة اُخری الزمان الذی یسوده الشر قبل الإمام المهدی علیه السلام. فکان علیه السلام یتطرق إلی خصائص المؤمنین فی ذلک الزمان أحیاناً، وأحیاناً اُخری إلی وضع الإسلام والأحکام الإسلامیة. (1)

فقال علیه السلام: «وذلک زمان لا ینجو فیه إلّاکل مؤمن نومة، إن شهد لم یعرف وإن غاب لم یفتقد» .

صحیح أنّ النومة من النوم بمعنی الشخص الکثیر النوم؛ إلّاأنّه من الواضح هنا أنّ ذلک کنایة عن الفرد المجهول وغیر المعروف، ولا سیما أنّ الإمام علیه السلام وضح ذلک بالعبارات القادمة.

ص:275


1- 1) یفید عدم الارتباط المعنوی بین هذا المقطع من الخطبة والذی سبقه، أنّ السید الرضی (ره) حذف بعض الأقسام بینهما، والشاهد علی ذلک تعبیره (منها) .

طبعاً من البدیهی فی الظروف التی یعم فیها الفساد المجتمع، ویکون زعماء المجتمع وقادته من الفسدة والمنحرفین، ألا یکون الأفراد المؤمنین من الشخصیات المعروفة فی المجتمع، لأنّهم سیکونون فریسة للجبابرة الذین لن یترکوهم وشأنهم أبداً؛ فأما أن یتسلموا ویکونوا عوناً لهم، وامّا ان یقاوموا ویمتنعوا وفی هذه الحالة لیس لهم سوی الحدید والنار.

وبناءاً علی هذا یتوجب علی الأفراد المؤمنین فی ظل هذه الظروف أن یختفوا عن الأضواء ویعیشوا بعیداً عن الشهرة والمعرفة، کی لا یکون هناک من یتعقبهم ویبحث عنهم.

وبالطبع فان هذه المجهولیة لن تحط من قدرهم وتقلل من مکانتهم، وأنّهم لن یتخلوا عن دورهم المعنوی فی المجتمع، ومن هنا وصفهم الإمام علیه السلام بقوله: «أولئک مصابیح الهدی، وأعلام السری» (1).

فهم صامتون خاملون، إلّاأنّهم قدوة للاخرین، فهم مصابیح هدی کتلک العلامات التی تنصب علی الطریق لکی لا یضل السائر فیه لیلاً.

ثم قال علیه السلام فی وصف هذه الطائفة من المؤمنین: «لیسوا بالمساییح، ولا المذاییع البذر» .

قال المرحوم السید الرضی المساییح جمع مسیاح وهو الذی إذا سمع لغیره بفاحشة أذاعها، والبذر جمع بذور وهو الذی یکثر سفهه ویلغو منطقه.

وعلیه فمعنی العبارة هو أنّ هذه الطائفة من المؤمنین لیست بمفسدة ولا مثیرة للفتنة ولیست سفیهة تشیع الفاحشة.

ثم قال: «أولئک یفتح الله لهم أبواب رحمته، ویکشف عنهم ضراء نقمته» . فالعبارة تفید أنّ الله سبحانه وتعالی لم یسلب الطائفة المؤمنة الحقة عنصر هدایتها فی تلک الظروف العصیبة، وهو حافظهم من شر الظلمة ومکاره ذلک الزمان وحوادثه.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بنبوءة صریحة وتوضیح أکثر لذلک الزمان، فقال علیه السلام: «أیها الناس! سیأتی علیکم زماناً یکفا (2)فیه الإسلام، کما یکفأ الاناء بما فیه» .

فالعبارة «یکفأ فیه الإسلام» کنایة لطیفة عن انقلاب کافة المفاهیم الإسلامیة رأساً علی

ص:276


1- 1) «السری» تعنی السیر فی اللیل.
2- 2) «یکفأ» من مادة «کفأ» علی وزن نفع بمعنی الانقلاب.

عقب وذهاب حقیقتها وجوهرها، لأنّها شبهت الإسلام بالاناء الذی وضعت فیه المعارف والقوانین والأحکام والأخلاق الإسلامیة، وکما یضیع کل الماء إذا قلب الاناء، فکذلک الإسلام فی ذلک الزمان یضیع کل محتواه، ولایبقی منه سوی القشور.

ویبدو أنّ عصرنا یشهد مثل هذه العلامات حیث یکتفی أغلب المسلمین بذکر اسم الإسلام فقط، دون أن یکون هناک أی أثر للأخلاق أو انفتاح علی السنة النبویة؛ فلیس هناک سوی الشهوات والمال والمقام واللذة المادیة والشهوات الحیوانیة.

ولا شک أنّ احد عوامل البؤس والشقاء هو التفسیر بالرأی والقراءات الکاذبة والمنحرفة للإسلام، حیث یقوم بعض الأفراد خداعاً لأنفسهم وللأخرین بتقدیم بعض التفاسیر المشبوهة للحقائق الإسلامیة المسلمة انسجاماً مع أهوائهم وأفکارهم؛ الأمر الذی یجعل الإسلام العوبة بیدهم یفعلون به ما یشاؤون.

فقد ورد فی الحدیث أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال لعلی علیه السلام: «یستحلون حرامه بالشبهات الکاذبة، والأهواء الساهیة» (1).

ثم اختتم الإمام علیه السلام کلامه بالاجابة علی سؤال مقدر وهو: لم یبتلی الله المسلمین بهذه الحوادث والاضطرابات؟ فقال علیه السلام: «أیها الناس إنّ الله قد أعاذکم من أن یجور علیکم، ولم یعذکم من أن یبتلیکم، وقد قال جل من قائل إن فی ذلک لآیات وإن کنّا لمبتلین» (2).

فی إشارة إلی أنّ مثل هذه الحوادث اختبار للناس وامتحان لهم، ولابدّ أن یخوض عامة الناس - بما فیهم الأنبیاء وسائر الأفراد - هذا الامتحان الإلهی! الامتحان الذی قد ینطوی أحیاناً علی بعد فردی، وأحیاناً جماعی؛ کما ورد فی العبارة المذکورة من شمول الجمیع بالامتحان، لتمییز الصادق من الکاذب والمؤمن من المنافق.

کلام السید الرضی (ره)

قال السیّد الشرّیف الرّضی: أَمَّا قَوْلُهُ علیه السلام: «کُلُّ مُؤْمِنٍ نُوَمَةٍ» فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْخَامِلَ الذِّکْرِ، الْقَلِیلَ الشَّرِّ.

ص:277


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 156. [1]
2- 2) سورة المؤمنون/30. [2]

وَ «الْمَسَایِیحُ» جَمْعُ «مِسْیَاحِ» وَهُوَ الَّذِی یَسیِحُ بَیْنَ النَّاسِ بِالْفِسادِ وَالَّنمَائِمٍ. وَ «الْمَذَایِیعُ» جَمْعُ «مِذْیَاعٍ» وَهُؤَ الَّذِی إِذَا سَمِعَ لِغَیْرِهِ بِفَاحِشَةٍ أَذَاعَهَا، وَنَوَّهَ بِهَا. وَ «الْبُذُرُ» جَمْعُ «بَذُورِ» وهُوَ الَّذِی یَکْثُرُ سَفَهُهُ وَیَلْغُو مَنْطِقُهُ.

تأمّل: الفساد فی آخر الزمان

وردت عدة روایات التی تذم آخر الزمان، حیث فسر آخر الزمان عادة بالزمان القریب من ظهور الإمام المهدی علیه السلام: والواقع هو کثرة الفساد الذی یجتاح العالم بأسره: «کما ملئت ظلما وجورا» فیعد القلوب الوالهة إلی تقبل وجوده علیه السلام بصفته مظهر العدل والصلاح.

هذا ومن جملة العوامل التی تؤدی إلی سعة حجم الفساد فی آخر الزمان ما یلی:

1 - الابتعاد عن تعالیم الأنبیاء وارشادات الاوصیاء علیهم السلام.

2 - إزدیاد وسائل الفساد والشهوات.

3 - اتساع حجم الوسائل الدعائیة التی تقوم بنشر الفساد إلی مختلف الأماکن لمجرّد حصوله فی زاویة من الأرض.

4 - إزدیاد الشبهات فی المبانی الدینیة والأخلاقیة من خلال التفسیر بالرأی والقراءات المختلفة للمعارف والمفاهیم الدینیة.

5 - تسلط حکام الجور والفساد الذین لایهمون سوی بتحقیق منافعهم المادیة، إلی جانب بذلهم الجهود الحثیثة من أجل افساد الناس ولا سیما الشباب من اجل الوصول إلی اهدافهم الخبیثة.

حقاً أنّ التدین لصعب فی مثل هذه العصور والأزمنة، بل الواقع هو أنّ هذا العصر من أصعب العصور اختباراً وامتحاناً. ولا یمکن للصالحین إجتیاز هذا الامتحان العسیر إلّامن خلال الاستغاثة بالله لیشملهم بلطفه وعنایته.

ص:278

الخطبة المأة واربع

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

نظرة إلی الخطبة

أشار الإمام علیه السلام فی القسم الأول من هذه الخطبة إلی قیام النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی وسط جاهلیة العرب وجهوده المضنیة فی سبیل هدایة الاُمّة.

وأشار فی القسم الآخر من الخطبة إلی سعی بعض المنحرفین لاحیاء تقالید الجاهلیة: ثم قال علیه السلام أنی سأواصل طریق رسول الله صلی الله علیه و آله ولأبقرن الباطل حتی أخرج الحق من خاصرته، لتعلم الاُمّة کیف تنهض بتکالیفها وتتعامل معه، وتتاهب لمحاربة أعراف الجاهلیة.

ص:279


1- 1) سند الخطبة: تشیه هذه الخطبة إلی حد کبیر الخطبة الثالثة والثلاثین. ومن هنا قال المرحوم السید الرضی (ره) فی آخر الخطبة: وقد تقدم مختار هذه الخطبة، إلّاأننی وجدتها فی هذه الروایة علی خلاف ما سبق من زیادة ونقصان، فأوجبت الحال إثباتها ثانیة. فالعبارة تفید ان الخطبتین مرتبطة بواقعة واحدة، وإن نقلهما الرواة مع بعض الاختلاف؛ إلّاأنّ التفاوت الواضح بین الخطبتین یجعل احتمال التعدد أقوی. وللوقوف علی التفاصیل راجع ما أوردناه ذیل الخطبة 33.

ص:280

القسم الأول: النهضة التغییریة للنبی علیه السلام

اشارة

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّی اللهُ عَلَیهِ، وَآلِهِ وَلَیْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ یَقْرَأُ کِتَاباً، وَلَا یَدَّعی نُبُوَّةً وَلَا وَحْیاً، فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ، یَسُوقُهُم إلَی مَنْجَاتِهِمْ؛ وَیُبَادِرُ بِهِمُ السَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ، یَحْسِرُ الْحَسِیرُ، وَیَقِفُ الْکَسِیرُ، فَیُقِیمُ عَلَیْهِ حَتَّی یُلْحِقَهُ غَایَتَهُ، إِلَّا هَالِکاً لَاخَیْرَ فِیهِ، حَتَّی أَرَاهُمْ مَنْجاتَهُمْ وَبَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ» .

الشرح والتفسیر

استهل الإمام علیه السلام الخطبة - بعد الحمد والثناء الذی لم یذکر فی العبارة - بالحدیث عن بعثة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی ذلک الوسط الجاهلی فقال علیه السلام: «أمّا بعد، فان الله سبحانه بعث محمداً صلی الله علیه و آله ولیس أحد من العرب یقرأ کتاباً، ولا یدعی نبوة ولا وحیاً» .

فالعبارة إشارة إلی الأغلبیة الساحقة من العرب آنذاک التی کانت تعبد الأوثان والأصنام وقد تناست دعوة الأنبیاء السابقین. وبناءاً علی هذا فلیس هناک من منافاة بین هذا الحکم العام الناظر للأغلبیة العظمی ووجود الأقلیات الدینیة آنذاک کالیهود والنصاری. أضف إلی ذلک فانّ الأقلیة الیهودیة کانت مهاجرة أتت إلی الحجاز من الشام، کما قدمت الأقلیة النصرانیة من الیمن، فهما لا تنتمیان إلی العرب. کما یحتمل أن یکون المراد بالکتاب، الکتاب السماوی غیر المحرف، الذی لم یکن موجودا آنذاک. أمّا ما قیل من أنّ المراد بالکتاب هنا هو القراءة والکتابة فیبدو بعیداً، لا سیما أنّ العبارة القادمة علی الخلاف من ذلک.

ص:281

أضف إلی ذلک فقد کا هناک من یحسن القراءة والکتابة آنذاک.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بتقسیم الناس ازاء الدعوة الإسلامیة إلی ثلاث طوائف: الطائفة التی تقبلت الإسلام بکل کیانها، واُخری التی استجابت بعد جهود، والثالثة التی اعتمدت التعصب واللجاجة فوقفت بقوة بوجه الدعوة، فلم تتعاطف معها أبدا، وقد قضی علیها.

فقال علیه السلام بشأن الطائفة الاولی: «فقاتل بمن أطاعه من عصاه، یسوقهم إلی منجاتهم، ویبادر بهم الساعة أن تنزل بهم» .

والمراد بالساعة فی هذه العبارة القیامة الصغری یعنی الموت، لا القیامة الکبری التی تقوم بعد نهایة العالم.

وقال بشأن الطائفة الثانیة: «یحسر الحسیر (1)، ویقف الکسیر، فیقیم علمه حتی یلحقه غایته» .

ثم أشار إلی الطائفة الثالثة وهی الطائفة الضالة التی لایؤمل هدایتها: «إلّا هالکاً لا خیر فیه» .

فما ورد فی الحدیث الشریف هو عین ماورد فی عبارة أمیرالمؤمنین علیه السلام، ثم عاد علیه السلام إلی أصل المطلب: «حتی أراهم منجاتهم وبوأهم محلتهم، فاستدارت رحاهم (2)، واستقامت قناتهم (3)» .

تأمّلان

1 - هل بعث نبی من العرب؟

تضمنت بدایة الخطبة إشارة إلی عدم قیام نبی من العرب؛ وهذا فی الواقع اقتباس من الآیة الشریفة: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ» . (4)

ص:282


1- 1) «حسیر» من مادة «حسر» علی وزن حبس بمعنی العری وسلب اللباس من شیء. ثم استعمل بمعنی الکسل والتعب.
2- 2) «رحی» کنایة عن وفرة أرزاقهم، فالرحی تدور علی ما تطحنه من حب.
3- 3) «القناة» من مادة «قنو» علی وزن صنف فی الأصل فرع الشجرة، کما اطلقت علی الرمح لشباهته بفرع الشجرة، وهی کنایة عن صحة الأحوال وصلاحها.
4- 4) سورة یس/6. [1]

وهنا یمکن أن یطرح هذا السؤال: إنّ القرآن صرّح فی موضع آخر قائلاً: «وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلّا خَلا فِیها نَذِیرٌ» (1).

أضف إلی ذلک فانّ قاعدة اللطف تقتضی أن یکون لکل أمّة رسول مبعوث من الله.

ونقول فی الجواب: أنّ المراد بالآیة وما ورد فی الخطبة کبار أنبیاء الله الذین ذاع صیتهم فی الارجاء، وإلّا فلیس هناک من زمان لیس لله فیه من حجة بین الناس. ومن هنا یصطلح بالفترة علی الفاصلة الواقعة بین بعث السید المسیح علیه السلام والنبی صلی الله علیه و آله؛ والحال کان هناک أوصیاء المسیح علیه السلام من بعده.

أضف إلی ذلک لم یدع أحد من العرب فی زمان بعثة النبی صلی الله علیه و آله - المراد بهذه الخطبة - النبوة والاتصال بالوحی والإتیان بکتاب سماوی.

2 - القوة فی الدین

یستفاد من عبارات الإمام علیه السلام الواردة فی هذه الخطبة أنّ ظهور الإسلام لم یقتصر علی اصلاح دین الناس فقط، بل حل إلی جانب ذلک الکثیر من مشاکلهم الدنیویة.

وهکذا تبلورت أمة قویة وحکومة مقتدرة فی ظل الدین الجدید، تمکنت من إدارة شؤون الاُمّة وزعامتها لسنوات طویلة؛ ولعل هذه الحکومة کانت ستخلد لو لم تنحرف عن المسار الإسلامی الصحیح. اضافة إلی ذلک نهضت الحضارة وتطورت الثقافة لتشهد اتساعاً ورقیاً فی ظل التعلیمات الإسلامیة، حتی کانت صفحة جدیدة فی فصل التأریخ البشری.

کل هذه أدلة علی أن اتباع التعالیم الإسلامیة إنّما یؤدی إلی ضمان سلامة دین الإنسان وعمارة دنیاه.

والعبارات الاربع الواردة فی الخطبة شاهد علی هذا الادعاء، فقد قال علیه السلام: حتی أراهم منجاتهم، وبوأهم محلتهم، فاستدارت رحاهم، واستقامت قناتهم. لتصف بمجموعها سعادتهم المعنویة والمادیة.

ص:283


1- 1) سورة فاطر/24. [1]

ص:284

القسم الثانی: بقر الباطل واخراج الحق

«وَایمُ اللّهِ، لَقَدْ کُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا حَتَّی تَوَلَّتْ بِحَذَافِیرِهَا، وَاسْتَوْسَقَتْ فِی قِیَادِهَا؛ مَا ضَعُفْتُ، وَلَا جَبُنْتُ، وَلَا خُنْتُ، وَلَا وَهَنْتُ وَایْمُ اللّهِ، لأَبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّی أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ!» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام هنا إلی دوره فی انتشار الدعوة الإسلامیة ودحر عسکر الکفر فقال علیه السلام: «وایم الله، لقد کنت من ساقتها حتی تولت بحذافیرها (1)، واستوسقت قیادها» (2).

ساقه جمع سائق. وقد کان سائداً فی السابق أن یتقدم حرکة الرکب أو القافلة شخص یسمی القائد، ویقال عن خلفه السائق.

وهکذا کان الأمر بالنسبة للجیوش فقد کان القادة فی مقدمة الجیش و الأمراء خلفه. فالإمام علیه السلام یشیر إلی أنّ الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله کان القائد للجیش وهو بمنزلة السائق، کما ورد السائق أحیاناً بمعنی القائد. أضف إلی ذلک فان ساقة الجیش وردت بمعنی القسم الخلفی منه و فی هذه الحالة لاتکون جمع سائق.

علی کان حال فانّ العبارة تکشف عن دور الإمام علیه السلام فی زعامة جیش الإسلام وهزیمة جیش الکفر.

ص:285


1- 1) «حذافیر» جمع «حذفور» الجماعة الکثیرة، کما وردت بمعنی الجانب، إشارة إلی أنّ کل طوائف الباطل تولت وانتهت.
2- 2) حسب التفسیر الذی اوردناه فان الضمیر فی «ساقتها» و «قیادها» یعود إلی جیش الإسلام، بینما یعود إلی جیش الکفر فی حذافیرها بقرینة المقام.

ثم قال علیه السلام: «ما ضعفت، ولا جبنت، ولا خنت، ولا وهنت» فالواقع هو أنّ الهزیمة إنّما یفرزها أحد هذه العناصر الأربعة: الضعف الخوف، الخیانة والوهن.

والفارق بین الضعف والوهن هو أنّ الضعف یعنی العجز وعدم وجود القدرة، بینما هناک قدرة فی الوهن، غیر أنّ هناک مسامحة فی الاستعمال. وعلیه فلا یمکن العثور علی أی من هذه العناصر فی شخص الإمام علیه السلام، ومن هنا کان منتصراً علی الدوام.

ثم اختتم الخطبة بالقول: «وایم الله، لأبقرن الباطل حتی أخرج الحق من خاصرته» .

فالعبارة تفید وجود الحق فی الدنیا دائماً، وإن غطاه الباطل وعلیه فبقر الباطل وطرح حجابه یظهر منه الحق. و هی نقطة رائعة أشار إلیها الإمام علیه السلام بکلامه.

کلام السید الرضی:

قال السیّد الشرّیف الرّضی: وَقَدْ تَقَدَّمَ مُخْتَارُ هذِهِ الْخُطْبَةِ، إِلَا أنّنِی وَجَدْتَها فِی هذِهِ الرِّوایَةِ عَلَی خِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ زِیَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، فَأَوْجَبَتِ الْحَالُ إِثْبَاتَهَا ثَانِیَةً. (و هذا یکشف بدوره عن مدی دقة السید الرضی (ره) فی ذکر الخطب حیث لم یهمل حتی إختلاف الروایات) .

ص:286

الخطبة المأة و خمس

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

فی بعض صفات الرسول الکریم صلی الله علیه و آله وتهدید بنی أمیة وعظة الناس

نظرة إلی الخطبة

یتضح من عنوان الخطبة أنّها تشتمل علی ثلاثة أقسام:

القسم الأول فی ذکر بعض صفات الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله ویصرح الإمام علیه السلام فیه بأنّ الرسول صلی الله علیه و آله خیر الخلیقة طفلاً وأعظمها کهلاً. حیث هدف الإمام علیه السلام فی الواقع إلی لفت إنتباه الناس إلی أهمیة موروث النبی صلی الله علیه و آله و حفظ القرآن و الإسلام.

القسم الثانی یذم فیه بنی أمیة و یلفت إنتباههم إلی الدنیا التی أقبلت علیهم، ویحذرهم من غضب الله لما سفکوه من دماء بریئة، مؤکداً علی أنّ هذه الخلافة ستؤول قریبا إلی الاعداء.

القسم الثالث فی وعظ الناس ونصیحتهم بعدم الاستجابة للاهواء، والسعی لتحصیل العلم وعدم ترک الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

ص:287


1- 1) سند الخطبة، روی بعض هذه الخطبة المفسر المعروف علی بن ابراهیم المتوفی عام 307 فی المجلد الأول من تفسیره /384 ذیل الآیة «لیحملوا أوزارهم کاملة یوم القیامة» (سورة النحل /25) [1] عن الإمام الصادق علیه السلام. کما وری بعضها الشیخ المفید فی کتابه الارشاد /1600 وقد عاش کلاهما قبل السید الرضی (ره) .

ص:288

القسم الأول: صفات النبی صلی الله علیه و آله

«حَتّی بَعَثَ اللّهُ مُحَمَداً صَلَّی اللهُ عَلَیهِ وَآلِهِ، شَهِیداً وبَشیراً، وَنَذیراً، خَیرَ الْبَرِیَّةِ طَفْلاً، وَأنْجَبَها کَهْلاً، وأطْهَرَ الْمُطَهَّرینَ شِیمَةً، وَأَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِینَ دیمَةً» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی القسم الأول من هذه الخطبة إلی النعمة الوفیرة بظهور نبی الإسلام صلی الله علیه و آله وقد أثنی علی سبع من صفاته البارزة، فقال علیه السلام: (أن الناس کانوا فی هالة من الضلال) حتی بعث الله سبحانه محمداً صلی الله علیه و آله شهیدا علی أعمالهم وبشیراً (بالثواب الإلهی علی الأعمال الصالحة) ونذیراً (بین یدی عذاب شدید علی السیئات) وقد کان خیر الخلق طفلاً وانجبهم کهلاً، أخلاقه تفوق أخلاق الجمیع، وکرمه وسخاؤه لیس له من مثیل «حتی بعث الله محمداً صلی الله علیه و آله لشهیداً وبشیراً ونذیراً، خیر البریة طفلاً، وانجبها کهلاً (1)، وأطهر المطهرین شیمة (2)، وأجود المستمطرین دیمة» (3).

فصفة الشهید إشارة لما ورد فی الآیة الشریفة: «وَیَوْمَ نَبْعَثُ فِی کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیداً عَلَیْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِکَ شَهِیداً عَلی هؤُلاءِ» (4). وصفة البشیر والنذیر إشارة لما وردت کراراً فی الآیات القرآنیة کالآیة «إِنّا أَرْسَلْناکَ بِالحَقِّ بَشِیراً وَنَذِیراً» (5).

ص:289


1- 1) «کهل» متوسط العمر، وقیل تطلق علی من جاوز الثلاثین، ولا تعنی العجز.
2- 2) «شیمة» بمعنی الأخلاق وجمعها «شیم» .
3- 3) «دیمه» بکسر الدال المطر المستدیم الذی یخلو من الرعد والبرق.
4- 4) سورة النحل/89. [1]
5- 5) سورة البقرة/119. [2]

ثم تحدث الإمام علیه السلام عن طفولته صلی الله علیه و آله حیث کان متمیزاً فیها. حیث ورد فی مناقب ابن شهر آشوب عن ابن عباس أن النبی صلی الله علیه و آله کان یخالط الأطفال دون أن یأتی ببعض أعمالهم التی تستند إلی الجهل. کما ورد عن أبی طالب قوله: لم أعهد فیه کذبة ولم یتخلق بأخلاق الجاهلیة، و لم یضحک عبثا. کما یروی أن عبدالمطلب کان یفرش فی ظل الکعبة ولم یجلس علی فرشه أحد حتی یخرج سوی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و حین یحاول أعمامه إبعاده کان یرد علیهم عبدالمطلب: دعوه، فواللّه إن له لشأنا عظیما. (1)

و قد أنشد ابوطالب فی خلقه هذین البیتین: ولقد عهدتک صادقا

و العجیب ما روی أنه کان یکتفی بالثدی الأیمن من مرضعته حلیمة السعدیة و کأنه کان حریصا علی العدل لیترک الثدی الایسر لولد حلیمة. (2)

ثم أشار علیه السلام إلی نجابة النبی صلی الله علیه و آله وکرامته فی الکهولة؛ الأمر الذی یشهد به التأریخ، کما لایخفی علی أحد.

أماتواضعه ورأفته وفطنته وعفوه وصفحه فقد دوت فی أرجاء کافة المعمورة وهی أشهر من نار علی علم. کان یهب کل مالدیه للآخرین ویجود بالعطاء.

کان أسخی الجمیع بحیث لم یبق عنده دینار أو درهم، وان زاد لدیه شیء لم تکن تغمض عینیه دون أن یوصله إلی المحتاجین.

کان یکرم الفضلاء، و یجهد فی صلة الأرحام، وکان یقبل العذر ویصفح عن المسییء.

ص:290


1- 1) مناقب ابن شهر آشوب 1/34 - 37 ( [1]طبق نقل شرح نهج البلاغة للشوشتری 2/204) و [2]سیرة ابن هشام 1/178. [3]
2- 3) ابن شهر آشوب طبق نقل بحار الأنوار 15/332. [4]

القسم الثانی: زوال حکومة بنی أمیة

«فَمَا احْلَوْلَتْ لَکُمُ الدُّنْیا فِی لَذَّتِهَا، وَلَا تَمَکَّنْتُمْ مِنْ رَضَاعِ أَخْلَافِهَا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا صَادَفْتُمُوهَا جَائِلاً خِطَامُهَا، قَلِقاً وَضِینُهَا، قَدْ صَارَ حَرَامُهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ بِمَنْزِلَةِ السِّدْر الْمَخْضُودِ، وَحَلَالُهَا بَعِیداً غَیْرَ مَوْجُودٍ، وَصَادَفْتُمُوهَا، وَاللّهِ، ظِلّاً مَمْدُوداً إِلی أَجَلٍ مَعْدُودٍ. فَالأرْضُ لَکُمْ شَاغِرَةٌ. وَأَیْدِیکُمْ فِیهَا مَبْسُوطَةٌ؛ وَأَیْدِی الْقَادَةِ عَنْکُمْ مَکْفُوفَةٌ، وَسُیُوفُکُمْ عَلَیْهُمْ مَسَلَّطَةٌ، وَسُیُوفُهُمْ عَنْکُمْ مَقْبُوضَةٌ. أَلَا وَإِنَّ لِکُلِّ دَمٍ ثَائِراً، وَلِکُلِّ حَقٍّ طَالِباً وَإِنَّ الثَّائِرَ فِی دِمَائِنَا کَالْحَاکِم فی حَقِّ نَفْسِهِ، وَهُوَ اللّهُ الَّذِی لَایُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ، وَلَا یَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ. فَأُقْسِمُ بِاللّهِ، یَا بَنی أُمَیَّةَ، عَمَّا قَلِیلٍ لَتَعْرِفُنَّهَا فِی أَیْدِی غَیْرِکُمْ وَفِی دَارِ عَدُوِّکُمْ! أَلَا إِنَّ أَبْصَرَ الأبْصَارِ مَا نَفَذَ فِی الْخَیْرِ طَرْفُهُ! أَلَا إِنَّ أَسْمَعَ الأَسْمَاعِ مَا وَعَی التَّذْکِیرَ وَقَبِلَهُ!» .

الشرح والتفسیر

صرح أغلب شرّاح نهج البلاغة بأنّ هذا المقطع من الخطبة - والذی یبدو أنّ هناک حذف بینه وبین القسم الأول، جریا علی عادة السید الرضی فی اقتطاف بعض کلمات الإمام علیه السلام - فی بنی أمیة، والشاهد علی ذلک أن اسمهم ورد صراحة فی أواخر هذا القسم، بینما یری جمع من شرّاح نهج البلاغة أنّ المخاطب هو من تبقی من الصحابة والتابعین، وذیلها فی بنی أمیة، والعبارات التی استهل بها هذا القسم إنّما تؤید المعنی الثانی؛ لأنّ هذه العبارات تبین أن الإمام علیه السلام إنّما عاتب أفرادا لم یکن یتوقع منهم الانحراف عن جادة الحق، ونعلم أنّ بنی أمیة

ص:291

طائفة ظالمة طیلة التاریخ معروفة بانحرافها عن الإسلام. علی کل حال قال الإمام علیه السلام: «فما احلولت (1)لکم الدنیا فی لذتها، ولا تمکنتم من رضاع اخلافها (2)إلّامن بعد ما صادقتموها جائلا (3)خطامها، (4)قلقا (5)وضینها (6)» .

المراد أنّکم تکالبتم علی لذات الدنیا وزخارفها فی عهد عثمان وبعد الفتوحات الإسلامیة والتطاول علی بیت المال، وهذا ماجعلکم تبتعدون عن الله، فقد انهمک الحکام بجمع الثروات، بینما انشغلت الاُمّة بدنیاها ولذاتها.

ومن هنا قال علیه السلام أنّ حرام الدنیا أصبح سهلاً یسیراً کالسدر الخالی من الشوک، بینما أصبح الحلال بعیداً غائباً: «قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السدر المخضود، وحلالها بعیداً غیر موجود» ، فقد انهال البعض علی بیت المال فنهب ماشاء، ثم اتسعت هذه الأموال الحرام بین الناس.

العبارة «السدر المخضود» إشارة إلی أن نهی الله وتحریمه کالشوک تجاه لذات الدنیا المحظورة، أمّا الأفراد من عدیمی الورع والتقوی فهم لایکترثون للنواهی الإلهیة، والحرام عندهم کالسدر المخضود، وقد صرح ارباب اللغة أنّ شجرة السدر أنواع، لبعضها ثمار شدیدة الحلاوة فواحة العطر تفیض رائحته علی ید الإنسان وثیابه إذا ما تناول منه. (7)

نعم فاصحاب الدنیا یبتلعون الأموال الحرام وکأنّها ثمار لذیذة کالسدر المنضد الذی قطع شوکه، ولا یلتفتون إلی أوامر الله ونواهیه، وبالطبع فانّ الحرام إنّما ینتشرویعم مثل هذا الوسط فلا یبقی للحلال من مکان.

ص:292


1- 1) «احلولت» أصبحت حلوة من مادة «حلو» .
2- 2) «اخلاف» جمع «خلف» علی وزن جلف حلمة ضرع الناقة.
3- 3) «جائل» من مادة «جولان» تعنی فی الأصل إزالة الشی من مکانة، وتطلق علی الحیوان الذی ینزل عنانه وینطلق اینما یشاء.
4- 4) «خطام» ما یوضع فی أنف البعیر لیقاد به.
5- 5) «قلق» من مادة «قلق» الاضطراب وتحریک الشیء.
6- 6) «وضین» بطان عریض منسوج من سیور أو شعر یکون للرحل کالخرام للسرج.
7- 7) لسان العرب، مادة سدر.

ثم قال علیه السلام: «وصاد فتموها والله، ظلاً ممدوداً إلی أجل معدود، فالأرض لکم شاغرة (1)، وأیدیکم فیها مبسوطة؛ وأیدی القادة عنکم مکفوفة، وسیوفکم علیهم مسلطة، وسیوفهم عنکم مقبوضة» .

فهذه العبارات تبیّن أنّ الکلام هنا بخصوص فریق من المؤمنین من بقیة الصحابة والتابعین الذین لم یتمالکوا أنفسهم حین الاختبار الإلهی، فیمیلون حیثما مالت الریح.

فقد شغلتهم الدنیا وغرتهم بزینتها وزخرفها وبالطبع قد حصل هذا فی وقت لم یسع الإمام علیه السلام حتی فی زمان حکومته أن یصدهم عنه؛ وذلک لأنّهم غرقوا فی هذه الدنیا علی عهد عثمان بالشکل الذی لم یبق معه من أمل لانقاذهم بسهولة.

ثم هددهم علیه السلام لیعلموا أن المسألة لیست بهذه السهولة وهناک الحساب الذی ینتظرهم، محذرهم قائلاً: اعلموا أنّ لکل دم شائراً، ولکل حق طالباً: «ألا وإن لکل دم ثائراً، (2)ولکل حق طالباً، وإن الثائر فی دمائنا کالحاکم فی حق نفسه، وهو الله الذی لایعجزه من طلب، ولا یفوته من هرب» .

فاذا تأخر العذاب والانتقام الإلهی عن بعض العصاة المردة الذین یجاهرون بجنایاتهم، فهذا لایعنی نسیان هذه الأعمال الشائنة، أو قدرة هؤلاء الجناة علی الفرار من مخالب العدل الإلهی.

والعبارة «إن الثائر فی دمائنا. . .» تعنی أنّ الثائر لدمائنا أهل البیت والتی تسفک بغیر حق هو الله سبحانه وتعالی، فهی تسفک فی سبیل الله ومن أجل إعلاء کلمته، فلا تشتمل هذه الدماء علی جانب شخصی أو قبلی، وقطعاً أن مثل هذا الثائر لایعجزه شیء، ولایفوته شیء وهو بالمرصاد.

ص:293


1- 1) «شاغرة» من مادة «شغور» خالیة.
2- 2) «ثائر» من مادة «ثأر» علی وزن قعر «وقد بُدلت الهمزة بألف. و «ثأر» تقرأ علی وزن غار. وفی الاصل جاءت بمعنی الثأر والانتقام، وتأتی أحیانا بمعنی الدم، وهو کنایة عن الثأر أیضاً. وتعبیر «ثاراللّه» اُطلق علی الإمام الحسین والإمام علی علیهما السلام «یا ثاراللّه وابن ثاره» ، ومعنی ذلک ان ثأر هذین الامامین لا یتعلق بعائلة او قبیلة، بل یرتبط باللّه سبحانه وتعالی وبکل بنی الانسان فی هذا العالم.

ثم حذر بنی أمیة قائلاً: «فاقسم بالله، یا بنی أمیة، عما قلیل لتعرفنها فی أیدی غیرکم وفی دار عدوکم» .

إیّاکم والظن بأنّکم أن سفکتم دماء الأبریاء ولم ترحموا صغیراً وتوقروا کبیراً، ورسختم دعائم حکومتکم علی الظلم والعدوان ونهب الأموال وقتل الناس، فانّ هذه الحکومة دائمة لکم! فسرعان ما ینهض لکم الأعداء ویسددوا لکم ضرباتهم الماحقة حتی یطیحوا بحکومتکم ویقضوا علیکم، بل سوف لن یرحموا حتی موتاکم، فسیخرجونهم من قبورهم ویحرقون أجسادهم.

ویشیر التأریخ إلی تحقق کل ما أخبر به الإمام علیه السلام، وقد مر شرح ذلک فی الخطبة 87. (1)

ثم إختتم الکلام بقوله علیه السلام: «ألا إنّ أبصر الأبصار ما نفذ فی الخبر طرفه! ألا إنّ أسمع الاسماع ما وعی التذکیر وقبله» .

أی إن کان لکم بصر وسمع مفتوح، لم تعد علیکم من صعوبة فی الظفر بسبیل الخیر والسعادة، غیر أنّه لمن المؤسف أن أهوائکم النفسیة وطغیانکم قد غطی أبصارکم وأسماعکم بالحجب، بحیث لایسعکم رؤیة الحق ولاسماع المواعظ.

جدیر ذکره سئل بعض شیوخ بنی أمیة عقیب زوال الملک عنهم:

ما کان سبب زوال ملککم؟ فقال: جار عمالنا علی رعیتنا، فتمنوا الراحة منا، وتحومل علی أهل خراجنا فجلوا عنا، وخربت ضیاعنا فخلت بیوت أموالنا، ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم علی منافعنا، وأمضوا أموراً دوننا، أخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم عنا، واستدعاهم عدونا فظافروه علی حربنا، وطلبنا أعداءنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا، وکان استتار الأخبار عنّا من أوکد أسباب زوال ملکنا. (2)

ونری هنا یوضوح عمق ما أخبر به الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة.

ص:294


1- 1) المجلد الثالث من هذا الکتاب فی الخطبة 87؛ ج 4 الخطبة 93.
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/136. [1]

القسم الثالث: التمسک بالإمام

«أَیُّهَا النَّاسُ، اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاحٍ وَاعِظٍ مُتَّعِظٍ، وَامْتَاحُوا مِنْ صَفْوِ عَیْنٍ قَدْ رُوِّقَتْ مِنَ الْکَدَرِ.

عِبَادَ اللّهِ، لَاتَرْکَنُوا إلَی جَهَالَتِکُمْ، وَلَا تَنْقَادُوا لاَِهْوَائِکُمْ، فَإِنَّ النَّازِلَ بِهذَا الْمَنْزلِ نَازِلٌ بِشَفَا جُرُفٍ هَار، یَنْقُلُ الرَّدَی عَلَی ظَهْرِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَی مَوْضِعٍ، لِرَأْیٍ یُحْدِثُهُ بَعْدَ رَأْی؛ یُرِیدُ أَنْ یُلْصِقَ مَا لَایَلْتَصِقُ، وَیُقَرِّبَ مَا لَا یَتَقَارَبُ! فَا للّهَ اللّهَ أَنْ تَشْکُوا إلَی مَنْ لَایُشْکِی شَجْوَکُمْ، وَلَا یَنْقُضُ بِرَأْیِهِ مَا قَدْ أَبْرَمَ لَکُمْ» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام علیه السلام هنا فی نصح الناس ووعظهم فقال فی البدایة لإعداد أنفسهم: «أیّها الناس، استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعظ، وامتاحوا (1)من صفو عین قد روقت (2)من الکدر» .

کما أنّ الاشارات الضوئیة تنیر للإنسان طریقه إذا مشی لیلاً فی الظلام وتقیه الوقوع فی المطبات أو أن یضل الطریق، فانّ نصائح الواعظ المتعظ تصون الإنسان فی مسیرته وسلو که المعنوی والفکری والأخلاقی من الانحرافات العقائدیة، وکما أنّ الماء الزلال والخالی من الکدر هو مادة حیاة جسم الإنسان وسائر الکائنات الحیة؛ کذلک نصائح دعاة الحق تشکل مادة حیاة روح الإنسان ونفسه.

ومن الواضح أنّ المراد بهذا الواعظ المتعظ الذی ینبغی الاستصباح من شعلته والتروی من

ص:295


1- 1) «امتاحوا» من مادة «متح» سحب الدلو من بئر الماء.
2- 2) «روقت» من مادة «روق» علی وزن فوق بمعنی صفیت، فتأنی بمعنی التصفیة إذا حملت علی باب التفعیل.

صفو عینه هو الإمام علیه السلام الذی وظفت الناس بالتمسک به والاستفادة منه: أمّا للأسف لم یفعلوا واننا لنهتدی الیوم بما وصلنا من کلماته علیه السلام ونستقی من عینه الصافیة.

ثم واصل علیه السلام کلامه بخطاب کافة عباد الله وحذرهم من الجهل والهوی والأفکار الباطلة المنحرفة.

فقال علیه السلام: «عبادالله، لاترکنوا إلی جهالتکم، ولا تنقادوا لأهوائکم» ثم بین علیه السلام دلیل ذلک قائلاً: «فان النازل بهذا المنزل نازل بشفاً (1)جرف هار، ینقل الردی علی ظهره من موضع إلی موضع» ، ثم قال علیه السلام: «لرأی یحدثه بعد رأی؛ یرید أن یلصق ما لا یلتصق، ویقرب ما لا یتقارب» .

فقد بین الإمام علیه السلام بهذه العبارات البلیغة حقیقة مهمّة وهی أنّ أحد مصادر الضلال إنّما یکمن فی الاستناد إلی الاوهام والظنون الباطلة والآراء الفاسدة البعیدة عن البرهان والدلیل.

وقد شبههم الإمام علیه السلام بحافة النهر حیث یتمتعون بظاهر خلاب، فی حین یستبطن الخلاء والجوفیة! فاذا وطی الجهال تلک الحافة هووا فی القعر.

ثم خلص الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة: «فالله الله أن تشکوا إلی من لا یشکی شجوکم (2)، ولا ینقض برأیه ما قد أبرم لکم» .

ولعل هذه العبارة إشارة إلی أن أحد منابع الجهل وعدم العلم والوقوع فی متاهات الظنون الباطلة إنّما یتمثل باستشارة غیر الاکفاء من الأفراد الذین یفتترون إلی الفکر السلیم والرأی القاطع والاطلاع الکافی واللازم للتغلب علی المشاکل والصعوبات، فاذا ما استشیر حمل معه من استشاره إلی وادی الضلال والهلکة.

کما یحتمل أن تکون إشارة إلی ضرورة عدم الاغترار بالقدرات الکاذبة والجبارة التی لا تفکر سوی فی تحقیق أطماعها ومآربها (کبنی أمیة) . وعلیه فلا ینبغی لهم الاستعانة بهؤلاء من أجل حل مشاکلهم. فهم لیسوا فقط غیر قادرین علی حل هذه المشاکل فحسب، بل غالباً ما یسهمون فی مضاعفة هذه المشاکل.

ص:296


1- 1) «شفا» حافة الشیء وتعنی فی الأصل حافة البئر والنهر، و «الهار» من «هور» علی وزن غور بمعنی المتهدم أو المشرف علی الانهدام.
2- 2) «شجو» الهم والغم (ولهذه المفردة معنی المصدر واسم المصدر) .

القسم الرابع: وظائف الإمام والاُمّة

«إنَّهُ لَیسَ عَلَی الإمَامَ إِلَّا مَا حُمِّلَ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ: ألإِ بْلَاغُ فِی الْمَوْعِظَةِ، وَالاِجْتِهَادُ فِی النَّصِیحَةِ، وَالإِحْیَاءُ لِلسُّنَّةِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَی مُسْتَحِقِّیهَا، وَإصْدَارُ السُّهْمَانِ عَلَی أَهْلِهَا. فَبَادِرُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْوِیحِ نَبْتِهِ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تُشْغَلُوا بِأَنْفُسِکُمْ عَنْ مُسْتَثَارِ الْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ، وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْکَرِ وَتَنَاهَوْ عَنْهُ، فَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ بالنَّهْی بَعْدَ التَّنَاهِی!» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا الموضع من الخطبة إلی الوظائف الخمس لإمام المسلمین و وظائف المسلمین فذکر بعض الاُمور المهمة بهذا الشأن، وکأن ما أورده الإمام علیه السلام سابقاً یدعو إلی سؤال یقتدح فی الاذهان، وهو أننا إذا وقعنا فی وادی الجهل أو شکونا ما یحل بنا لغیر أهله، فذلک لأنّ الإمام لم یأخذ بایدینا ویهدینا ویدلنا علی الطریق.

فقد ردّ الإمام علیه السلام علی مثل هذا السؤال المقدّر بالقول: «إنّه لیس علی الإمام إلّاما حمل من أمر ربّه» .

والوظائف الملقاة علی عاتقه هی:

1 - الوعظ لعامة الناس «الا بلاغ فی الموعظة» .

2 - الجد والاجتهاد فی الخیر والنصح «والاجتهاد فی النصیحة» .

3 - «والإحیاء للسنة» .

4 - «وإقامة الحدود علی مستحقیها» .

ص:297

5 - «واصدار السهمان (1)علی أهلها» .

هذه هی وظائف حاکم المسلمین. فعلیه أن یوصل الأحکام الإسلامیة کاملة إلی الاُمّة بحیث یخرج من نشد الحق عن الجهل والضلال ولا یبقی له من عذر فی الجهل بهذه الأحکام. هذا من جانب.

ومن جانب آخر: یسعی ویجتهد من أجل خیر المسلمین وإصلاح أوضاعهم الدینیة والدنیویة والاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة.

ومن جانب ثالث: أن یسعی لاحیاء السنة النبویة والأحکام الشرعیة من خلال الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، أو سائر الوسائل.

ومن جانب رابع: إجراء الحدود بحق المستحقین دون التمییز بین أحد وآخر والتساهل فی إقامتها بهدف منع الجرائم والجنایات.

ومن جانب خامس: دفع حقوق المستحقین والمحتاجین من بیت المال.

فاذا فعل امام المسلمین ذلک فقد أدی دینه تجاه عبادالله، فان کان هناک من اشکال واضطراب فانّما یعود إلی الناس.

ثم خاض علیه السلام فی وظائف الاُمّة لیوجزها فی ثلاث، تعلم العلم من قبل أن تجف شجرته، وقبل أن ینشغلوا بأنفسهم ویتلوثوا بالدنیا، کما علیهم أن یستقوا هذا العلم من منابعه: «فبادروا العلم من قبل تصویح (2)نبته، ومن قبل أن تشغلوا بأنفسکم عن مستثار (3)العلم من عند أهله» .

ولعل المراد بجفاف شجرة العلم شهادته علیه السلام، والمراد شخصه علیه السلام أیضاً بمرکز فیض العلم - ومن هنا فقد لفت انتباههم إلی ضرورة السؤال والاستفسار مادامه علیه السلام بینهم.

والعبارة تشبه تلک التی أطلقها علیه السلام أواخر عمره الشریف: «سلونی قبل أن تفقدونی» (4).

کما یحتمل ان یکون المراد بهذه العبارة جفاف شجرة وجود الإنسان، لأنّ الإنسان لایمتلک

ص:298


1- 1) «سهمان» علی وزن لقمان جمع «سهم» الحظ والنصیب.
2- 2) «تصویح» جفاف النبات.
3- 3) «استثار» من مادة «استیثار» بمعنی الاستثارة والنشر.
4- 4) نهج البلاغة، الخطبة، 93.

القدرة الکافیة علی تناول العلم فی أی سن وعمر وینسجم هذا الاحتمال والعبارة القادمة، لأنّ الإنسان کلما تقدم به العمر ازدادت مشاکله وهمومه، کما یقل استعداده - کما یمکن الجمع بین الاحتمالین.

ثم أشار إلی الوظیفة الثانیة والثالثة للاُمّة بالقول: «وانهوا عن المنکر وتناهوا عنه، فانّما أمرتم بالنهی بعد التناهی» .

وعلیه فوظیفة الناس أولاً: ان یرفع من مستواه العلمی ویزید من معارفه، لأنّ الجهل من عوامل التخلف.

وثانیاً: الجد فی امتثال أوامر الله وعدم نسیان وظیفة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر التی تعد وظیفة عامة. والحق أنّ السعادة ستعم الاُمّة لو عملت بوظائفها ونهض أئمة المسلمین بوظائفهم.

وقد برز سؤال بین شرّاح نهج البلاغة - وهو السؤال الذی یتبادر إلی ذهن کل متتبع - وهو؛ کیف اشترط الإمام علیه السلام النهی عن المنکر بانتهاء، الشخص عنه فقال: «فانما أمرتم بالنهی بعد التناهی» ؟ رد ابن أبی الحدید علی هذا السؤال بالقول: لم یرد علیه السلام أنّ وجود النهی عن المنکر مشروط بانتهاء ذلک الناهی عن المنکر، وإنّما أراد: أنی لم آمرکم بالنهی عن المنکر إلّا بعد أن أمرتکم بالانتهاء عن المنکر. (1)

بینما اعتبر الشارح الخوئی هذا الرد تکلفاً وقال: الأفضل أن یقال للسائل: أنّه علیه السلام أوجب الأمرین (دون اشتراط أحدهما بالآخر) والعبارة الأخیرة إشارة إلی الانتهاء عن المنکرات التی أکدت اکثر عن وجوب النهی عن المنکر. لانّ اصلاح النفس مقدم علی اصلاح الآخرین. (2)

إلّا أنّ الأفضل أن یقال: إنّ الانتهاء عن المنکر لشرط کمال النهی عنه، لا شرط وجوبه، لأنّ الإنسان حین یرتکب الذنب ویرید نهی الآخرین عنه، سوف لن یکون لکلامه من تأثیر، ولو علم الناس منه ذلک لسخروا منه وقالوا: «طبیب یعالج الناس وهو علیل» .

ص:299


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/170. [1]
2- 2) شرح نهج البلاغة للمرحوم الخوئی 7/251.

ومن هنا أکد أئمة الدین علیه السلام أننا لا ننهاکم عن شیء حتی ننتهی عنه قبلکم.

فقد قال أمیرالمؤمنین علیه السلام: «أیها الناس، إنی والله ما أحثکم علی طاعة إلّاوأسبقکم إلیها، ولا أنهاکم عن معصیة إلّاوأتناهی قبلکم عنها» (1).

ص:300


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 175. [1]

الخطبة المأة وست

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

وفیها یبین فضل الإسلام ویذکر الرسول الکریم صلی الله علیه و آله ثم یلوم أصحابه

نظرة إلی الخطبة

کما یتضح من عنوان الخطبة أنّها تتألف من ثلاثة أقسام:

القسم الأول: یتحدث عن أهمیة الإسلام وبرکاته وآثاره والترکیز علی بعض النقاط المهمة بهذا الشأن.

القسم الثانی: یتحدث عن شخصیة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله بعبارات قصار عمیقة المعنی، ثم یختتمه بالدعاء للنبی صلی الله علیه و آله وعامة المؤمنین.

القسم الثالث: یلوم أصحابه علی سکوتهم علی الظلم والفساد رغم ما آتاهم من النعم، والسماح لهؤلاء الظلمة بانتهاک الحرمات. و ممارسة کل ما یحلو لهم من أعمال.

وجاء فی بعض الرّوایات أن رجلاً سأل أمیرالمؤمنین عن الإسلام والإیمان والکفر والنفاق فخطب علیه السلام بهذه الخطبة. وفی خبر عن الاصبغ بن نباتة أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام خطبها فی داره أوفی دار الامارة ثم أمر بکتابتها. (2)

ص:301


1- 1) سند الخطبة: ورد فی مصادر نهج البلاغة سنذکر مدارک هذه الخطبة فی ذیل الکلمات القصار (الکلمات 30، 31، 26، 268) ویبدو انها فی خطبة واحدة للإمام علیه السلام (فصلها المرحوم السید الرضی (ره)) ، ولکن لیس لدنیا مدارک واضحة لما نقله المصادر. والذی یستفاد من کتاب المستدرک والمدارک لنهج البلاغة ان جانب من هذه الخطبة ورد فی کتاب اصول الکافی وجانب آخر منها فی الامالی للطوسی (من اول الخطبة إلی العبارة والجنّة سبقته) .
2- 2) شرح نهج البلاغة للشوشتری 12/339. [1]

ص:302

القسم الأول: خصائص الإسلام

اشارة

«الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذی شَرَعَ الإسْلَامَ فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ، وَأَعَزَّ أَرْکَانَهُ عَلَی مَنْ غَالَبَهُ، فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَکَلَّمَ بِهِ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ عَنْهُ، وَنُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ، وَفَهْماً لِمَنْ عَقَلَ، وَلُبّاً لِمَنْ تَدَبَّرَ، وَآیَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَتَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ، وَعِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ، وَنَجَاةً لِمَنْ صَدَّقَ، وَثِقَةً لِمَنْ تَوَکَّلَ، وَرَاحَةً لِمَنْ فَوَّضَ، وَجُنَّةً لِمَنْ صَبَرَ، فَهُوَ أَبْلَجُ الْمَاهجِ، وَأَوْضَحُ الْوَلَائِجِ؛ مُشْرَفُ الْمَنَارِ، مُشْرِقُ الْجَوَادِّ، مُضِیءُ الْمَصَابِیحِ، کَرَیمُ الْمِضْارِ، رَفِیعُ الْغَایَةِ، جَامِعُ الْحَلْبَةِ، مُتَنَافِسُ السُّبْقَةِ، شَرِیفُ الْفُرْسَانِ. التَّصْدِیقُ مِنْهَاجُهُ، وَالصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ، وَالْمَوْتُ غَایَتُهُ، وَالدُّنْیَا مِضْمارُهُ، وَالْقِیَامَةُ حَلْبَتُهُ، وَالْجَنَّةُ سُبْقَتُهُ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة ضمن الخطبة 26 إلی الخصائص المهمة للإسلام والممیزات التی ینطوی علیها بعبارات قصیرة ذات معان عمیقة. وکما أوردنا سابقاً - نظرة إلی الخطبة - أنّ الإمام علیه السلام خطب بهذه الخطبة فی المسجد لعامة الناس، رداً علی من سأله عن خصائص الإسلام والکفر والإیمان والنفاق. فقد استهل علیه السلام خطبته بحمد الله والثناء علیه قائلاً: «الحمد لله الذی شرع الإسلام فسهل شرائعه لمن ورده» . حیث نعلم أن الشریعة تعنی الطریق الذی یشقه الناس إلی جانب الأنهار الکبیرة نحو الماء لستفید منه الناس.

فقد بین الإمام علیه السلام أنّ الإسلام أشبه بالنهر العظیم و وصف طرق الوصول إلیه بأنها سهلة

ص:303

یسیرة. کما أنّ اعتناق الإسلام سهل یخلو من أی تکلف؛ فیکفی فیه أن ینطق الإنسان من صمیم قلبه بالشهادتین لیخرج من صف الکفر والنفاق ویلتحق بصفوف المسلمین والمؤمنین، کما أنّ البرامج الإسلامیة هی الاُخری سهلة یسیرة سمحاء، فهناک الأدلة من قبیل «لاضرر» و «نفی الحرج» التی رفعت أی تکلف وثقل عن کاهل الإنسان! کما منحت الاصالة فی الشرع للبراءة وحمل أفعال الآخرین علی الصحة. کما رفضت أی إکراه أو إجبار، کما حکم ببطلان کافة العقود التی تبرم علی أساس إلاکراه والاجبار والاضطرار. کما صرحت ببعض الواجبات التی لاتدعو إلی المشقة والعسر والحرج. وزبدة الکلام فقد قال النبی صلی الله علیه و آله: «بعثت إلیکم بالحنیفیة السمحة السهلة البیضاء» (1).

إلّا أن لسهولتها لا تعنی قدرة أرباب السوء علی السیطرة علیها والتغلب علیها، ومن هنا قال: «وأغر أرکانه علی من غالبه» ، ثم بحکم: «أَشِدّاءُ عَلی الکُفّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ» (2)فانّ المسلمین مکلفون بالقوة والشدة تجاه الأعداء والرحمة والرأفة ازاء المؤمنین.

ثم واصل ذکر الصفات الاُخری للإسلام کونه ملاذاً آمناً لمن لجأ إلیه من الأفراد وسلاماً وأمناً لمن دخل حصنه وولج حریمه، ودلیلاً وبرهاناً قاطعاً لمن اعتمده فی منطقه، وحجة دامغة لمن احتج به علی خصمه: «فجعله آمناه لمن علقه (3)، وسلماً لمن دخله، وبرهاناً لمن تکلم به، وشاهداً لمن خاصم به» .

نعم فالمسلمون جمیعاً یتمتعون بالأمن قاطبة دون استثناء فی الإسلام، وأسسه ودعائمة رصینة قویة تدعو دعاة الحق للاستدلال بها، کما تسوقهم للدفاع عنها تجاه خصوم الدعوة وأعدائها.

ثم قال علیه السلام فی ذکره لعدة صفات أخری: «ونوراً لمن استضاء به، وفهماً لمن عقل، ولباً لمن تدبر» ، فبلوغ الحقیقة یمر عبر ثلاث مراحل: الظفر بموقعها ومن ثم إدراکها وفهمها وأخیراً تحلیلها بصورة دقیقة. وقد بین الإمام علیه السلام هذه المراحل الثلاث بالعبارات الثلاث

ص:304


1- 1) بحار الانوار 65/346. [1]
2- 2) سورة الفتح/29. [2]
3- 3) «علق» من مادة «علوق» التعلق بالشیء والالتصاق به.

المذکورة، فقال أولاً أنّ الإسلام نور یستقطب نحوه الأفراد لیصلوا إلیه. ثم قال: إنّ من تعقله سید رکه ویفهمه. وأخیراً من تدبر بلغ حقیقته.

والحق أنّ الإسلام یتمتع بکل هذه الصفات، فالقرآن الذی تکفل بشرح الإسلام وتوضیحه إنّما یستند علی الدوام إلی الدلیل والبرهان والمنطق والعقل؛ الأمر الذی نلمسه بوضوح فی الآیة 15 و16 من سورة المائدة: «قد جاءکم من اللّه نور و کتاب مبین* یَهْدِی بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَیُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلی النُّورِ بِإِذنِهِ وَیَهْدِیهِمْ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ» .

ثم قال علیه السلام: «وآیة لمن توسم، وتبصرة لمن عزم، وعبرة لمن اتعظ» ، توسم من مادة وسم وضع العلّامة، والمتوسم تطلق علی من یفهم الواقعة من خلال أبسط أثر أو علامة، وهی الفراسة التی ذکرها القرآن فی الآیة الشریفة: . «إِنَّ فِی ذ لِکَ لَآیاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِینَ» (1). فعبارته فی الواقع إشارة إلی أمور مهمة و ظریفة فی القرآن یدرکها ممن تحلی بالفراسة.

ثم واصل علیه السلام ذکره لسائر صفات الإسلام بصفته وسیلة النجاة لمن صدق به، والاطمئنان والثقة لمن استند إلیه وتوکل علیه، کما یغرق الإنسان بالهدوء والراحة إذا ما وکلّ أعماله إلیه وهو الجنّة الواقیة لمن استقام وصبر: «ونجاة لمن صدق، وثقة لمن توکل، وراحة لمن فوض، وجنّة لمن صبر» .

فالعبارة تتحدث عن أربع فضائل أخلاقیة هی: التصدیق والتوکل والتفویض والصبر.

فتصدیق الإسلام فی الاعتقاد والعمل إنّما یودی بلا شک إلی النجاة، کما أن الاعتماد علی المعارف الإسلامیة یقود إلی الاطمئنان بالمستقبل والحاضر للدنیا والآخرة، وتفویض الاُمور إلی اُصول الإسلام وفروعه بمعنی الحرکة فی ظله هی سبب الهدوء والسکینة والاستقرار والراحة، وأخیراً فان الصبر والاستقامة فی هذه المسیرة وتحمل الشدائد فی سبیل حفظ العقیدة والعمل علی ضوء أحکام الشریعة إنّما تجعل الفرد فی جنّة وثیقة تجاه الاُمور التی تهدد سعادته أو سعادة المجتمع.

ص:305


1- 1) سورة الحجر/75. [1]

والواقع هو أنّ الإنسان إنّما یطلب النجاة والاطمئنان والهدوء والراحة والأمن؛ وهی الاُمور التی لاتحصل الأمن خلال العمل بالبرامج الإسلامیة وعلی ضوء التعالیم السماویة.

ثم تطرق علیه السلام إلی خمس صفات اُخری تمثل فی الواقع النتیجة لما سبق من أوصاف، وهی أنّ طرق الإسلام أوضح الطرق ومداخلها من أظهر المداخل، وعلاماتها جلیة ظاهرة، ومسالکها بینه منیرة «فهو أبلج (1)المناهج (2)وأوضح الولائج (3)؛ مشرف المنار (4)مشرق الجواد (5)، مضییء المصابیح» .

فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام رسم هنا صورة للجادة التی تضم کافة الامتیازات.

فهی علی درجة من الوضوح بحیث یبلغها کل شخص بسهولة. ولها أبواب متعددة ماثلة امام اصحاب الحق واضحة لدیهم. وتتطلب هذه الجادة بعض العلامات التی تبدو من بعید؛ وهذه فی الواقع جادة الإسلام.

(فقد کانوا یعمدون فی السابق إلی بناء الأبراج فی الطرق ثم ینصبون المصابیح فوقها لتبدو للعیان من مسافات بعیدة وتحول دون ضلال الطریق ویطلقون علیها اسم المنار؛ أی موضع النور، إلّاأنّ المعنی الواسع لهذه الکلمة یشمل جمیع العلامات التی تمنع السالکین من الانحراف) .

ولعل هذه العبارات کنایة عن محکمات الآیات القرآنیة وصریح السنة النبویة والمعجزات والکرامات وأدلة العقل والنقل التی تضیئی معالم الطریق للموحدین السائرین علی هدی الإسلام.

ثم شبه علیه السلام الإسلام بالمسابقة التی تمثل أرکانها ذروة الحسن والکمال.

فللمسابقة عادة بعض الأرکان من قبیل:

1 - میدان التمرین 2 - نقطة انتهاء المسابقة 3 - الخیل الجاهزة 4 - الجائزة الکبیرة 5 - الفرسان النجباء.

ص:306


1- 1) «أبلج» من مادة «بلوج» علی وزن بلوغ واضح ونیر.
2- 2) «المناهج» جمع «منهج» الطریق الواضح والمستقیم.
3- 3) «ولائج» جمع «ولیجة» من مادة «ولوج» بمعنی الدخول فولائج أبواب الدخول.
4- 4) «مشرف» من مادة «اشراف» بمعنی المرتفع.
5- 5) «جواد» جمع «جادة» الطریق الواسع الواضح، کما تطلق علی مطلق الطریق.

فقال علیه السلام أنّ میدان السباق الإسلامی طاهر مطهر وکریم، ونقطة انتهاء السباق هی نقطة رفیعة سامیة، وفرسان هذه المسابقة معروفون بالاصالة والاستعداد، أمّا الجائزة المترتبة علی هذه المسابقة فهی عظیمة للغایة، وأهلها من النجباء «کریم المضمار (1)، رفیع الغایة، جامع الحلبة (2)، متنافس (3)، السبقة (4)، شریف الفرسان» .

ثم أضاف علیه السلام بأنّ التصدیق والیقین هو سبیل (الوصول إلی الأهداف) الإسلام، وعلامة ذلک الأعمال الصالحة (فالواقع هو أنّ الإیمان والعمل الصالح هما العنصران الذان یؤدیان إلی الفوز فی هذا السباق) .

«التصدیق منهاجه، والصالحات مناره» .

ثم اختتم علیه السلام کلامه بالقول: «والموت غایته، والدنیا مضماره، والقیامة حلبته، والجنّة سبقته» . لیشخص بصورة جزئیة ما ورد سابقاً بنحو الکلیة.

أمّا عدم ذکر فرسان المسابقة فلوضوح الأمر؛ فهم لیسوا سوی المؤمنین من ذوی الأعمال الصالحة.

وقد مرعلینا مثل هذا التشبیه الرائع مع إختلاف طفیف فی الخطبة 28 إذ قال علیه السلام: «ألا وإنّ الیوم المضمار، وغدا السباق، والسبقة الجنّة والغایة النار» .

تأمّلان

1 - منزلة الدنیا والآخرة فی النظرة الإسلامیة

تمثل الدنیا بالنسبة لطلابها ولاولئک الذین ینکرون الآخرة علماً أو عملاً منتهی الطموح والهدف، وعلیه فهم یضحون بکافة القیم و المثل من أجلها.

ولعل البؤس والشقاء الذی یعیشه المجتمع العالمی هو ولید هذا النوع من التفکیر. أمّا

ص:307


1- 1) «المضمار» موضع تضمیر الخیل وزمان تضمیرها.
2- 2) «الحلبة» من مادة «حلب» علی وزن قلب خیل تجمع من کل صوب للنصرة کما تطلق علی حلب اللبن من الحیوان، ثم اطلقت علی الخیل التی تتسابق فی المیدان.
3- 3) «متنافس» من مادة «تنافس» سعی الإنسان للحصول علی شیء نفیس.
4- 4) «سبقة» جزاء السابقین.

الإسلام فهو لایری الدنیا سوی مرحلة عابرة ومقدمة للآخرة، حتی وردت الروایات والأخبار التی شبهتها بالمزرعة والقنطرة والمتجر (وقد مر شرح ذلک فی الخطبة 28) .

أمّا فی هذه الخطبة والبعض الآخر من خطب نهج البلاغة فقد شبهت الدنیا بمیدان التمرین والآخرة بمیدان السباق؛ وهو تشبیه رائع غایة فی الدقة والروعة. فالإنسان إنّما یتزود بالقوة والقدرة فی هذا المیدان بواسطة التعالیم العقائدیّة والتربویة والأخلاقیة، بما یمکنه من إجتیاز مسابقة الاُخری بسرعة لدخول الجنّة والفوز برضوان الله وقربه. والتصدیق الذی ورد فی الخطبة بصفته المنهاج والصالحات بصفتها المنار إنّما یشیران إلی هذه التربیة والتعلیم الربانی.

فالذی نستفیده من هذا التشبیه مایلی!

1 - أنّ السعادة والنجاة فی الآخرة لیست عبثاً؛ بل تتأتی فی ظل البناء الفکری والأخلاقی والعقائدی.

2 - إنّما تغلق صحیفة الأعمال بانتهاء الدنیا، والقیامة یوم حساب ولا عمل، کما أنّ میدان المسابقة للسباق لا للتمرین.

3 - جائزة هذه المسابقة من أعظم الجوائز، وذلک لان هذه المسابقة من أعظم المسابقات

4 - یعتمد تفاوت واختلاف درجات الناس ومقاماتهم علی أعمالهم وعقائدهم وأخلاقهم. فقد یدخل الإنسان الجنّة إلّاأنّ درجته تختلف عن غیره، علی غرار الفائزین فی السباق، فهناک الفائز الأول والثانی والثالث وهکذا.

5 - لیس هنالک أی عمل من أعمالنا فی هذه الدنیا یمکنه أن یزول وأنّ آثاره باقیة، علی غرار آثار التمارین التی یقوم بها المتسابقون.

وهذا ما أشار إلیه القرآن الکریم بالقول: «فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ» (1).

وجاء فی الحدیث عن الإمام الحسن علیه السلام بعد أنّ وصف شهر رمضان بصفته مضمار الخلق ومیدان التمرین أنّه قال: «وایم الله لو کشف الغطاء لعلموا أنّ المحسن مشغول باحسانه، والمسیئی مشغول باسائته» (2).

ص:308


1- 1) سورة الزلزلة/7 - 8. [1]
2- 2) بحار الانوار 75/110. [2]
2 - الشریعة السمحاء

کما أوردنا فی الخطبة المذکورة والروایة التی نقلناها فی شرحها أنّ الإسلام لشریعة سهلة سمحاء؛ أی لیس هنالک من تکلف ولا عسر ولا حرج فی ممارسته وطقوسه فهی لاتدعو إلی الضجر والتعب.

والتمعن فی أحکام الإسلام سواء فی العبادات والمعاملات والروابط الإنسانیة أو فی العقوبات والجزاء یفید أنّها برمجت علی ذلک الأساس أیضاً. فقد روعی هذا الأصل حتی فی أشد العقوبات الإسلامیة من قبیل قتل الزانی بالمحصنة، وذلک لأنّ العقاب ان کان شدیداً تعذر بسهولة إثبات الجرم. فعادة ما تثبت الدعاوی بشاهدین، بینما یلزم هنا اربعة شهود. وهکذا الحال فی اجراء بعض الحدود من قبیل الجلد، فقد أوصی باجرائه فی الجو البارد فی فصل الصیف، والحار فی فصل الشتاء، وعدم رفع الید إلی مکان مرتفع وعدم ضرب المواضع الحساسة وما إلی ذلک من الأوامر.

من جانب آخر فانّ هؤلاء المجرمین ینالون العفو عما ارتکبوا فیما إذا تابوا قبل القبض علیهم، اضافة إلی العمل بقاعدة درء الحدود عند الشبهات فی کافة الجرائم وعند بروز أدنی شک أو شبهة.

وقد جاء فی حدیث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال لأحد أصحابه کلفوا الناس من دینهم ما یطیقون، ثم نقل له علیه السلام قصة ذلک المسلم الذی کان له جار کافر رغب فی الإسلام، فکان یحمله صباحا وظهراً ولیلاً إلی المسجد، بحیث کان یقضی أغلب وقته فیه فی أداء الواجبات والمستحبات. حتی فارق هذا الرجل الإسلام بعد أن شق علیه الأمر وقال: لا طاقة لی بهذا الدین. ثم قال الإمام علیه السلام: «إن إمارة بنی أمیة کانت بالسیف والعسف، وإن إمارتنا بالرفق، والوقار، والتقیة، وحسن الخلطة، والورع، والاجتهاد. فرغبوا الناس فی دینکم، وفیما أنتم فیه» (1).

ص:309


1- 1) الخصال للشیخ الصدوق 2/ الباب 7، ح 35.

ولا یخفی أن الحب والرفق والمداراة والخلطة الحسنة إنّما تکون مع الأفراد الذین لا یعملون بالشر وإلّا فالإسلام صلب المعاملة لشدید فیها تجاه الظلمة والطغاة والاشرار والأوباش، بغیة الحفاظ علی سلامة المجتمع وأمنه.

ص:310

القسم الثانی: صفات النبی صلی الله علیه و آله ومقاماته

اشارة

ومنها فی ذکر النبی صلی الله علیه و آله

«حَتَّی أَوْرَی قَبَساً لِقَابِسٍ، وَأَنَارَ عَلَماً لِحَابِسٍ، فَهُوَ أَمِینُکَ الْمَأْمُونُ، وَشَهِیدُکَ یَوْمَ الدِّینِ، وَبَعِیثُکَ یِعْمةً وَرَسُولُکَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً، اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِکَ، وَاجْزِهِ مُضَعَّفَاتِ الْخَیْرِ مِنْ فَضْلِکَ. اللَّهُمَّ أَعْلِ علی بِنَاءِ الْبَانِینَ بِنَآءَهُ! وَأَکْرِمْ لَدَیْکَ نُزُلَهُ، وَشَرِّفْ عِنْدَکَ مَنْزِلَهُ، وَآتِهِ الْوَسِیلَةَ، وَأَعْطِهِ السَّنَاءَ وَالْفَضِیلَةَ، وَاحْشُرْنَا فِی زُمْرَتِهِ غَیْرَ خَزَایَا، وَلَا نَادِمینَ، وَلَا نَاکِبِینَ، وَلَا نَاکِثِینَ، وَلَا ضَالِّینَ، وَلَا مُضِلِّینَ، وَلَا مَفْتُونِینَ» .

الشرح والتفسیر

أشار علیه السلام فی هذا الموضع من الخطبة إلی خصائص النبی صلی الله علیه و آله وعلو صفاته، ثم سأل الله تعالی له رفیع الدرجات، کما اختتم بالدعاء لنفسه ولجمیع المؤمنین بالحشر فی زمرة الرسول الکریم صلی الله علیه و آله. فقال علیه السلام: «حتی أوری (1)قبساً (2)لقابس، وأنار علماً لحابس (3)» .

وبالنظر إلی أنّ هذا القسم من الخطبة - کما صرح المرحوم السید الرضی (ره) - روایة اُخری للخطب السابقة (72) ، فالذی یفهم أن «حتی» غائیة بالنسبة لسعی النبی صلی الله علیه و آله وجهده،

ص:311


1- 1) «أوری» من مادة «وری» علی وزن نفی بمعنی التغطیة والستر، وتستعمل بمعنی اشعال النار إذا جاءت من باب الأفعال؛ وکَأن النار التی کمنت فی جوف المواد المشتعلة قد خرجت، وتشیر فی الخطبة إلی أنوار الهدایة التی نصبها الرسول صلی الله علیه و آله لدعاة الحق.
2- 2) «قبس» الشعلة من النار، والقابس آخذ النار من النار، وهی هنا إشارة إلی النور والهدایة.
3- 3) «الحابس» من حبس ناقته وعقلها حیرة منه لا یدری کیف یهتدی فیقف عن السیر.

کما یمکن القول بأنّ الفاعل فی عبارة أوری وأنار هو لشخص النبی الأکرم صلی الله علیه و آله. وعلیه فقد قام صلی الله علیه و آله بعملین مهمین هما:

الأول: أنّه أمد طلاب الحق بقبسات النور، والثانی أنّه نصب مصابیح الهدایة فی طریق الحیاری.

وکأنّ العبارة الاولی إشارة إلی علماء الاُمّة الذین یأخذون بشعلة الهدی فیواصلون مسیرتهم ویحملون الآخرین معهم. والعبارة الثانیة إشارة إلی الأفراد العادیین الذین لیست لدیهم مثل هذه القبسات وعیونهم متطلعة إلی مصابیح الهدی الموضوعة علی جانب الطریق. وبعبارة اُخری فان النبی صلی الله علیه و آله قد أمد دعاة الحق بالهدایة العامة والخاصة.

ثم قال علیه السلام علی سبیل النتیجة الواضحة و الرائعة: «فهو أمینک المأمون، وشهیدک یوم الدین، وبعیثک نعمة ورسولک بالحق رحمة» .

وقوله علیه السلام أمینک المأمون تأکید لمطلق أمانته وکمالها، وشهید یوم الدین ویوم الحساب والجزاء إشارة للآیة الشریفة 89 من سورة النحل: «وَیَوْمَ نَبْعَثُ فِی کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیداً عَلَیْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِکَ شَهِیداً عَلی هؤُلاءِ» .

ویمکن أن تکون هذه الشهادة علی الاصول الکلیة التی تضمنتها دعوة کافة الأنبیاء، أو علی جزئیات الأعمال، بفعل الشهود العلمی للنبی صلی الله علیه و آله بالنسبة لأعمال کافة الامُم.

وقوله علیه السلام: «بعیثک نعمة» إشارة إلی أنّ بعثة النبی صلی الله علیه و آله کانت نعمة کبیرة من جانب الله سبحانه، کما کانت نموذجاً بارزاً لرحمته الواسعة سبحانه، فقد اهتدت به الملایین من أفراد البشریة وانقادت إلی الحق فی ظل تعالیمه السامیة، وهذا الکلام فی الواقع اقتباس من الآیات القرآنیة ومنها: «لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلی المُوْمِنِینَ إِذ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (1)و «وَما أَرْسَلْناکَ إِلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ» (2).

ثم واصل علیه السلام کلامه فی إطار امتنانه وتقدیره لجهود النبی صلی الله علیه و آله العظیمة، فرفع یده بالدعاء مبتهلاً إلی الله بافاضة نعمه علی النبی صلی الله علیه و آله فقال: «اللّهم اُقسم له مقسماً من عدلک، واجزه

ص:312


1- 1) سورة آل عمران/164. [1]
2- 2) سورة الأنبیاء/107. [2]

مضعفات الخیر من فضلک، اللّهم أعل علی اباء البانین بناءه وأکرم لدیک نزله (1)، وشرف عندک منزله، وآته الوسیلة، واعطه السناء (2)والفضیلة» .

ویختزن الدعاء الأول والثانی هذه النقطة، وهی أنّ النبی صلی الله علیه و آله یستحق مزید الثواب بمقتضی العدل الإلهی، کما یتضاعف هذا الثواب بمقتضی الفضل الإلهی. قال القرآن الکریم: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» (3).

وسؤال الله علو بناء النبی صلی الله علیه و آله علی بناء جمیع البانین إمّا إشارة إلی علو دینه علی جمیع الادیان بمقتضی «لِیُظْهِرَهُ عَلی الدِّینِ کُلِّهِ» (4).

وإمّا علو مقاماته فی الجنّة، أو علو فضائله المعنویة صلی الله علیه و آله.

ویبدو التفسیر الأول أنسبها جمیعاً.

والعبارة «آیة الوسیلة» إشارة إلی المقام العالی للقرب ونتیجة ذلک الدرجات الرفیعة فی الجنّة، فقد ورد فی الحدیث النبوی أنّه صلی الله علیه و آله خاطب أصحابه قائلاً: «سلوا الله لی الوسیلة» ، ثم أضاف: «هی درجتی فی الجنّة، وهی ألف مرقاة. . . فلا یبقی یومئذ نبی ولا صدیق ولا شهید إلّاقال طوبی لمن کان هذه الدرجة درجته» (5).

ثم اختتم کلامه علیه السلام بهذا الدعاء: «واحشرنا فی زمرته غیر خزایا (6)، ولا نادمین، ولا ناکبین، ولا ناکثین، ولا ضالین، ولا مضلین، ولا مفتونین» فی إشارة إلی أن الأفراد یسعهم بالعمل والعلم أن یکونوا فی زمرة النبی صلی الله علیه و آله ویجتازوا هذه الفضائح السبع، فلا یندمون ویفتضحون یوم القیامة، وإذا رأوا أعمالهم لا یشعرون بالندم، فلا یکونوا فی صف الناکثین، ولایحملون أوزار الآخرین ولایخدعون بالشیاطین.

فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام اشار إلی طوائف أمة النبی صلی الله علیه و آله حین ترد المحشر حیث ترد کل

ص:313


1- 1) «نزل» بضمتین ما هیئی للضیف لینزل علیه.
2- 2) «السناء» علو المقام والرفعة.
3- 3) سورة الانعام/160. [1]
4- 4) سورة الصف/9. [2]
5- 5) تفسیر نور الثقلین 1/626 ح 178. [3]
6- 6) «خزایا» جمع «خزیان» الخجل والافتضاح.

واحدة منها وادیاً من الأودیة المذکورة السبع، ولعل هذه الطوائف کانت موجودة وقد خاطبها علیه السلام محذراً إیاها بهذا الدعاء.

کلام المرحوم السید الرضی

قال المرحوم السید الرضی (ره) ذیل هذا الکلام: «وقد مضی هذا الکلام فیما تقدم؛ إلّا أننا کررناه هنا لما فی الروایتین من الاختلاف» . (1)

تأمّل: إعتراف مهم

قال ابن أبی الحدید فی ذیل هذا المقطع من الخطبة: سألت استاذی النقیب أبا جعفر، وکان منصفاً بعیداً عن الهوی والعصبیة عن هذا الموضع، فقلت له: وقد وقفت علی کلام الصحابة وخطبهم فلم أر فیهم من یعظم رسول الله صلی الله علیه و آله تعظیم هذا الرجل، ولایدعو کدعائه: فانا قد وقفنا من نهج البلاغة ومن غیره علی فصول کثیرة مناسبة لهذا الفصل، تدل علی إجلال عظیم، وتبجیل شدید منه لرسول الله صلی الله علیه و آله. فقال: ومن أین لغیره من الصحابة کلام مدون یتعلم منه کیفیة ذکرهم للنبی صلی الله علیه و آله؟

وهل وجد لهم إلّاکلمات مبتدرة، لاطائل تحتها! ثم قال: إنّ علیاً علیه السلام کان قوی الإیمان برسول الله صلی الله علیه و آله والتصدیق له، ثابت الیقین، قاطعاً بالامر، متحققاً له، وکان مع ذلک یحب رسول الله صلی الله علیه و آله لنسبته منه، وتربیته له، واختصاصه به من دون أصحابه، وبعد، فشرفه له، لانّهما نفس واحدة فی جسمین، الأب واحد، والدار واحدة، والأخلاق متناسبة، فاذا عظمه فقد عظم نفسه، وإذا دعا إلیه فقد دعا إلی نفسه، ولقد کان یود أن تطبق دعوة الإسلام مشارق الأرض ومغاربها؛ لأنّ جمال ذلک لا حق به، وعائد علیه، فکیف لا یعظمه ویبجله ویجتهد فی إعلاء کلمته. (2)

ص:314


1- 1) الخطبة 72 فی المجلد الثالث.
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/174. [1]

القسم الثالث: تضییع النعم

ومنها فی خطاب أصحابه

«وَقَدْ بَلَغْتُمْ مِنْ کَرَامَةِ اللّهِ تَعَالی لَکُمْ مَنْزِلَةً تُکْرَمُ بِهَا إِمَاؤُکُمْ وَتَوصَلُ بِهَا جِیرَانُکُمْ، وَیُعَظَّمُکُمْ مَنْ لاَفَضْلَ لَکُمْ عَلَیهِ، وَلاَ یَدَ لَکُمْ عِنْدَهُ، وَیَهَابُکُمْ مَنْ لاَ یَخَافُ لَکُمْ سَطْوَةً، ولاَ لَکُمْ عَلَیْهِ إِمْرَةٌ وَقَدْ تَرَوْنَ عُهُودَ اللّهِ مَنْقُوضَةً فَلاَ تَغْضَبُونَ! وَأَنْتُمْ لِنَقْضِ ذِمَمِ آبَائِکُمْ تَأْنَفُونَ! وَکَانَتْ أُمُورُ اللّهِ عَلَیْکُمْ تَرِدُ، وَعَنْکُمْ تَصْدُرُ، وَإِلَیْکُمْ تَرْجِعُ، فَمَکَّنْتُمْ الظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِکُمْ، وَأَلْقَیْتَمْ إلَیْهمْ أَزِمَّتَکُمْ، وَأَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اللّهِ فِی أَیْدِیهمْ، یَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ، وَیَسِیرُونَ فِی الشَّهَوَاتِ، وَایْمُ اللّهِ، لَوْ فَرَّقُوکُمْ تَحْتَ کُلِّ کَوْکَبٍ، لَجَمَعَکُمُ اللّهُ لِشَرِّ یَوْمٍ لَهُمْ!» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا الموضع من الخطبة إلی أمرین مهمین مرتبطین مع بعضهما ارتباطاً واضحاً وهما:

الأول: أنّ المجد والعظمة التی بلغها المسلمون فی ظل الإسلام لهی عظمة فریدة لدی العدو والصدیق.

الثانی: أنّ اولئک الناس لم یعرفوا قدر هذه النعمة، وقد آلت أمورهم إلی الحکام الظلمة من عدیمی الإیمان وأصحاب الشهوات بفعل ضعفهم وذلهم وهو انهم، وهذا بحد ذاته جحود عظیم فقال علیه السلام: «وقد بلغتم من کرامة اللّه تعالی لکم منزلة تکرم بها إماؤکم وتوصل بها جیرانکم» .

ص:315

واثر ذلک أخذ یعظکم من لستم خیرا منه، ولیس لکم من حق علیه «ویعظمکم من لا فضل لکم علیه، ولا ید لکم عنده» .

کما یهابکم ویبجلکم من لیس لکم قدرة علیه، ولا حکومة أو سیطرة علیه «ویها بکم (1)من لا یخاف لکم سطوة (2)، ولا لکم علیه إمرة» فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام قد بیّن بهده العبارات الرائعة البلیغة منزلة المسلمین فی ظل الإسلام، ولم تقتصر حرمة العدو والصدیق لهم فحسب، بل شملت حتی جواریهم، کما عومل جیرانهم باللطف والرحمة کرامة لهم، کما کان یکبرهم ویجلهم من الأقوام من لیس لهم علیهم سطوة ولا قوة ولافضل ولا احسان، بل کان یهابهم حتی من لم یکن تابعاً لبلادهم.

فمن الواضح وعلی ضوء الحدیث الشریف: «من خاف اللّه أخاف اللّه منه کل شیء ومن لم یخف اللّه أخافه اللّه من کل شیء» (3)، أنّ المسلم إذا التزم بجوهر الإسلام وعمل باحکامه وما أمر به اللّه سبحانه واعتمد الورع والتقوی فی مسیرته الدینیة، یحظی باحترام الآخرین وإجلالهم. فهذه حقیقة لامبالغة فیها.

فقد أصبح المسلمون وفی ظل الإیمان یتمتعون بکافة معانی الشجاعة والاقدام والتضحیة والقوة والمنعة.

أصنف إلی ذلک فقد حفتهم العنایة الإلهیة والامدادات الغیبیة.

فقد نقل این أبی الحدید قصة رائعة بهذا الشأن. حیث قال: قیل إنّ العرب لما عبرت دجلة إلی القصر الأبیض الشرقی بالمدائن عبرتها فی أیام مدها، وهی کالبحر الزاخر علی خیولها وبأیدیها رماحها، ولا درع علیها ولا بیض؛ فهربت الفرس بعد رمی شدید منها للعرب بالسهام؛ وهم یقدمون ویحملون، ولا تهولهم السهام، فقال فلاح نبطی، بیده مسحاته وهو یفتح الماء إلی زرعه لأسوار من الاساورة معروف بالبأس وجودة الرمایة: ویلکم! أمثلکم فی سلاحکم یهرب من هؤلاء القوم الحاسرین! ولذعه باللوم والتعنیف: فقال له: أقم مسحاتک،

ص:316


1- 1) «یهاب» من مادة «هیبة» الاحترام المقرون بالخوف.
2- 2) «سطوة» و أصله کما ورد فی مفردات الراغب، من سطا الفرس اذا اقام علی رجلیه رافعاً یدیه. القهروالغلبة والتسلط.
3- 3) الکافی 2/68. [1]

فأقامها فرماها، فخرق الحدید حتی عبر النصل إلی جانبها الآخر، ثم قال: انظر الآن، ثم رمی بعض العرب المارین علیه عشرین سهما لم یصبه ولا فرسه منها بسهم واحد؛ وأنّه لقریب منه غیر بعید. ولقد کان بعض السهام یسقط بین یدی الاسوار، فقال له بالفارسیة: أعلمت أنّ القوم مصنوع لهم! قال: نعم. (1)

ثم أشار علیه السلام فی القسم الأخیر من هذا الموضع من الخطبة إلی جحد الناس لتلک النعم والقدرة، فقال علیه السلام رغم کل ذلک لاتهتز لکم قصبة وأنتم ترون کل هذه الانتها کات ونقض العهود والقوانین والأحکام الإلهیة! فی حین تشتاطون غضباً فیما إذا نقضت ذمم آبائکم: «وقد ترون عهود اللّه منقوضة فلا تغضبون! وأنتم لنقض ذمم آبائکم تأنفون (2)» .

أی لو نقضت سنة قبلیة أو طائفیة کانت شائعة بینهم لارتفعت أصواتهم، فی حین ینتهک بنی أمیة السنن الإلهیة بمرأی ومسمع منهم دون أن ینبسوا ببنت شفة، وهذا قمة جحود النعم الإلهیة.

ثم قال علیه السلام: «وکانت اُمور اللّه علیکم ترد، وعنکم تصدر، وإلیکم ترجع، فمکنتم الظلمة من منزلتکم، وألقیتم إلیهم أزمتکم، وأسلمتم اُمور اللّه فی أیدیهم» .

وهذا جحود آخر، فبعد کل تلک القوة والقدرة - بحیث کان کل شیء بأیدیهم وتابع لارادتهم - أخلوا الساحة للظلمة ودعوهم یجلسون علی منبر رسول اللّه صلی الله علیه و آله ویتحکموا بأمور المسلمین.

ثم قال علیه السلام فی وصف هؤلاء: «یعملون بالشبهات، ویسیرون فی الشهوات» .

نعم فقد فوضت الاُمور علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلی الصالحین فکانوا یعملون علی ضوء التعالیم الإسلامیة، إلّاأنّ الغفلة والضعف وجحود النعم أدی لأنّ یتزعم الاُمور تلک الثلة من سلیلی الجاهلیة وبقایا أهل الشرک والعصبیة، حیث تربع ابن أبی سفیان - أعدی أعداء الإسلام - علی عرش الحکومة الإسلامیة فقلب اُمور الإسلام رأساً علی عقب.

ذهب بعضی شرّاح نهج البلاغة إلی المراد بالعبارة 11: «وکانت اُمور اللّه علیکم ترد. . .»

ص:317


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/177. [1]
2- 2) «تأنفون» من مادة «أنف» علی وزن شرف بمعنی الحمیة و الغضب و العِزّة.

الأحکام الشرعیة، لا الحکومة وقالوا: کانت الأحکام الشرعیة الیکم ترد من رسول اللّه صلی الله علیه و آله ومن الإمام علیه السلام، ثم تصدر عنکم إلی من تعلمونه إیّاها من اتباعکم وتلامذتکم، ثم یرجع إلیکم بأن یتعلمها بنوکم وإخوتکم من هؤلاء الاتباع. أو المراد الحکم فی الأحکام الإلهیة.

وتبدو هذه الاحتمالات ضعیفة، ولا تنسحجم والعبارة «فمکنتم الظلمة من منزلتکم» التی تشیر إلی أمر الحکومة.

والمراد بالعبارة «یعملون بالشبهات» هو أنّ بنی أمیة کانوا یتمسکون بمتشابه القرآن أو کلمات النبی صلی الله علیه و آله - حیث کانوا یکیفونها بالاستعانة بالقراءات الجدیدة علی مقاصدهم الانحرافیة - من أجل توجیه أعمالهم الشائتة، وهم لایفکرون سوی فی حفظ مصالحهم وشهواتهم الحیوانیة واحیاء سنن الجاهلیة.

ثم إختتم خطبته قائلاً: «وایم اللّه، لو فرقوکم تحت کل کوکب، لجمعکم اللّه لشر یوم لهم» .

وقد ذهب أغلب شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بهذه العبارة قیام أبی مسلم الخراسانی وقیام أهل العراق ضد بنی أمیة بحیث ینتقمون منهم شر انتقام ویجتثون جذورهم، بل قیل أنّهم ارتکبوا مالم یحفل التاریخ بمثیله.

ولایبدو صحیح الاحتمال الذی أورده بعض شرّاح نهج البلاغة من أنّ المراد بالعبارة المذکورة قیام المهدی علیه السلام حیث لاینسجم وسائر عبارات الخطبة.

وتشیر العبارة: «لو فرقوکم تحت کل کوکب» کنایة إلی ذروة التشتت والفرقة، وإلّا لایمکن جعل کل إنسان تحت کوکب.

ص:318

الخطبة المأة و سبع

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

فی بعض أیام صفین

نظرة إلی الخطبة

بالنظر إلی أنّ الإمام علیه السلام اورد هذه الخطبة فی أحد أیام صفین، وأنّها ناظرة إلی حادثه فی بدایة صفین حیث انسحب أصحاب الإمام علیه السلام وتراجعوا ثم عادوا فانتصروا علی العدو، فمقصود الإمام علیه السلام هو ذم تراجعهم بالفاظ لطیفة رقیقة، ومن ثم الإشارة بحملتهم ثانیة إلی جانب حثهم وتشجیعهم علی الصمود والمقاومة. ولایخفی التأثیر الذی یلعبه الکلام حین یتصدر ببیان نقاط الضعف، ثم یتتابع بذکر عناصر القوة.

ص:319


1- 1) سند الخطبة: رواه الطیبری فی تاریخه فی حوادث عام 37، والمرحوم الکلینی فی کتاب الجهاد من فروع الکافی، ونصرین مزاحم فی کتاب صفین (باختلاف) ، وفسر ابن أثیر فی کتاب النهایة بعض مفرداتها، ممّا یدل علی عثوره علیها (مصادر نهج البلاغة 2/221) . [1]

ص:320

«وَقَدْ رَأَیْتُ جَوْلَتَکُمْ، وَانْحِیَازَکُمْ عَنْ صُفُوفِکُمْ، تَحُوزُکُمُ الْجُفَاةُ الطَّغَامُ، وَأَعْرَابُ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَنْتُمْ لَهَامِیمُ الْعَرَبِ، وَیآفِیخُ الشَّرَفِ، وَالأَنْفُ الْمُقَدَّمُ، وَالسَّنَامُ الأعْظَمُ. وَلَقَدْ شَفَی وَحَاوِحَ صَدْرِی أَنْ رَأَیْتُکُمْ بِأَخَرَةٍ تَحُوزُونَهُمْ کَمَا حَازُوکُمْ، وَتُزِیلُونَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهمْ کَمَا أَزَالُوکُمْ؛ حَسّاً بِالنِّصَالِ، وَشَجْراً بِالرَّمَاحِ، تَرْکَبُ أُولاهُمْ أُخْرَاهُمْ کَالإِبِلِ الْهِیمِ المَطْرُودَةِ؛ تُرْمَی عَن حِیَاضِهَا؛ وَتُذَادُ عَن مَوَارِدِهَا!» .

الشرح والتفسیر

أثلجتم صدری

ذکر بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ الإمام علیه السلام خطب هذه الخطبة حین تراجعت میمنة أهل العراق، ثم عادت لتهجم ثانیة بعد أن قادها مالک الاشتر وحمل علی أهل الشام ففرقهم. (1)

فلما رأی ذلک الإمام علیه السلام خطب بهذا الکلام. فقد قال علیه السلام: إنّی شاهدت فرارکم وهزیمتکم وتراجعکم عن صفوفکم بعد أن ذادکم عنها الجفاة من العرب من أهل البادیة: «وقد رأیت جولتکم (2)، وانحیازکم (3)عن صفوفکم تحوزکم الجفاة (4)الطغام (5)وأعراب أهل الشام» .

ص:321


1- 1) جاء فی کتاب «وقعة صفین» «لنصر بن مزاحم» ، حول سبب ایراد هذه الخطبة قوله: کان ذلک فی یوم السابع من صفر، و هو من الایام العصیبة فی حرب صفین، فی ذلک الیوم هاجم جیش معاویة قسماً من جیش الإمام امیرالمؤمنین علیه السلام و أجبروهم علی التراجع إلی الخلف، فتألم الإمام علی علیه السلام لذلک، و لام جیشه، وبعدها حرضهم و شجعهم علی القتال، وقد قاد هجوماً شاملاً بنفسه یصحبه مالک الاشتر، فهزم جیش معاویة و فرقهم، و بعدها خطب الإمام علی علیه السلام فی جیشه هذه الخطبة. (کتاب وقعة صفین، /243 [1] إلی /254، طبعة بصیرتی - قم المقدسة) .
2- 2) «جولة» من مادة «جولان» تعنی فی الأصل الدوران فی المیدان، ثم وردت بمعنی التراجع والحملة ثانیة، وهکذا وردت فی العبارة.
3- 3) «انحیاز» ترک المواضع.
4- 4) «الجفاة» جمع «الجافی» بمعنی السفلة من الناس و ذوی الخلق السیء و الخشن.
5- 5) «الطغام» جمع «طغامة» الأوباش والأراذل.

والحال لا یلیق هذا بکم «وأنتم لها میم (1)العرب، ویا فیخ (2)الشرف، والانف (3)المقدم، والسنام الاعظم» .

ولم أکن أتوقع هذا التراجع منکم، کما لا یلیق بکم، إلّاأنّ الذی اثلج صدری معاودتکم الکر وازاحتکم لهم عن مواضعهم: «ولقد شفی وحاوح (4)صدری أن رأیتکم بأخرة تحوزونهم کما حازوکم، وتزیلونهم عن مواقفهم کما أزالوکم» .

ثم وصف ذلک علیه السلام بقوله «حسا (5)بالنصال (6)، وشجراً (7)بالرماح، ترکب أولاهم أخراهم کالابل الهیم (8)المطرودة، ترمی عن حیاضها، وتذاد (9)عن مواردها» .

وممّا لا شک فیه أن صفین کانت مقابلة بین عسکرین، ضم أحدهما أغلب الشخصیات الإسلامیة من قبیل بعض صحابة النبی صلی الله علیه و آله وابناء الصحابة ومن البیوتات الصالحة السابقة إلی الإسلام والإیمان، وقد کانت هذه الجماعة تحت إمرة الإمام علی علیه السلام. وبالمقابل کان الطرف الآخر یتمثل فی الواقع ببقایا الجاهلیة والشرک والاراذل والاوباش من طلاب الدنیا وعبدة الأهواء الذین قدموا المیدان بدینار معاویة ودرهمه واجزل لهم فی العطاء، وفی مقدمتهم عمرو بن العاص الذی لم یبایع لمعاویة حتی اشترط علیه ولایة مصر.

وعلیه فعبارات الإمام علیه السلام بشأن أهل الشام والعراق کانت تمثل عین الواقع، بعیداً عن اُسلوب الحث والتشجیع والمبالغة.

ص:322


1- 1) «لهامیم» جمع «لهمیم» و «لهموم» وهو السابق الجواد من الخیل والناس.
2- 2) «یافیخ» جمع «یافوخ» وهو من الرأس حیث یلتقی عظم مقدمه مع مؤخره، ووردت هنا کنایة عن القادة.
3- 3) «الانف» المراد به الموضع البارز من الوجه، وتطلق العرب هذه الکلمة علی المقدم.
4- 4) «وحاوح» جمع «وحوح» صوت مع بحح یصدر عن المتألم.
5- 5) «حس» بالفتح القتل.
6- 6) «النصال» جمع «نصل» السهم.
7- 7) «شجر» الطعن بالرمح.
8- 8) «هیم» شدة العطش جمع «أهیم» أو «هائم» .
9- 9) «تذاد» من مادة «ذود» بمعنی الطرد و الدفع.

ص:323

الخطبة المأة و ثمان

اشارة

(1)

ومن خطبة علیه السلام

وهی من خطب الملاحم

نظرة إلی الخطبة

تتالف هذه الخطبة من أقسام: استهل علیه السلام القسم الأول: کسائر الخطب بحمد اللّه والثناء علیه وبیان أوصاف الجلال والجمال وأدلة إثبات وجوده سبحانه. والقسم الثانی: جری کسائر الخطب فی الحدیث عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وفضائله وکمالاته.

القسم الثالث: الحدیث عن طبیب دوار یتفقد مرضاه وقد اعد کافة وسائل العلاج، وفسره أغلب شرّاح نهج البلاغة بان المراد شخصه علیه السلام أو النبی صلی الله علیه و آله.

القسم الرابع: لوم الأصحاب الضعفاء وتذکیرهم بأنّ هذا الضعف والاختلاف یؤدی إلی عاقبة وخیمة یسلط فیها العدو علیکم، فیسدد ضرباته إلیکم ولا یبقی لکم باقیة.

القسم الخامس: وهو أهم قسم فی الخطبة فی الوعظ والنصح. والقسم السادس والأخیر اخبار عن الحوادث المستقبلیة فی قطع الأرض والسماء لبرکتهما، وظهور التحریف وتحول المعروف إلی منکر والمنکر إلی معروف.

ص:324


1- 1) سند الخطبة: روی بعض هذه الخطبة الآمدی فی الغرر والزمخشری فی ربیع الأبرار وجانباً آخر رواه الآمدی فی الغرر باختلاف مع ماورد فی نهج البلاغة، وهذا یدل علی أنّه نقلها من مصادر اُخری غیر نهج البلاغة. (مصادر نهج البلاغة 2/227) .

القسم الأول: تجلی اللّه للعباد

اشارة

«الْحَمْدُ لِلّهِ الْمُتَجَلِّی لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ، وَالظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ. خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ غَیْرِ رَوِیَّةٍ، إِذْ کَانَتِ الرَّوِیَّاتُ لاَ تَلِیقُ إِلاَّ بَذَوی الضَّمائِرِ، وَلَیْسَ بِذِی ضَمِیرٍ فِی نَفْسِهِ. خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَیْبِ السُّتُرَات، وَأَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِیرَاتِ» .

الشرح والتفسیر

کما أوردنا سابقاً فانّ الإمام علیه السلام استهل الخطبة بحمد اللّه والثناء علیه وذکر جماله وجلاله وأدلة وجوده سبحانه بعبارات قصار رائعة وهو یشیر إلی أدلة التوحید، فقال علیه السلام: «الحمد للّه المتجلی» . والواقع هو أنّ العبارة تشیر إلی برهان النظم الذی ورد فی عدة آیات قرآنیة التی تأخذ بید الإنسان أحیاناً إلی السموات والسیارات والثوابت والمجرات العظیمة کما تصحبه أحیانا اُخری إلی عمق الذرة ودقة بنائها العجیب وتنتقل به تارة إلی عجیب خلقة الطیور، کما تریه تارة اُخری اسرار البحار والمحیطات، فهی تریه عظمة الخالق من خلال المخلوقات، ویتضح ممّا تقدم ان الخلق فی (لخلقه) تشیر إلی الإنسان، وفی بخلقه إلی جمیع المخلوقات فاحدها خاص والآخر عام.

ثم أشار علیه السلام فیما بعد إلی برهان الفطرة فقال: «والظاهر لقلوبهم بحجیته» .

فأیة حجة أعظم من هذه، وهی حین یعود الإنسان إلی قلبه وروحه یستمع نداء التوحید یأتیه من کل مکان. ومن هنا مهما سعت الشیاطین لانکار ذاته، وجهدت من أجل انحراف العباد، فبمجرّد زوال هذه التزیینات، وتلاشی السحب القاتمة للوساوس الشیطانیة، تتجلی

ص:325

هذه الفطرة التوحیدیة فی الإنسان فیعود إلی ربّه وخالقه.

ثم أشار فی العبارة الثالثة إلی ما یمکن تسمیته ببرهان الابداع فقال علیه السلام: «خلق الخلق من غیر رویة، إذ کانت الرویات لاتلیق إلّابذوی الضمائر (1)، ولیس بذی ضمیر فی نفسه» .

نعلم أنّ جمیع المصنوعات البشریة إنّما تعود إلی الفکر والبرمجة والخطط والمشاریع المسبقة، وهذه بدورها إلی المخلوقات والمصنوعات فی هذا العالم. أی کل ما یصنعه الإنسان فقد شاهد شبیهه فی عالم الخلقة، کما قد یرکب أحیانا بین عدة أشیاء لیصنع منها شیئاً معیناً، فقد یحتذی بطیور البحر فی صنعه للسفینة وبخلقة الطیور فی صنعه للطائرة وهکذا، وعلیه فهو یحتاج إلی التفکیر فی صناعته من جانب، ویحتاج إلی موجودات اُخری لکی یقلدها ویستعین بها فی صناعته من جانب آخر. أمّا الابداع بمعنی الخلق دون الحاجة إلی التفکیر أو النموذج للاقتداء فانّما یختص به وحده سبحانه. ثبت الیوم أن علی الأرض فقط ملایین الأنواع من النباتات و الحیوانات و الحشرات، حیث لم تکشتف بعد للإنسان لأنها تعیش فی أعمال البحار أو فی متاهات الغایات أو فی الصحاری النائیة و المناطق القطبیة، و کل ذلک یرمز إلی الإبداع الإلهی فی عجائب خلقتها، و یشیر هذا الإبداع إلی وجوده و علمه و قدرته.

و بغض النظر عن کل ذلک فإن الصناعات البشریة إنما تتکامل مع تقادم الزمان و الإنفتاح علی تجارب الآخرین، و الحال مخلوقات اللّه لیست کذلک، فتکاملها یستند إلی ذاتها، لا إلی التجارب الجدیدة.

ثم فسر قوله السابق علیه السلام قائلاً: «خرق علمه باطن غیب السترات (2)، وأحاط بغموض عقائد السریرات (3)» .

فان کان غنیاً سبحانه فی تنویعه لخلقه عن التفکیر والمثال الذی یحتذیه فانّما ذلک لعلمه المطلق النافذ فی کل شیء والمحیط بکل شیء.

ص:326


1- 1) «ضمائر» جمع «ضمیر» من مادة «ضمور» علی وزن قبول تعنی فی الأصل الضعف کما یراد بها باطن الإنسان.
2- 2) «سترات» جمع «ستره» علی وزن قربة ما یستربه.
3- 3) «سریرات» جمع «سریرة» ما یخفیه الإنسان ویکتمه، وقد تجمع سریرة جمع تکسیر فیقال سرائر، کما تجمع جمع مؤنث سالم.

نعم فمن یحتاج إلی الفکر والانفتاح علی تجارب الآخرین، من کان علمه محدوداً، جاهلاً بما غاب عنه.

والعبارة السابقة من قبیل ذکر الخاص بعد العام؛ أی أنّها تحدثت أولاً عن علم اللّه بباطن جمیع الأشیاء، ثم علمه بالعقائد الخفیة للإنسان.

تأمّل: فی سعة علم اللّه

تعتبر مسألة علم اللّه من المسائل المهمة من خلال النظرة المعرفیة، وکذلک من حیث الآثار الأخلاقیة والتربویة.

وهی المسألة التی أورد القرآن بشأنها عدة أبحاث مهمة، وقد کشف عن سعتها بأمثلة رائعة، من ذلک: «وَلَوْ أَنَّ ما فِی الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالبَحْرُ یَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ کَلِماتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ» (1).

ولو تأملنا هذا المثال وتصورنا معناه، لا کتشفنا هذه الحقیقة وهی أنّ علمه سبحانه أوسع وأشمل ممّا نعتقد.

ومن البداهة أنّ هذا العلم لیس بعلم حصولی یتأتی عن طریق التصور والتصدیق، بل هو علم حضوری. أی أن حضور الحق سبحانه فی کل زمان ومکان وحضور جمیع الأشیاء لدی ذاته المطهرة یقتضی ألایخفی علیه شیء، لأنّ حقیقة العلم تعنی حضور المعلوم لدی العالم. غیر أنّه فی العلم الحصولی لایحضر شخصاً لدی العالم، بل تحضر صورته فی الذهن عن طریق التصور أو التصدیق. أمّا فی العلم الحضوری فالذی یحضر لدی العالم ذات المعلوم، وجمیع الأشیاء والحوادث فی کل زمان ومکان، باطنها وظاهرها عن طریق هذا العلم الحضوری واضحة لدی اللّه. ومن هنا قال علیه السلام: خرق علمه باطن غیب السترات، وأحاط بغموض عقائد السریرات.

ص:327


1- 1) سورة لقمان/27. [1]

قد یتعذرفهم العلم الحضوری لدی البعض، ولکن توضیحه بمثال وهو: إنّ ممّا لا شک فیه أنّ علمنا بصورنا الذهنیة والتصورات والتصدیقات التی ترتسم فی أذهاننا عن العالم الخارجی، والعلم الحضوری یعنی أن هذه الصور الذهنیة حاضرة لدی روحنا ولا تنفصل عنها.

نعم هذا هو علم اللّه بحمیع عالم الوجود، لا أنّ لدیه صور ذهنیة عنها، بل وجودها العینی حاضر لدیه، لأننا نعلم أنّه معنا فی کل مکان: «وَهُوَ مَعَکُمْ أَیْنَ ما کُنْتُمْ» (1)و «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِیدِ» (2).

ومن هنا نکتشف الآثار المهمة التربویة من خلال الالتفات إلی سعة علمه المطلق. لأنّ الإنسان إذا علم بأنّ العالم حاضر لدی اللّه وعلمه محیط بأسرار الأشیاء وخفایاها فبالیقین سیعیش حالة من مراقبة أعماله، بل حتی أفکاره ونیاته. (3)

ص:328


1- 1) سورة الحدید/4. [1]
2- 2) سورة ق/16. [2]
3- 3) راجع نفحات القرآن 4.

القسم الثانی: وصف النبی صلی الله علیه و آله

ومنها فی ذکر النبی صلی الله علیه و آله

«إِخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الأَنْبِیَاءِ، وَمِشْکَاةِ الضِّیَاءِ، وَذُؤَابَةِ الْعَلْیَاءِ، وَسُرَّةِ الْبَطْحَاءِ، وَمَصَابِیحِ الظُّلْمَةِ، وَیَنَابِیعِ الْحِکْمَةِ» .

الشرح والتفسیر

بعد أنّ حمد الإمام علیه السلام اللّه سبحانه وتعالی وأثنی علیه وأشار إلی أدلة وجوده، تطرق فی القسم الثانی من الخطبة إلی ذکر فضائل النبی صلی الله علیه و آله حیث عدد فضائله الفریدة ببضع عبارات قصیرة و ستة تشبیهات فقال علیه السلام: «إختاره من شجرة الأنبیاء، ومشکاة الضیاء، وذؤابة العلیاء، وسرة البطحاء، ومصابیح الظلمة، وینابیع الحکمة» .

فکل تشبیه واستعارة فی هذه العبارة تشیر إلی فضیلة من فضائل رسول اللّه صلی الله علیه و آله.

التشبیه الأول - حسب قول أغلب شرّاح نهج البلاغة - إشارة إلی آل ابراهیم علیه السلام الذی ظهر منه الأنبیاء العظام، وینتمی رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلی نبی اللّه ابراهیم علیه السلام عن طریق إسماعیل.

التشبیه الثانی: إشارة إلی أنّ أنوار المعارف الإلهیة فی مشکاة وجود الأنبیاء، وحامل هذه الأنوار هو رسول اللّه صلی الله علیه و آله. والمشکاة وعاء لحفظ السراج لاتطفأه الریح، وعلیه فالأنبیاء حفظة أنوار المعارف الإلهیة.

التشبیه الثالث: بالالتفات إلی أنّ ذؤابة شعر مقدم الرأس، وعلیاء المرتفع، فهی إشارة إلی أنّ نسب رسول اللّه صلی الله علیه و آله ینتهی إلی أفضل السلالات البشریة وقد ورث عنها ذلک الشرف والمجد.

ص:329

التشبیه الرابع: بالنظر إلی أنّ البطحاء جزء من مکة سکنته قبیلة قریش، والسرة تعنی المرکز، فهی إشارة إلی أنّ النبی صلی الله علیه و آله قد انحدر من مرکز قبیلة تعتبر أشرف القبائل (وإن دفع حب الدنیا البعض منها إلی عدم اجابة دعوة النبی صلی الله علیه و آله حتی عرفوا بکفار قریش) .

التشبیه الخامس: أنّ الأنبیاء والرسل هم مصابیح الهدی ومشکاة الأنوار التی تکشف ظلمات الکفر والجهل، وأنّه صلی الله علیه و آله مرکز هذه الأنوار وحاملها.

التشبیه الأخیر الذی شبه الأنبیاء بینابیع العلم والحکمة وأنّ النبی صلی الله علیه و آله أحد هذه الینابیع.

ص:330

القسم الثالث: طبیب سیار

ومنها: «طَبیِبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْکَمَ مَرَاهِمَهُ، وَأَحْمَی مَوَاسِمَهُ، یَضَعُ ذلِکَ حَیْثُ الْحَاجَةُ اِلَیْه، ِ مِنْ قُلُوبِ عُمْی، وَأذَانٍ صُمًّ، وَأَلْسِنَةٍ بُکْمٍ؛ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَیْرَةِ؛ لَمْ یَسْتَضِیئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِکْمَةِ؛ وَلَمْ یَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ؛ فَهُمْ فِی ذلِکَ کَالأَنْعَامِ السَّائِمَةِ، وَالصُّخُورِ الْقَاسِیَةِ» .

الشرح والتفسیر

ذهب أغلب شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بهذه الصفات التی ذکرها الإمام علیه السلام إنّما تعود إلیه، حیث خاض فی بیان صفاته بعد أنّ بین صفات رسول اللّه صلی الله علیه و آله، واصفا نفسه بأنّه طبیب سیار وقد حمل معه کافة أسباب العلاج التی تشفی المرضی - ولم یشذ من الشرّاح فی نسب هذه الصفات إلی شخص الإمام علیه السلام سوی شخص واحد نسبها إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله - فقد صرح الآمدی فی کتاب غری الحکم قائلاً: «إنّه فی ذکر رسول اللّه صلی الله علیه و آله» (1).

إلّا أنّ ارتباط هذه العبارة بالعبارات السابقة من جهة، وانطباقها علی الأوضاع التی کانت سائدة علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله من جهة اُخری تؤید أنّ هذه الصفات فی رسول اللّه صلی الله علیه و آله. وأننا لنتعجب کیف لم یطرح قاطبة الشرّاح هذا الأمر علی الاقل - علی نحو الاحتمال والحال أنّهم لم یقیموا أی دلیل لاثبات صحة مدعاهم. صحیح أنّ النبی صلی الله علیه و آله وعلی علیه السلام من شجرة واحدة، وهما

ص:331


1- 1) غرر الحکم ودرر العلم، الحکمة 6033.

روح واحدة فی جسمین وعامة الصفات تصدق علیهما معا؛ غیر أنّه لابدّ من الدقة فی ارجاع الضمائر إلی أصولها.

علی کل حال فقد قال علیه السلام: «طبیب دوار بطبه، قد أحکم مراهمة (1)وأحمی مواسمه، (2)یضع ذلک حیث الحاجة إلیه: من قلوب عمی، واذان صم، والسنة بکم، متتبع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحیرة» .

یا لها من تعبیرات رائعة تشبه النبی صلی الله علیه و آله (أو الإمام) بالطبیب!

لأنّ الأطباء یتولون علاج مرضی الأبدان، وینهمک هو فی علاج مرضی الروح والأخلاق الذی یفوق بمراتب مرضی البدن.

حیث أشار إلی ثلاثة منها فی العبارة: أولئک الذین تعمی أبصار قلوبهم ویفقدون السمع واستقبال الحق وعجز اللسان عن ذکر الحق بفعل الذنب والمعصیة والغفلة واتباع الهوی.

ثم وصفه بأنّه (دوار) فی إشارة إلی أنّه لیس علی غرار أطباء الابدان الذین یجلسون فی عیاداتهم وینتظرون مراجعة المریض.

بل یحمل وسائله وعلاجه معه ویتجول بحثاً عن المریض، وهذا هو منهج الأنبیاء والأوصیاء وروثتهم من العلماء، الذین بنبغی لهم أن یقتدوا بالأنبیاء ولایروا أنفسهم کالکعبة وأنّ أفراد الاُمّة مطالبون بالطواف حولهم، بل علیهم أن یکونوا کالصیاد الذی یبحث عن صیده، فیفیضوا علومهم علی الناس ویأخذوا بأیدیهم إلی الحق.

ثم قال علیه السلام واصفاً ما أورده سابقا من مواضع الغفلة ومواطن الحیرة؛ وأصحابها من أهل الغفلة والحیرة: «لم یستضیئوا بأضواء الحکمة، ولم یقدحوا (3)بزناد (4)العلوم الثاقبة، فهم

ص:332


1- 1) مراهم جمع مرهم الدهون التی یداوی بها الجروح.
2- 2) «مواسم» جمع «میسم» بمعنی الآلات التی یوسم بها بدن الانسان أو الحیوان بعد أن یحمی علیها. و «وسم» علی وزن رسم، و یطلق علی العلامة التی تظهر علی جسم الحیوان أو الانسان بعد وسمه بالآلات الحارة.
3- 3) «یقدحوا» من مادة «قدح» علی وزن «مدح» بمعنی إضرام النار بواسطة القداحة «وهی الآلة التی تحتوی علی حجر خاص یستعمل فی قدیم الزمان، حیث یقدح علیه فیولد ناراً، و کانوا یستفیدون منه کما نستفید فی الوقت الحاضر من الشخاط الحاوی علی الکبریت» .
4- 4) «زناد» جمع «زند» وهی آلات تستخدم لتولید شرارة لغرض اضرام النار و اشعالها فی الوقود، کالخشب والفحم و الحطب، و قد اعتاد العرب فی القدیم علی الاستفادة من هذه الوسیلة لاشعال النار فی الوقود.

فی ذلک کالانعام السائمة، (1)والصخور القاسیة» .

فالعبارة لم یستضیئوا ولم یقدحوا تفید أنّهم کانوا یستطیعون حتی قبل قیام الأنبیاء أنّ یتخلصوا من جانب من غفلتهم وحیرتهم بنور الحکمة والعلم ودلیل العقل، إلّاأنّهم لم یلتفتوا قط للعلم والعقل.

ولعل «لم یستضیئوا. . .» و «لم یقدحوا. . .» إشارة إلی طائفتین من الأفراد الضالین الذین کان یمکن أن یتبدل ضلالهم نوراً ولو لومضة من العلم والمعرفة التی تصل إلی قلوبهم، والطائفة الاُخری التی کان لها أن تهدی نفسها وان عجزت عن هدایة الآخرین.

کما یمکن أن تکون العبارة «أنعام سائمة» و «صخور قاسیة» إشارة إلی فئتین: فئة ضالة وهی کالأنعام التی لها إلی حد امکانیة التعلیم والتربیة، والفئة الاُخری کالصخرة الصماء التی یصعب اختراقها.

جدیر بالذکر هناک تفاوت بین مواضع الغفلة ومواطن الحیرة؛ فالغفلة تطلق حیث لایلتفت الإنسان إلی أمر ولایری أخطاره المحدقة به؛ أو کالأمراض الخالیة من الألم وفجأة یصاب بها الإنسان فلا یشفی منها.

أمّا مواطن الحیرة؛ فالإنسان یلتقت فیها إلی الأخطار، إلّاأنّه لایعرف کیف یواجهها.

علی کل حال فانّ هذا الطبیب الروحی السیار إنّما یتجول بحساب وبرنامج حیثما حل، فیشفی المرضی ویمنحهم العافیة والسلامة.

ص:333


1- 1) «سائمة» من مادة «سوم» علی وزن «قوم» بمعنی حرکة الحیوان فی الصحراء. وکذلک علی هبوب الریاح المستمرة. و یطلق «الحیوانات السائمة» علی الحیوانات التی ترعی و تحصل علی علفها من الصحراء و هی سائبة فی الصحراء.

ص:334

القسم الرابع: اشباح بلا أرواح

اشارة

«قَدِ انْجَابَتِ السَّرائِرُ لاَِهْلِ الْبَصَائِرِ، وَوَضَحَتْ مَحَجَّةُ لِخَابِطِهَا وَأَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا، وَظَهَرَتِ الْعَلامَةُ لِمَتَوسِّمِهَا. مَا لی أرَاکُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أرْوَاح، وَأرْوَاحاً بِلاَ أَشْبَاحٍ، وَنُسَّاکاً بِلاَ صَلاَحٍ، وَتُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاحٍ، وَأیْقَاظاً نُوَّماً، وَشَهُوداً غُیَّباً، وَنَاظِرةً عَمْیَاءَ، وَسَامِعَةً صَمَّاءَ، وَنَاطِقَةً بَکْمَاءَ!» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا الموضع من الخطبة إلی وضع المنافقین والمعاندین من بنی أمیة، فقال علیه السلام سرائرهم وبواطنهم ظاهرة لأهل البصائر، وقد إتضح سبیل الحق لسالکه (وعلیه فقد تمت الحجة علی الجمیع) «قد انجابت (1)السرائر لأهل البصائر، ووضحت محجة الحق لخابطها (2)» .

ثم قال علیه السلام: «واسفرت (3)الساعة عن وجهها، وظهرت العلّامة لمتوسمها» .

یمکن أن یکون المراد من علامات ظهور القیامة، بعثة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بصفته خاتم

ص:335


1- 1) «انْجابَت» من مادة «جوب» علی وزن قَوّمَ. و «جوبه» علی وزن توبه بمعنی قطع وفصل، وعلی هذاالاساس سمی الرد علی الکلام ب «الجواب» ، و ذلک لان السؤال یُقطع و ینتهی بواسطة الجواب. و اذا جاءت هذه الکلمة علی وزن انفعال، فیکون معناها الانکشاف و الاعلان، وفی الخطبة أعلاه جاءت بهذا المعنی.
2- 2) «خابط» من مادة خبط، و تأتی تارةً بمعنی القرب الشدید، وتارة بمعنی السیر علی غیر هدیً، کالذی یسیر لیلاً بدون ضیاء، وقد جاءت الکلمة هذه فی الخطبة أعلاه بهذا المعنی.
3- 3) «أسفرت» من مادة «سفور» بمعنی جلد أی شیء و یستفاد من هذه الکلمة بشکل أکثر عند الحدیث عن جلود الحیوانات.

الأنبیاء علیه السلام وآخر بنی من أنبیاء اللّه، وکذلک ظهور الفتن فی العالم الإسلامی وعلی الأرض، ولیست هناک من منافاة بین هذا الأمر ومرور آلاف السنین، لأنّ هذا الزمان قصیر جداً إذا ماقورن بعمر الدنیا.

فقد ورد فی الحدیث النبوی أنّه صلی الله علیه و آله قال: «بعثت أنا والساعة کها یتن وضم السبابة والوسطی» (1).

ونخلص ممّا سبق إلی أن اتضاح السرائر ووضوح سبیل الحق واقتراب الساعة لمن دواعی یقظة الغافلین من نوم الغفلة والتوبة إلی اللّه من الذنوب والمعاصی وسلوک طریق الحق والاستقامة علیه.

ومن هنا یتعجب الإمام علیه السلام لعدم وجود ردود الفعل المناسبة من قبل الناس ازاء هذه الاُمور فقال علیه السلام: «مالی أراکم اشباحا بلا أرواح، وأرواحاً بلا أشباح، ونساکاً (2)بلا صلاح، وتجاراً بلا أرباح وأیقاظا (3)نوماً (4)، وشهوداً غیباً، وناظرة عمیاء، وسامعة صماء، وناطقة بکماء» .

العبارة: «أشباح بلا أرواح، وأرواح بلا أشباح» بعض الجماعات التی لها قدرة ظاهریة بینما لیس لها من تفکیر أو تدبر، أو أنّها مفکرة ومدبرة لکنها تفتقر إلی قدرة الاستخدام. ومن الطبیعی ألا تکون کلا الجماعتین علی صواب ولیس من شأنها فعل شیء، کخواء الجسم الذی لاروح فیه والروح التی لاجسم لها. والعبارة: «نسا کابلا صلاح» إشارة إلی العبادات الجوفاء لعباد ذلک الزمان. لأنّ الأثر الأول للعبادة إنّما یتمثل بالتربیة والصلاح الإنسانی؛ فاذا لم یکن العبد صالحاً کان ذلک دلیل علی أنّ عبادته قشر لا لبّ فیه.

والعبارة «تجاراً بلا أرباح» یمکن أن تکون إشارة إلی ماورد فی سورة العصر: «وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسانَ لَفِی خُسْرٍ * إِلّا الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» .

ص:336


1- 1) أورد أغلب مفسرین الفریقین هذا الحدیث ذیل الآیة 18 من سورة محمد صلی الله علیه و آله.
2- 2) «نساک» جمع «ناسک» العابد.
3- 3) «أیقاظ» جمع «یقظان» ضد النائم.
4- 4) «نوم» جمع «نائم» .

والعبارة «أیقا ظانوماً» والعبارات الأربع القادمة إشارة إلی الأفراد الیقظین ظاهراً ولهم حضور فی الساحة ویتمتعون بالسمع والبصر والنطق، إلّاأنّهم لایبدون أی رد فعل تجاه الحوادث الحسنة والسیئة، وکأنّهم نیام غیر شهود، ولا سمع لهم ولابصر ولا کلام.

نعم فالإسلام یری وجود کل شیء فی آثاره، والإنسان الحی الذی لا اثر له کأنّه فی عداد الأموات، ومن لابصیرة له فهو أعمی، وقد ورد هذا المعنی کراراً فی القرآن بشأن المنافقین من الأفراد عدیمی الإیمان، کالایة: «صُمٌّ بُکْمٌ عُمْیٌ فَهُمْ لا یَعْقِلونَ» (1)وما شابه ذلک فالذی یستفاد من کلامه علیه السلام أنّه وبخ بشدة أصحابه علی عدم ابداء أی رد فعل تجاه بنی أمیة بعد أن اتضح لهم باطنهم وخبث مقاصدهم، وکأنّهم نیام فقدوا السمع والبصر والنطق، فلا یأبهون بجنایات بنی أمیة. و لا یعلمون أی مصیر مظلم ینتظر الإسلام و المسلمین.

تأمّل: الوجود الباهت کالعدم

عادة ما ینظر إلی وجود الأشیاء وعدمها من خلال عینیتها فی الخارج، بینما ینظر إلیها فی المنطق القرآنی والروائی علی أساس الآثار والمعطیات. وعلیه فقد یری بعض الأحیاء فی عداد الموتی إذا ما انعدمت آثارهم والعکس الصحیح فقد یری الموتی أحیاءاً بفعل عطائهم وآثارهم.

وقد أکد القرآن الکریم هذا المعنی کراراً. فقد خاطب النبی الاکرام صلی الله علیه و آله بالقول: «إِنَّکَ لا تُسْمِعُ المَوْتی وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِینَ» (2).

ومن المسلم به أنّ المراد بالموتی والصم هنا الأفراد الذین یتمتعون بظاهر والحیاة لهم أذان سامعة؛ إلّاأنّ القران عدهم أمواتاً حین اتخذوا موقف المتفرج ازاء دعوة النبی صلی الله علیه و آله.

ثم قال فی موضع آخر: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما یَنْبَغِی لَهُ إِنْ هُوَ إِلّا ذِکْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِینٌ *لِیُنْذِرَ مَنْ کانَ حَیّاً» (3).

ص:337


1- 1) سورة البقرة/171. [1]
2- 2) سورة النمل/80. [2]
3- 3) سورة یس/69- 70. [3]

قال أمیر المؤمنین علی علیه السلام لکمیل بن زیاد: «هلک خزان الأموال وهم أحیاء، والعلماء باقون ما بقی الدهر: أعیافهم مفقودة، وأمثالهم فی القلوب موجودة» (1).

ولو اعتمدنا المقیاس القرآنی والروائی فی تقییم الأفراد والحضارات والمدنیات وسائر الاُمور، لرأینا العالم بحلة جدیدة اُخری، والحق لابدّ أن یکون هذا هو المعیار والمقایس، وذلک لأنّ الکائن الحی من کان له آثار حیویة، ومن افتقر لهذه الآثار فهو میت. والأموات الذین یخلفون بعض الآثار فهم أحیاء مادامت آثارهم الوجودیة قائمة فی المجتمع البشری. ولما کانت آثار الشهداء فی سبیل اللّه باقیة، فهم أحیاء خالدون (بغض النظر عن الحیاة البرزخیة) . لیس للظلمة والطغاة سوی الموت کیف لا وهم یخلفون هذا الفساد والدمار.

ومن هنا نعت الإمام علیه السلام تلک الجماعة من أهل الکوفة والعراق بأنّها أشباح بلا أرواح وایقاظ نوماً وشهود غیباً من خلال ذلک المعیار القرآنی والروائی.

ص:338


1- 1) نهج البلاغة، [1] کلمات القصار 147.

القسم الخامس: طغاة بنی أمیة یأتون علی الأخضر و الیابس

اشارة

«رَایَةُ ضَلاَلٍ قَدْ قَامَتْ عَلَی قُطْبِهَا، وَتَفَرَّقَتْ بِشُعَبِهَا، تَکِیلُکُم بِصَاعِهَا، وَتَخْبِطُکُمْ بِبَاعِهَا. قَائِدُهَا خَارِجٌ مِنْ الْمِلَّةِ، قَائِمٌ عَلَی الضِّلَّةِ؛ فَلاَ یَبْقَی یَوْمَئِذٍ مِنْکُمْ اِلاَّ ثُفَالَةٌ کَثُفَالَةِ الْقِدْرِ، أوْ نُفَاضَةٌ کَنُفَاضَةِ الْعِکْمِ، تَعْرُکُکُمْ عَرْکَ الأدِیمِ، وَتَدُوسُکُمْ دَوْسَ الْحَصِیدِ، وَتَسْتَخْلِصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ بَیْنِکُمُ اسْتِخْلاصَ الطَّیْرِ الَحَبَّةَ الْبَطِینَةَ مِنْ بَیْنِ هَزِیلِ الْحَبِّ» .

الشرح والتفسیر

ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ هذا المقطع من الخطبة منفصلا عن الاقسام السابقة، ویرون أنّ بینهما مطالب اُخری حذفها السید الرضی (ره) جریا علی عادته فی اقتطاف بعض المقاطع من الخطب علی أساس فصاحتها وبلاغتها. ومن هنا اعتبر اولئک الشرّاح هذا المقطع إشارة إلی حوادث وفتن آخر الزمان. فی حین لایری البعض الآخر من الشرّاح انفصالاً بین هذه المقاطع، ومنهم ابن میثم البحرانی، فیری هذا الکلام فی طغاة بنی أمیة وحکامهم الظلمة، ویبدو هذا الاحتمال قریباً لأنّ عادة السید الرضی (ره) حین یحذف بعض مقاطع الخطبة یذکرها بقوله (ومنها ومنها) ، الأمر الذی شاهدناه بوضوح فی الخطب السابقة.

علی کل حال قال الإمام علیه السلام: «رایة ضلال قد قامت علی قطبها، وتفرقت بشعبها» .

ورغم أنّ ذلک اخبار عن الحوادث الآتیة لیتأهب الناس ویقللوا من اضرارها وخسائرها إلی أقل حد ممکن، مع ذلک فقد أوردها بصیغة الفعل الماضی، أی أنّ مثل هذه الاُمور واقعه لا محالة!

ص:339

کما صرّح بذلک الاُدباء بأنّ المضارع المتحقق الوقوع بمنزلة الماضی. والعبارة «قد قامت علی قطبها» إشارة إلی أنّ رایة الضلالة التی سترفعها الطغمة الفاسدة والمفسدة من بنی اُمیة علی درجة من الثبات والرسوخ بحیث لایمکن الاطاحة بها بهذه السهولة.

والعبارة «تفرقت بشعبها» وإن بدت ظاهراً فی تفرق فروع هذه الرایة، إلّاأنّ المراد فی الواقع فرقة الانصار فی البلاد الإسلامیة، ثم قال علیه السلام: «تکیلکم (1)بصاعها، وتخبطکم بباعها (2)»

فی إشارة إلی أنّهم یحملونکم علی أساس معاییرهم، فمن وافقها رغبوا فیه وإلّا فلا، کما یحتمل أن یکون المراد بالعبارة الاولی أنّهم یمسکون بجمیع مقدراتکم، ویعطون لکل شخص ما یریدون.

والعبارة «تخبطکم بباعها» بالنظر إلی «تخبط» التی تعنی تساقط ورق الأشجار بضرب الخشب وباع بمعنی الأیدی المفتوحة إشارة إلی أنّهم یستذلونکم بکل ما اُوتوا من قوة، وهذا هو اُسلوب الحکام الظلمة الذین یحرقون الاخضر والیابس فی البلاد. و هذا هو أسلوب الحکومات المستبدة التی تسوق الجمیع حسب معاییرها و یفنی کل من یخالف تلک المعاییر.

ثم یصف علیه السلام هذه الحکومة الجائرة بأنّها خارجة عن الإسلام، وقائمة علی أساس الضلال والفساد: «قائدها خارج من الملة، قائم علی الضلة» .

هذه العبارة التی تشیر إلی معاویة أو سائر حکام بنی أمیة، ناظرة إلی هذه المعنی وهو أنّ زعماء هذه الجماعة لیس فقط لایعملون علی ضوء قوانین الإسلام ویتجاوزون ضروریات الدین فحسب، بل أساس عملهم ونشاطهم هو الضلال؛ الأمر الذی یشهد به التأریخ.

ثم أشار علیه السلام إلی النهایة المأ ساویة لهذه الأحداث فی أنّه لا یبقی منکم آنذاک إلّاالنزر الیسیر کالذی یتبقی فی قعر القدر فاذا حرک وقع: «فلا یبقی یومئذ منکم إلا ثفالة (3)کثقالة القدر، أو نفاضة (4)کنفاضة الحکم (5)» .

ص:340


1- 1) «تکیل» من مادة «کیل» علی وزن ذیل بمعنی المکیال وتستعمل عادة فی المواد الغذائیة کاحنطة والشعیر، کما تستعمل فی غیرها مجازاً.
2- 2) «باع» یعنی فی الأصل المسافة بین أصابع الیدین، حین یفتحها نحو الیمین أو الیسار بصورة تامة، کما یستعمل مجازاً بمعنی القدرة الکاملة للإنسان.
3- 3) «ثفالة» من مادة «ثفل» هو ما استقر تحت الشیء من کدره.
4- 4) «النفاضة» من مادة «نفض» علی وزن نبض ما یسقط بالنفض.
5- 5) «العکم» بمعنی الکیس الذی یحفظ فیه الأشیاء.

فالعبارة تفید عدم سلامتهم فیها سوی القلة القلیلة منهم، لأنّ هؤلاء الظلمة لا یدعون بقاء أحد من المؤمنین الصالحین.

ولا یکتفون بذلک بل: «تعرککم (1)عرک الأدیم (2)وتدوسکم (3)دوس الحصید» .

ویفصلون أهل الإیمان منکم فیقضون علیهم کما تلتقط الطیور الحبوب القویة من الضعیفة: «وتستخلص المؤمن من بینکم استخلاص الطیر الحبّة البطینة (4)من بین هزیل (5)الحبّ» .

فی إشارة إلی أنّ ظلمهم یعم الجمیع، إلّاأنّ ظلمهم وجورهم یتضاعف تجاه المؤمنین من الأفراد.

تأمّل: الحکومات المستبدة

إنّ ما اورده الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة وإن کان أخباراً عن بنی أمیة وحکومتهم فی المستقبل، إلّاأنّه یبدو أنّ ذلک یمثل قانوناً عاماً کلیاً بشأن کافة الحکومات المستبدة الجائرة، فهی تجهد من أجل ترسیخ دعائمها واعتماد المعاییر اللازمة لضمان منافعها ودیمومتها، والتعامل بمنتهی العنف والقوة مع من یهب لمعارضتها، فتقمع العناصر المؤمنة ولا سیما الناشطة منها، فهی لا تعرف أیة قیمة لقانون أو رأفة ورحمة وإنسانیة، کما لا تأبه بحقوق الناس؛ الأمر الذی نلمسه بوضوح فی الحکومات المعاصرة.

ص:341


1- 1) «تعرک» من مادة «عرک» شدید الدلک ومن هنا تطلق المعرکة علی میدان القتال حیث یدک کل منها الطرف الآخر.
2- 2) «الادیم» فی الأصل بمعنی جلد أی شیء. ویستفاد من هذه الکلمة بشکل أکثر عند الحدیث عن جلود الحیوانات.
3- 3) «تدوس» من مادة «دوس» علی وزن قوس.
4- 4) «بطینة» من مادة «بطن» سمین.
5- 5) «هزیل» ضد بطین بمعنی الضعیف وخفیف الوزن.

ص:342

القسم السادس: احذروا المستقبل المشؤوم

«أَیْنَ تَذْهَبُ بِکُمُ الْمَذَاهِبُ، وَتَتِیهُ بِکُمُ الْغَیَاهِبُ وَتَخْدَعُکُمُ الْکَوَاذِبُ؟ وَمِنْ أَیْنَ تُؤْتَوْنَ، وَأَنَّی تُؤْفَکُونَ؟ فَلِکُلِّ أَجَلِ کِتَابٌ، وَلِکُلِّ غَیْبَةٍ اِیَابٌ، فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِیَّکُمْ، وَأَحْضِرُوهُ قُلُوبَکُمْ، وَاسْتَیِقِظُوا اِنْ هَتَفَ بِکُمْ. وَلْیَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ، وَلْیَجْمَعْ شَمْلَهُ، وَلْیَحْضِرْ ذِهْنَهُ، فَلَقَدْ فَلَقَ لَکُمُ الأَمْرَ فَلْقَ الْخَرَزَةِ، وَقَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِ. فَعِنْدَ ذلِکَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ، وَرَکِبَ الْجَهْلُ مَرَاکِبَهُ، وَعَظُمَتِ الطَّاغِیَةُ، وَقَلَّتِ الدَّاعِیَةُ، وَصَالَ الدَّهْرُ صِیَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ، وَهَدَرَ فَنِیقُ الْبَاطِلِ بَعْدَ کُظُومٍ، وَتَوَاخَی النَّاسُ عَلَی الْفُجُورِ، وَتَهاجَرُوا عَلَی الدِّینِ، وَتَحَابُّوا عَلَی الْکَذِبِ، وَتَبَاغَضُوا عَلَی الصِّدْقِ» .

الشرح والتفسیر

خاطب علیه السلام صحبه من أجل الفات نظرهم إلی ما ینتظرهم من حوادث صعبة مأساویة - ستصیب المسلمین فی المستقبل - بهدف کبس خسائرها واضرارها أو إرشادهم إلی طرق الإبتعاد عنها، فقال علیه السلام: «أین تذهب بکم المذاهب، وتتیه (1)بکم الغیاهب (2)وتخدعکم الکواذب؟ ومن أین تؤتون، وأنّی تؤفکون» .

وهکذا قام علیه السلام هذا الزعیم الربانی بایقاظ مخاطبیه من نوم الغفلة واعدهم لسماع قول الحق، ثم لفت انتباهم إلی الموت وانتهاء أجل الإنسان، فقال علیه السلام: «فلکل أجل کتاب، ولکل غیبة إیاب» .

ص:343


1- 1) «تتیه» من مادة «تیه» علی وزن «بیه» بمعنی الضلال والحیرة.
2- 2) «غیاهب» جمع «غیهب» علی وزن «حیرت» بمعنی شدة ظلام اللیل.

فلا تتصوروا أنّ أعمارکم ممتدة لانهایة لها وأنّ الفرصة سانحة علی الدوام لتدارک مافرط، ولا تظنوا أنّ أعمالکم خافیة مستترة ولا تعود علیکم، فالموت حق والعمر محدود والأعمال محفوظة عند اللّه تنتظر الثواب أو العقاب.

وعلیه فالمراد بقوله: «لکل غیبة إیاب» إمّا الموات وأعمال الإنسان!

کما نری مثل هذا التعبیر فی سائر خطب نهج البلاغة. فقد خاطب علیه السلام الاُمّة فی الخطبة 83 داعیاً إیاها إلی التوبة قبل حلول الموت الذی عبر عنه بالقول: «قبل قدوم الغائب المنتظر» .

کما ورد مثل هذا المعنی فی الخطبة 64 (1).

ثم قال علیه السلام: «فاستمعوا من ربانیکم، واحضروه قلوبکم، واستیقظوا إن هتف (2)بکم» .

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بالنصح والوعظ والتحذیرات، علی أنّ الزعیم لابدّ أن یتحدث بصدق إلی اتباعه، ویحرص علی لم شملهم وجمع کلمتهم، ویحضر لدیهم ذهنه بغیة نجاتهم وانقاذهم وهذا ما علیه الحال بالنسبة لزعیمکم «ولیصدق رائد (3)أهله، ولیجمع شمله (4)، ولیحضر ذهنه» .

وخلاصة القول فانّ لزعیم الجماعة وظیفة، کما للاُمّة وظیفة أیضاً، فهو یجب علیه أنّ یبیّن للاُمّة الواقع والحقائق من جانب، ومن جانب آخر علیه أن یجمع أفراده وینظمهم ویمنحهم فکره وذهنه، فاذا قام الإمام بهذه الاُمور، کانت وظیفة الامة تتمثل بالجد والاجتهاد من أجل امتثال أوامره.

ثم قال علیه السلام: «فلقد فلق (5)لکم الأمر فلق الخرزة (6)، وقرفه (7)قرف الصمغة» .

ص:344


1- 1) ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی ان هذه العبارة منقطعة حیث لم یروا من إرتباط واضح بینها وبین العبارات السابقة علی أنّ السید الرضی فصلها طبق عادته فی الانتخاب، والحال هذا لیس من عادة الرضی (ره) فی ان یحذف عبارة دون أن یشیر إلیها کما مرمعنا ذلک بقوله (ومنها) وعلیه وکما ذکرنا فان هناک علاقة معنویة وطیدة.
2- 2) «هتف» من مادة «هتاف» صراخ.
3- 3) «الرائد» من یتقدم القوم لیکشف لهم مواضع الکلأ ویتعرف سهولة الوصول الیها من صعوبته.
4- 4) «شمل» بمعنی الجمع.
5- 5) «فلق» بفتحتین بمعنی الشق.
6- 6) «الخرزة» الجواهر القیمة النفیسة او قلیلة الثمن.
7- 7) «قرف» من مادة «قرف» علی وزن حرف بمعنی التقشیر.

فالعبارة کنایة عن بیان الحقائق والواقعیات واظهار باطن الاُمور، والعبارة: «قرفه قرف الصمغة (1)» إشارة إلی أنی أخرجت لکم عصارة المطالب وجوهرتها، کما تجری تلک المادة اللزجة من الأشجار. خاض الإمام علیه السلام هنا ثانیة فی الحدیث عن الحوادث القادمة التی ذکرها سابقاً حیث أتمها ببیان الوقائع الإجتماعیة و الأخلاقیة و الدینیة للحکومات المستبدة، و قد أوضح الآثار المختلفة الإجتماعیة و الدینیة لهذه الحکومات. و إرتباط هذا القسم من الخطبة بالأقسام السابقة واضح تماما، و إن تخللها بعض العبارات لإیقاظ أصحابه. و العجیب ما ذهب إلیه بعض شراح نهج البلاغة من مجانبة هذا القسم للأقسام السابقة بفعل عادة السید الرضی (ره) فی الإقتطاف، و کأن هذا الإقتطاف الرائع للسید أصبح ذریعة لمن لم یتأمل الإرتباط بین أقسام الخطبة لیحملها جامع نهج البلاغة.

ثم قال علیه السلام: «فعند ذلک أخذ الباطل ماخذه، ورکب الجهل مراکبه، وعظمت الطاغیة، وقلت الداعیة» .

یمکن أن یکون للطاغیة هنا معنی مصدری: أی أنّ الطغیان یکبر ویتسع علی مستوی المجتمع، کما یمکن أن یکون لها معنی اسم الفاعل؛ أی یستفحل أمر طائفة طاغیة، ویقل عدد دعاة الحق أمامها، فأمّا أن تقضی علیهم أو تقصیهم عن الساحة الاجتماعیة، وهذه أهم الأخطار التی تنبثق من هذه الحکومات الباطلة المستبدة التی تجهد فی کم أفواه دعاة الحق.

ثم قال علیه السلام: «وصال الدهر صیال السبع العقور، وهدر فنیق الباطل بعد کظوم» .

نعم فقد اقتحمت الساحة ثانیة من قبیل الجماعات المنافقة وسلیلة الجاهلیة - التی طردت من المیدان - أثر ضعف دعاة الحق. وعلی هذا الضوء تقلب کافة الموازین والقیم: «وتوافی الناس علی الفجور، وتهاجروا علی الدین، وتحابوا علی الکذب، وتباغضوا علی الصدق» .

وهکذا وبمقتضی «الناس علی دین ملوکهم» فانّ هؤلاء الحکام الفسقة والفجرة عدیمی الدین یجدون فی طبع الاُمّة بهذه الصفات الخبیثة بحیث یحیلون الساحة الإسلامیة إلی جحیم

ص:345


1- 1) «صمغه» ما یجری من الشجرة من مادة لزجة.

لایطاق.

ورغم أنّ الدین یشمل ترک الکذب والفجور، وهجر الدین یعنی هجر القیم والمثل، إلّاأنّ الإمام علیه السلام یرکز بالخصوص علی مسألة الفجور والکذب، لأنّ هذه الرذائل لمن من أخطر الرذائل التی تفرزها طبیعة الحکومات المستبدة الفاقدة للدین، حیث ترکز علی الفساد والتحلل الأخلاقی والکذب.

أمّا التعبیر «توافی وتهاجروا وتحابوا وتباغضوا» تشیر إلی نقطة لطیفة وهی أنّ الناس فی مثل هذه المجتمعات تتجه زرافات وجماعات نحو الکذب والفجور، وبعبارة اُخری لیس لها من بعد فردی، بل بعد اجتماعی عظیم الخطر.

ص:346

القسم السابع: الانقلاب رأس علی عقب

اشارة

«فَاِذَا کَانَ ذلِکَ الوَلَدُ غَیْظاً، وَالْمَطَرُ قَیْظاً، وَتَفِیضُ اللِّئِامُ فَیْضاً، وَتَغِیضُ الْکِرَامُ غَیْضاً، وَکَانَ أهْلُ ذلِکَ الزَّمَانِ ذِئَاباً، وَسَلاَطِینُهُ سِبَاعاً، وَأَوْ سَاطُهُ أُکَّالاً، وَفُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً؛ وَغَارَ الصِّدْقُ، وَفَاض الْکَذِبُ، وَاسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ، وَتَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ، وَصَارَ الفُسُوقُ نَسَباً، وَالْعَفَافُ عَجَباً، وَلُبِسَ الإسْلاَمُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً» .

الشرح والتفسیر

واصل الإمام علیه السلام بحثه السابق فی الأخبار عن المستقبل وسیطرة الحکام الظلمة والأعمال الوحشیة التی یمارسونها بحق الناس، فی التعرض إلی جانب آخر من الآثار المشؤومة لهذه الحکومات، والوضع الأخلاقی والاجتماعی والاقتصادی للناس فی ظل هذه الحکومات.

فتطرق علیه السلام بادی الأمر إلی الأولاد الذین یثیرون غضب آبائهم، وأصبح المطر قیظاً، وانتشر اللئام فی کل مکان وقل الاخیار: «فاذا کان ذلک کان الولد غیظا (1)والمطر قیظاً (2)وتفیض اللئام فیضاً (3)وتغیض الکرام غیضاً (4)» .

فی إشارة إلی أنّ رذائل السوء للحکام الظلمة إنّما تخترق الأسر والعوائل، والأولاد الذین

ص:347


1- 1) «غیض» بمعنی الغضب، وقیل حالة أشد من الغضب.
2- 2) «قبض» بمعنی وسط الصیف «قلب الاسد» واذا وردت بالمعنی المصدری فهی شدة الحرارة.
3- 3) فیض سیل الماء أو المطر والدمع.
4- 4) غیض الغور فی الأرض والنقصان.

ینبغی أن یکونوا قرة أعین والدیهم ومصدر سعادتهم وخیرهم، یکونون سبب شقائهم وبؤسهم.

من جانب آخر تتضح الآثار الوضعیة لهذه الأعمال السیئة فی عالم الطبیعة والنعم الإلهیة، کما ینزل المطر فی الصیف فیدعو إلی الانزعاج وضیاع المحاصیل الزراعیة بدلاً من نزوله فی فصل الشتاء فیؤدی إلی برودة الجو وتلطیفه.

أضف إلی ذلک وإثر انقلاب القیم وضیاعها یفتح المیدان لحثالة المجتمع فیصولون ویجولون فیه، الأمر الذی یعنی إقصاء الأخیار والصالحین من الساحة، فهذه العناصر الأربعة تشاهد بوضوح فی کل حکومة طاغیة مستبدة.

ثم واصل کلامه علیه السلام بالإشارة إلی أربع صفات حیث قسم الفئات الاجتماعیة آنذاک إلی أربع وقال: «وکان أهل ذلک الزمان ذئاباً، وسلاطینه سباعاً، وأوساطه أکالاً، (1)وفقراؤه أمواتاً» .

والمراد بأهل ذلک الزمان أعوان الحکام الظلمة وعمالهم وولاتهم.

فاذا کان السلطان ذئباً ضاریاً، کان من الطبیعی أن تکون هذه هی صفة بطانته، کما أنّ من الطبیعی أیضاً أن تکون الطبقة المتوسطة من المجتمع فریسة لهذه الذئاب، أمّا الفقراء فیعتریهم النسیان وکأنّهم أموات محوا من صفحة التاریخ.

وکأنّ الإمام علیه السلام قد طالع عن کثب کافة تفاصیل التاریخ البشری، فکشف النقاب بهذه العبارات القصیرة عن عمق ممیزات الحکومات المستبدة الطاغیة.

ثم إختتم علیه السلام خطبته بالاشارة إلی سبع ظواهر مقیتة فی هذه المجتمعات والتی تمثل قمة البؤس والشقاء. حیث قال سیزول الصدق فی ذلک الزمان ویکثر الکذب وظهرت المودة علی اللسان فی حین انطوت القلوب علی البغض والعدوان، ویتفاخر بالذنب ویندهش من العفة والطهر،

ص:348


1- 1) «أُکال» جمع «آکل» مثل طلاب بمعنی الآکل، و علی هذا المعنی یکون معنی الجملة «أوساطُه أکالاً» ، المقصود به الطبقة المتوسطة فی ذلک الزمان والذین لاهم لهم غیر الاکل والشرب وسلب ونهب الأموال، واذا جاءت بصیغة اسم فاعل، حیث نری أنها جاءت علی صیغة «اسم مفعول، وهو ما یناسب الجمل التی سبقتها، فیکون معناها، بالشکل الذی أوردناه فی الشرح أعلاه.

فیلبس الإسلام ثوباً مقلوباً: «وغار (1)الصدق، وصار الفسوق نسبا، والعفاف عجباً، ولبس الإسلام لبس الفرو (2)مقلوباً» .

یمکن أن تکون العبارة «غار الصدق، وفاض الکذب» وبالالتقات إلی معنی الغور الذی یعنی الانتشار داخل الأرض وفاض من فیض بمعنی الماء الوفیر أو المطر وأمثال وذلک، إشارة إلی ذلک الزمان وکأنّ عیون الصدق قد غارت فیه فی الأرض بینما جفت بساتین الحیاة الإنسانیة اثر ابتعادها عن هذه المیاه، وبدلا من ذلک فقد عم وانتشر الکذب وکأنه الماء المالح الذی یخرب کل شیء.

والعبارة «صار الفسوق نسباً» تفید مدی اقتراب الفسقة من بعضهم وتوطید أواصرهم وکأنهم قرابة ونسب.

وقد فسر بعض شرّاح نهج البلاغة الفسوق هنا بالزنا؛ أی یکثر أولاد الحرام فی المجتمع، وینسجم هذا التفسیر والعبارة: «والعفاف عجباً» .

الاحتمال الآخر فی تفسیر هذه العبارة أنّ الفسقة یفتخرون بفسقهم، کما تفتخر العرب بنسبها، وعلی العکس من ذلک فانّ الأفراد من أهل الطهر والعفاف یشعرون بالخجل إثر ذم المجتمع وملامتهم لهم.

والعبارة: «لبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً» إشارة إلی نقطة لطیفة وهی أنّ حکام الجور والفسقة والفجرة لایسعون إلی القضاء علی الإسلام وسلب الناس دینهم، بل یحرفون الإسلام ویقلبون محتواه من أجل تحقیق أطماعهم ومآربّهم. وشهد تاریخ الحکومات المستبدة ولاسیما حکومة بنی أمیة علی صدق هذا الکلام.

طبیعی أنّ اللباس إذا قلب لم یعد له من شبه بثیاب الناس، بل یبدو من یرتدیه حیواناً، أما ذکر هذه العبارة بعد الحدیث عن مفاسد ذلک الزمان یمکن أن یکون من قبیل ذکر العام بعد الخاص؛ لأنّ الإسلام إذا قلب کان الکذب بدل الصدق والفسوق بدل العفاف وسائر الرذائل بدل الفضائل والقیم.

ص:349


1- 1) «غار» من مادة «غور» الدخول فی الشیء وإذا استعمل فی الماء عنی غوره فی الأرض، ومن هنا یستعمل بمعنی الانعدام أیضاً.
2- 2) «فرو» ما یهییء من جلد الحیوانات وله صوف عادة ما یلبس فی الشتاء.

تأمّل: آثار سلطة الأوباش

لقد رسم الإمام علیه السلام فی هذه الأقسام الثلاثة من الخطبة صورة واضحة ببیانه للاحداث القادمة التی ستواجه المجتمع الإسلامی عن کافة الحکومات الطاغیة والمستبدة علی مدی التاریخ.

حیث تسعی هذه الحکومات لتقویة دعائمها فان استتبت لها الاُمور واستقرت أقصت کافة الأخیار والشرفاء عن المیدان، واستقطبت بطانتها من حثالة المجتمع لیمارسوا أبشع الأسالیب بحق الناس ولا سیما المؤمنین، کما یسعون إلی سوق الناس لأن یعیشوا فی هالة من الجهل والتخبط.

الکذب هو السائد والصدق غائب، والفسوق عامر والطهر ضامر. أضف إلی ذلک فانّ الناس سرعان ما تکتسب رذائل الحاکم، ولاغرو فالناس علی دین ملوکهم. وزبدة الکلام فانّ قیم المجتمع ومثله تقلب تماماً علی سبیل المثال یکون الفسق والفجور فخراً، بینما یصبح الطهر والعفاف نقصاً.

وبالطبع فانّ مثل هذه الحکومات لا تقف بوجه الدین فی الأوساط الدینیة بل تسعی جاهدة لتحریفه واخلائه من محتواه بغیة تمریر مخططاتها، إلی جانب تعبئة الرأی العام لصالحها من خلال ترویجها للخرافات التی تستهوی العوام.

والحق اننا إذا اعتمدنا هذه المعاییر التی أوردها الإمام علیه السلام تجاه عالمنا المعاصر ولاسیما غالبیة البلدان الإسلامیة لرأیناها مصداقا واضحاً لما ذکر، وکأن الإمام علیه السلام کان ینظر لکافة الأحداث التی تشهدها مجتمعاتنا الیوم.

أمّا ما أورده الإمام علیه السلام من نبوءة فی هذه الخطبة فانّما یشبه بعض مضامین الروایات التی نقلت عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقد جاء فی الحدیث الشریف أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال:

«یَأْتِی عَلَی النَّاسِ زَمَانٌ وُجُوهُهُمْ وُجُوهُ الادَمِیِّینَ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّیَاطِینَ، کَأَمْثَالِ الذَّئَابِ الضَّوارِی، سَفَّاکُونَ لِلدِّمَاءِ، لاَیَتَنَاهَوْنَ عَنِ مُنْکَرٍ فَعَلُوهُ، إنْ تَابَعْتَهُمْ ارْتَابُوکَ وَإِنْ حَدَّثْتَهُمْ کَذَّبُوکَ، إِنْ تَوَارَیْتَ عَنْهُمْ اغْتَابُوکَ. أَلسُّنَّةُ فِیِهمْ بِدْعَةُ والبدْعَةُ فِیهِمْ سُنَّةٌ،

ص:350

والْحَلِیمُ مِنْهُمْ غَادِرٌ، وَالْغَادِرُ بَیْنَهُمْ حَلِیمٌ، ألْمُؤمِنُ فِیَما بَیْنَهُمْ مُسْتَضْعَفٌ، وَالْفَاسِقُ فِیَما بَیْنَهُمْ مُشَرَّفٌ. . . فَعِنْدَ ذلِکَ یَحْرِمُهُمُ اللّهُ قَطْرِ السَّمَاءِ فِی أوانه، وِ یُنْزِلُهُ فِی غَیْرِ أَوَانِهِ، وَیُسَلِّطُ عَلَیْهِمْ شِرَارَهُمْ. . .» (1).

ص:351


1- 1) سفینة البحار، [1] مادة زمن.

ص:352

الخطبة المأة و تسع

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

فی بیان قدرة اللّه وانفراده بالعظمة وأمر البعث

نظرة إلی الخطبة

تعد هذه الخطبة من أفصح وأبلغ خطب نهج البلاغة إلی جانب عظم محتواها ومن هنا أسموها بالزهراء. حتی صرح ابن أبی الحدید قائلاً: من أراد أن یتعلم الفصاحة والبلاغة، ویعرف فضل الکلام بعضه علی بعض فلیتأمل هذه الخطبة، فانّ نسبتها إلی کل فصیح من الکلام نسبة الکواکب المنیرة الفلکیة إلی الحجارة المظلمة الأرضیة، ثم لینظر الناظر إلی ماعلیها من البهاء، والجلالة والرواء والدیباجة وما تحدثه من الروعة والرهبة والمخافة والخشیة؛ حتی لو تلیت علی زندیق ملحد مصمم علی اعتقاد نفی البعث والنشور لهدت قواه، وأرعبت قلبه، وأضعفت علی نفسه، وزلزلت اعتقاده. (2)

والخطبة تتألف بصورة عامة من ثمانیة أقسام:

القسم الأول: یتحدث عن عظمة قدرة اللّه وعجز المخلوقات أمامه حیث یورد بعض الاُمور الدقیقة بهذا الشأن.

ص:353


1- 1) سند الخطبة: جاء فی مصادر نهج البلاغة أنّ المرحوم الرضی (ره) اقتطفها من الخطبة المعروفة بالزهراء، ورواها ابن عبد ربّه المالکی فی العقد الفرید والزمحشری والآمدی (مصادر نهج البلاغة 2/235) .
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/202. [1]

القسم الثانی: فی خلقة الملائکة وبعض صفاتها وخصائصها، التی ستحقر عبادتها تجاه عظمة الحق، لو اطلعت علی اسرار الغیب، رغم اجتهادها وذوبانها فی العبادة والطاعة.

القسم الثالث: عن غفلة العباد واقبالهم علی الدنیا وابتعادهم عن دعوة الأنبیاء مع وجود الآخرة ونعمها الدائمة.

القسم الرابع: یعالج عشاق الدنیا من أهل الذنوب والمعاصی حین الموت، بعبارات بلیغة مؤثرة تسوق الغافل إلی التفکیر وإعادة النظر فی سلوکه وتصرفاته.

القسم الخامس والسادس: حول القیامة ومقدمات یوم الحساب وسؤال الإنسان عن أعماله، وسعادة المؤمنین، وتعاسة المذنبین وعاقبة کل من هاتین الطائفتین.

القسم السابع: عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وزهده بالدنیا ورغبته عنها. و کونه الأسوة التی ینبغی لأهل الایمان الاقتداء بها.

القسم الثامن: عن أهل البیت علیهم السلام واتباعهم وعظم منزلتهم.

ص:354

القسم الأول: الصفات الکمالیة للّه

«کُلُّ شَیْءٍ خَاشِعٌ لَهُ، وَکُلُّ شَیْءٍ قَائِمٌ بِهِ: غِنی کُلِّ فَقِیرٍ، وَعِزُّ کُلِّ ذَلِیل، وَقُوَّةُ کُلِّ ضَعِیفٍ، وَمَفْزَعُ کُلِّ ملْهُوفٍ. مَنْ تَکَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ، وَمَنْ سَکَتَ عَلِمَ سِرَّهُ، وَمَنْ عَاشَ فَعَلَیْهِ رِزْقُهُ، وَمَنْ مَاتَ فَإِلَیْهِ مُنْقَلَبُهُ. لَمْ تَرَکَ الْعُیُونُ فَتُخْبِرَ عَنْکَ، بَلْ کُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِینَ مِنْ خَلْقِکَ. لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ، وَلاَ اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ، وَلاَ یَسْبِقُکَ. مَنْ طلَبْتَ، وَلاَ یُفْلِتُکَ، مَنْ أَخَذْتَ، وَلاَ یَنْقُصُ سُلْطَانَکَ مَنْ عَصَاکَ، وَلاَیَزِیدُ فِی مُلْکِکَ مَنْ أَطَاعَکَ، وَلاَیَرُدُّ أَمْرَکَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَکَ، وَلاَ یَسْتَغْنی عَنْکَ مَنْ تَوَلَّی عَنْ أَمْرِکَ. کُلُّ سِرًّ عِنْدَکَ عَلانِیَةٌ، وکُلُّ غَیْبٍ عِنْدَکَ شَهَادَةٌ. أَنْتَ الأَبَدُ فَلاَ أَمَدَ لَکَ، وَأَنْتَ الْمُنْتَهَی فَلاَ مَحِیصَ عَنْکَ، وَأَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلاَ مَنْجَی مِنْکَ إِلَّا إِلَیْکَ. بِیَدِکَ نَاصِیَةُ کُلِّ دَابَّةٍ، وَإِلَیْکَ مَصِیرُ کُلِّ نَسَمَةٍ. سُبْحَانَکَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَکَ! سُبْحَانَکَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَی مِنْ خَلْقِکَ! وَمَا أصْغَرَ کُلَّ عَظِیمَةٍ فِی جَنْبِ قُدْرَتِکَ! وَمَا أَهْوَلَ مَا نَرَی مِنْ مَلَکُوتِکَ! وَمَا أَحْقَرَ ذلِکَ فِیَما غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِکَ! وَمَا أَسْبَغَ نِعَمَکَ فِی الدُّنْیَا، وَمَا أَصْغَرَهَا فِی نِعَمِ الآخِرَةِ!» .

الشرح والتفسیر

کما ذکرنا سابقاً فانّ هذه الخطبة من أعمق خطب نهج البلاغة و أروعها و أجملها، وقد تطرق علیه السلام فی بدایة الخطبة إلی أوصافه سبحانه وتعالی الجمالیة والجلالیة وصفات الأفعال بصورة واسعة جامعة.

ص:355

فاشار علیه السلام إلی عشر صفات من صفات الکمال: «کل شیء خاشع له، وکل شیء قائم به: غنی کل فقیر، وعزّ کل ذلیل، وقوة کل ضعیف، ومفزع کل ملهوف» .

فهذه الصفات الست تعود إلی قدرته المطلقة سبحانه ووجوده المطلق اللامحدود وحاجة جمیع الممکنات إلیه.

«خاشع» من مادة «خشوع» تعنی فی الأصل الخضوع؛ مع ذلک لها مفهوم أوسع یشمل الخضوع الظاهری والباطنی والتشریعی والتکوینی. وعلیه فخشوع کل شیء له بمعنی التسلیم للّه والانصیاع لقوانینه.

وقیام کل شیء باللّه من حیث إنّه واجب الوجود وغیره ممکن الوجود، والممکن یتوقف علی الواجب، کتوقف ضیاء الشمس علیها. وإلیه یعزی أیضاً غنی کل فقیر وعز کل ذلیل وقوة کل ضعیف؛ وذلک لأنّ الممکنات والمخلوقات لا تملک لنفسها شیئاً، وکل ما لدیها من اللّه، وکل کمال تحصل علیه فانّما هو فیض من کماله المطلق.

ملهوف من مادة لهف تعنی فی الأصل الغم والهم الذی یعانی منه الإنسان اثر فقدانه لشیء: کما تستعل أحیاناً لمن یظلم من الأفراد ویصرخ مستغیثاً. ولما کانت قدرة الناس زهیدة لا تمکنهم من تحقیق کافة رغباتهم أو الحفاظ علی مالدیهم، فان حالة الهم والغم والحزن تسیطر علیهم حین یفقدون سندهم المادی والمعنوی، فلیس أمامهم من سبیل سوی اللجوء إلی تلک الذات القادرة المقتدرة من أجل حل مشاکلهم والتغلب علی مصاعبهم.

والواقع هو أن ماورد سابقاً إنّما اقتبس من عدّة آیات قرآنیة اشارت إلی هذه الصفات. فقد صرح القرآن فی موضع: «وَلِلّهِ یَسْجُدُ ما فِی السَّمواتِ وَما فِی الأَرضِ» (1). وقال فی موضع آخر: «اللّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ الحَیُّ القَیُّومُ» (2). وقال: «یا أَیُّها النّاسُ أَنْتُمُ الفُقَراءُ إِلی اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الغَنِیُّ الحَمِیدُ» (3). وقال: «قُلِ اللّهُمَّ مالِکَ المُلْکِ تُؤْتِی المُلْکَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْکَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِیَدِکَ الخَیْرُ إِنَّکَ عَلی کُلِّ شَیءٍ قَدِیرٌ» (4).

ص:356


1- 1) سورة النمل/49.
2- 2) سورة البقرة/255. [1]
3- 3) سورة فاطر/15. [2]
4- 4) سورة آل عمران/26. [3]

ثم اردفها علیه السلام بست صفات اُخری: «ومن تکلم سمع نطقه، ومن سکت علم سره، ومن عاش فعلیه رزقه، ومن مات فاإلیه منقلبه» .

نعم فهو علیم بظاهرنا وباطننا، وهو العالم بحیاتنا وموتنا، وإنا إلیه راجعون لا محالة.

والحق لو عشنا الإیمان علی مستوی القلب والعمل بهذه الصفات التی بینها الإمام علیه السلام لکفتنا فی اصلاح أنفسنا، لابدّ أن نعلم بأنّ کل کالدینا منه سبحانه، وعلینا أن نسأله کل ما نرید، فهو العالم باسرارنا، وأنّ یوماً سنعود إلیه ونمثل بین یدیه فی محکمته العادلة.

ثم قال علیه السلام و قد ذکر بعضا من صفات الخالق السلبیة: «لم ترک (1)العیون فتخبر عنک، بل کنت قبل الواصفین من خلقک» .

فالعبارة «لم ترک العیون» إشارة إلی أنّه لیس بمخلوق ولا بجسم لیری، وتبیّن صفاته من خلال الرؤیة والمشاهدة.

والعبارة اللاحقة بمنزلة العلة؛ لأنّ اللّه کان منذ الأزل، ولا یمکن أن یکون جسماً. فالجسم حادث. وعلیه فان أردنا أن نصف الذات المقدسة علینا ان نستعین بما أورده انبیاء اللّه وکتبه السماویة.

ثم اشار علیه السلام إلی ثمان صفات اُخری من صفات الجلال ذات البعد السلبی، وفی الواقع نتحدث عن غنی الحق المطلق.

«لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ، وَلاَ اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ، وَلاَ یَسْبِقُکَ مَنْ طَلَبْتَ، وَلاَ یُفْلِتُکَ (2) مَنْ أَخَذْتَ، وَلاَ یَنْقُصُ سُلْطَانَکَ مَنْ عَصَاکَ، وَلاَ یَزِیدُ فِی مُلْکِکَ مَنْ أَطَاعَکَ، وَلاَیَرُدُّ أَمْرَکَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَکَ، وَلاَیَسْتَغْنی عَنْکَ مَنْ تَوَلَّی عَنْ أَمْرِکَ» .

نعم فهو الغنی عن الجمیع، وکل کماله مصدره الحق سبحانه و لیس لشیء من قدرة علی تحدی إرادته - و علیه فخلقه للمخلوقات یستند إلی فیضه لالدفع وحشة وحدة أو جلب

ص:357


1- 1) «لم تر» فعل، والکاف مفعوله، و فاعله «العیون» یعنی «لا تبصرک الانظار» .
2- 2) «یفلت» من مادة «افلات» ینفک أویفر. ومنه الحدیث المعروف لعمر فی کتب الفریقین «إن بیعة أبی بکرکانت فلتة وقی اللّه شرّها» .

منفعة، فلا عبادة العباد تزید من جلاله، ولاکفرهم ینال من کبریائه، فمن تولی عنه لم یستغن عنه، و من إعترض علی قضائه لم یسعه دفعه. ثم ذکر الإمام علیه السلام خمس من صفاته الجمالیة فقال: «کل سر عندک علانیة، وکل غیب عندک شهادة، أنت الابد فلا أمد لک، وأنت المنتهی فلا محیص (1)عنک، وأنت الموعد فلا منجی منک إلا إلیک» .

قد تبدو للوهلة الاولی مفردة «سر» و «غیب» بمعنی واحد، وکذلک مفردتی «علانیة» و «شهادة» ، ولکن لایبعد أن یکون المراد بالسر، الأسرار الباطنیة للعباد التی یعلمها اللّه، وبعبارة اُخری فانّ کل سر علانیة لدیه، أمّا الغیب فیعنی الحوادث الآتیة، أو الماضیة الغائبة علی حسناً وشعورناً، أو الکائنات الموجودة حالیا فی هذه السموات والأرض والتی لایبلغها حسنا. (2)

والعبارة أنت الأبد تأکید لأبدیة اللّه سبحانه. فهو علی درجة من الأبدیة وکأنه عینها وذاتها، فهو واجب الوجود، ومن هنا لابدایة له ولا نهایة، فالبدایة والنهایة من صفات المخلوقات المحدودة من مختلف الجهات.

والتعبیر بالمنتهی والموعد صفتان متفاوتان بشأن اللّه سبحانه وتعالی. فهو المنتهی بمعنی کل شیء ینتهی إلیه: «انا للّه وانا إلیه راجعون» ، ولیس لأحد القدرة علی الفرار من محکمة عدله. وقد قال القرآن الکریم صراحة: «وَعُرِضُوا عَلی رَبِّکَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونا کَما خَلَقْناکُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَکُمْ مَوْعِداً» (3).

والرسالة التی تحملها هذه الصفات هو أن نعلم ونؤمن بان اللّه خبیر علیم بکل شیء بما فی ذلک بواطن أسرارنا وخفایانا، فما نکتمه علی الخلق لیس بمکتوم علی الخالق، واننا مرجعنا یوماً إلی محکمة العدل الإلهی، واخیراً لایخفی الدور التربوی والحیلولة دون الوقوع فی الذنب والمعصیة إذا ما التفتنا ألی هذه الصفات.

ثم واصل علیه السلام کلامه مؤکداً علی قدرة اللّه وعودة جمیع الکائنات الحیة إلیه فقال: «بیدک ناصیة کل دابة، وإلیک مصیر کل نسمة» .

ص:358


1- 1) «محیص» من مادة «حیص» علی وزن حیف بمعنی العودة والعدول واعتزال الشیء ومحیص اسم مکان، وعلیه قد تعنی الملاذ.
2- 2) یستفاد من المصادر اللغویة ان السر ما یخفیه الإنسان، أمّا الغیب فما خفی علی عیننا وحسنا.
3- 3) سورة الکهف/48. [1]

فالتعبیر بالناحیة کنایة عن تسلیم المخلوقات لإرادة اللّه المطلقة. والتعبیر بکل نسمة یعنی فی الأصل هبوب الریاح المعتدلة، ثم اطلق علی روح الکائنات الحیة، فی إشارة إلی أنّ کل موجود راجع إلیه ماثل فی محکمته.

ثم اختتم الإمام علیه السلام الخطبة بالقول: «سبحانک ما أعظم شأنک! سبحانک ما أعظم ما نری من خلقک! وما أصغر کل عظیمة فی جنب قدرتک! وما أهول ما نری من ملکوتک! وما أحقر ذلک فیما غاب عنا من سلطانک» .

والحق ان عظمة هذا العالم وعمق غرائبه تتسع لدینا شیئاً فشیئاً کلما تقدمت مسیرة العلم وتطورت الأجهزة. وقد عبرّ أحد العلماء بأنّ عالم الخلقة - حسب ما لدینا من معلومات - بمثابة المکتبة العظیمة التی تضم ملایین الکتب، وکرتنا الأرضیة بکل ما فیها بمنزلة نقطة فی صفحة من صفحات کتاب من تلک المکتبة الضخمة. کما صرح آخر بأن ما ثبت الیوم أن کواکب السماء علی قدر من الکبر بحیث تذهل الإنسان. فکوکب الجوزاء یبلغ أکبر من کرتنا الأرضیة ثلاثین ملیاردا، هذا بالنسبة لکواکب واحد - و ما أروع ما قاله الإمام علیه السلام بأن ماخفی عنا لأعظم مما نری - و قد قال ذلک حیث تنعدم الإکتشافات آنذاک و حین کانت الهیئة البطلیموسیة التی تری صغر عالم الوجود هی السائدة فی کافة الأوساط العلمیة.

فقد انطلق الإمام علیه السلام فی الواقع من خلال الرؤیة القرآنیة لهذه المسألة «لَخَلْقُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ أَکْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلکِنَّ أَکْثَرَ النّاسِ لا یَعْلَمُونَ» (1).

ثم اختتم علیه السلام کلامه فی بیان نعم الدنیا والآخرة فقال: «وما أسبغ (2)نعمک فی الدنیا، وما أصغرها فی نعم الآخرة» .

ص:359


1- 1) سورة غافر/57. [1]
2- 2) «اسبغ» من مادة «اسباغ» الکثیر الوافر.

ص:360

القسم الثانی: عبودیة الملائکة

ومنها: «مِنْ مَلائِکَةٍ أَسْکَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِکَ، وَرَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِکَ؛ هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِکَ بِکَ، وَأَخْوَفُهُمْ لَکَ، وَأَقْرَبُهُمْ؛ لَمْ یَسْکُنُوا الأَصْلاَبَ، وَلَمْ یُضَمَّنُوا الأَرْحَامَ، وَلَمْ یُخْلَقُوا «مِنْ مَاءٍ مَهینٍ» وَلَمْ یَتَشَعَّبْهُمْ «رَیْبَ الْمَنُونِ» ؛ وَإِنَّهُمْ عَلَی مَکَانِهمْ مِنْکَ، وَمَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَکَ، وَاسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِیکَ وَکَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَکَ، وَقِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِکَ، لَوْ عَایَنُوا کُنْهَ مَا خَفِیَ عَلَیْهِمْ مِنْکَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ، وَلَزَرَوْا عَلَی أَنْفُسِهِمْ، وَلَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ یَعْبُدُوکَ حَّق عِبَادتِکَ، وَلَمْ یُطِیعُوکَ حَقَّ طَاعَتِکَ» .

الشرح والتفسیر

لما فرغ الإمام علیه السلام من الحدیث فی الأقسام السابقة عن عظمة خلق اللّه وملکوت السموات، وأنّ ما نراه لأصغر بکثیر عما خفی علینا من أسرار، أشار هنا إلی الملائکة بفضلها دلالة علی عظمة خلق اللّه فقال علیه السلام: «من (1)ملائکة أسکنتهم سماواتک، ورفعتهم عن أرضک» .

لاشک أنّ ملائکة لا تقتصر علی سکنة سماواته، فهناک ملائکة الأرض التی تحفظ أعمال الانس وتدبر الاُمور باذن اللّه وتتولی قبض الأرواح. لکن بالنظر إلی أن الإمام علیه السلام لم یبین بالعبارة المذکورة حکما کلیا بشأن الملائکة بل تحدث عن طائفة منها فلیست هناک من مشکلة - و لا ضرورة لتلک التوجیهات التی ذکرها هنا بعض شراح نهج البلاغة.

ص:361


1- 1) بناء علی ماورد فان «من» تبعیضیة وإشارة إلی بعض مخلوقات اللّه العظیمة التی وردت فی المقطع السابق من الخطبة.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه فی الإشارة إلی بعض الصفات الثبوتیة والسلبیة لملائکة قائلاً: «هم أعلم خلقک بک، وأخوفهم لک، وأقربهم منک» .

فالصفات الثلاث مرتبطة مع بعضها؛ لأنّه المعرفة العظمی للملائکة بالنسبة لذات اللّه تؤدی إلی خوفها، الخوف من التقصیر فی إداء الوظائف والمسؤولیات، والخوف الناشیء من عظمته وهیبة مقامه. والصفتان تؤدیان إلی قرب الملائکة من اللّه.

وهنا یبرز هذا السؤال کیف أنّ الملائکة أعلم من جمیع المخلوقات باللّه وأقربها إلیه، والحال أنا نعلم أنّ أنبیاء اللّه - ولاسیما نبی الإسلام - وحتی بعض الصالحین أفضل من الملائکة، وأفضل دلیل علی ذلک سجود کافة الملائکة لآدم، وأفضلیته علیهم من حیث العلم والمعرفة، وقد ورد فی الحدیث أنّ طائفة من الملائکة تقوم علی خدمة الأنبیاء والصلحاء والمؤمنین، کما هناک الحدیث المشهور عن ترکیب خلق الإنسان من العقل والشهوة والملائکة من العقل دون الشهوة، فانّ غلب عقله شهوته کان أفضل من الملائکة، هو الآخر دلیل علی أفضلیة الإنسان علی الملائکة (1)ویمکن القول فی الاجابة علی هذا السؤال: المراد الأعلمیة والقرب النسبی، وبعبارة اُخری فانّ العبارة المذکورة شبیه الحصر الاضافی، کما یمکن القول أنّ العبارة حکم عام یستثنی منه الأنبیاء والأولیاء.

ثم أشار إلی صفاتهم السلبیة بعدم وجود نواقص فی الملائکة علی غرار الناس، فذکر أربع صفات منها: «لم یسکنوا الأصلاب، ولم یضمنوا الأرحام، ولم یخلقوا من ماء مهین (2)ولم یتشعبهم (3)ریب (4)المنون» .

من الواضح أنّ الاستقرار فی مکان محدود کصلب الأب ومن ثم رحم الاُم، والخلق من قطرة ماء تبدو تافهة، لهو نقص فی الإنسان؛ والحال لیست الملائکة کذلک، فلا من زواج ولا ولادة کالإنسان.

ص:362


1- 1) وسائل الشیعة 11/164، أبواب جهاد النفس، الباب 9، ح 2.
2- 2) «مهین» من مادة «مهانة» بمعنی الضعة والحقارة وماء مهین إشارة إلی المنی الذی لیس له قیمة من حیث المقدار ولا الظاهر.
3- 3) «یتشعبهم» من مادة «تشعب» التفرق، وشعبة بمعنی الفرع الذی فصل عن الأصل.
4- 4) «ریب» کل شک وتردید، ومنون حوادث الدهر أو الموت.

أضف إلی ذلک فهی لا تموت ولا تتغیر بسبب الزمان، ولا تمرض ولا تشیب وتعجز. فوجود هذه الممیزات وإن کانت من علامات شرف خلقة الملائکة، وأنّ الإنسان لاشک هو أسمی مقاماً منها من هذه الناحیة. إلّاأنّ سبب عظمة الإنسان وأفضلیته علی الملائکة إنّما تعود إلی روحه التی أشارت إلیها الآیة الشریفة: «َنَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی» (1).

ومن هنا سجد الملائکة کلهم أجمعون لآدم علیه السلام.

أمّا هدف بیان الإمام علیه السلام لکل هذه الصفات ما أراد ذکره فی العبارات اللاحقة «وأنّهم علی مکانهم منک، ومنزلتهم عندک، واستجماع أهوائهم فیک، وکثرة طاعتهم لک، وقلّة غفلتهم عن أمرک، لو عاینوا کنه ما خفی علیهم منک لحقروا أعمالهم، ولزروا (2)علی أنفسهم، ولعرفوا أنهم لم یعبدوک حق عبادتک، ولم یطیعوک حق طاعتک» .

نعم فالملائکة ورغم تلک المعرفة والمقام الشامخ، فهی قاصرة عن معرفة عظمته ودائرة صفاته فی الجمال والجلال، وعلیه فلو فرض تعرفها علی اللّه کما هو، لأکتشفوا أنّهم لم یعبدوه کما هو أهله ولم یطیعوه کما یستحقه. وکل ما أدوه ذرة لاقیمة لها ولاوزن.

فالعبارة تفید من جانب أنّ معرفة الإنسان باللّه کلما تسامت، تضاعفت عبادته وطاعته للّه. کما تفید من جانب آخر أنّ أحداً لم یعبد اللّه حق عبادته، کما أنّ أحداً لم یعرف اللّه حق معرفته، وذلک لأنّ الإنسان والملک - حتی أعظم الناس والملائکة - إنّما هو وجود محدود، والذات الإلهیة لیست محدودة، فلیس لهذا المحدود أن یؤدی حق عبادة اللّه ولاطاعته ولامعرفته. أمّا التعبیر بالأهواء جمع هوی فی العبارة «واستجماع أهوائهم فیک» فلا تعنی هوی النفس وشططها، بل تعنی الحب والرغبة، لانّ لهذا اللفظ معنیان. وبعبارة اُخری یستعمل أحیاناً فی الحب الإیجابی واُخری فی السلبی. والمراد بالعبارة أنّ الملائکة رکزت حبّها وعشقها فی اللّه سبحانه والعبارة «قلة غفلتهم عن أمرک» تفید امکانیة غفلة الملائکة، إلّاأنّها طفیفة جداً. وشاهد ذلک الروایات الواردة فی بعضی الملائکة فی ترک الاولی. وعلیه فلا حاجة لذلک التکلف الذی صرح به بعض شرّاح نهج البلاغة من أنّ القلة هنا تعنی العدم.

ص:363


1- 1) سورة الحجر/29. [1]
2- 2) «زروا» من مادة «زری» علی وزن سعی العیب والتوبیخ واللوم، والازراء بهذا المعنی أیضاً.

علی کل حال هذا هو حال الملائکة بهذه العبادة والطاعة لالآف السنین فما ظنک بعباداتنا وطاعاتنا البخسة؟ والجدیر بالذکر أنّ الرسول الأکرام صلی الله علیه و آله وبالنظر إلی الحدیث المعروف «ما عبدناک حق عبادتک، وما عرفناک حق معرفتک» (1)، قد التفت إلی هذه الحقیقة، أی عدم معرفة الله وعبادته کما یستحق، بینما تبیین العبارة المذکورة للإمام علیه السلام عدم التفات الملائکة لهذه المسألة، ولعل الآیة الشریفة: «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ وَنُقَدِّسُ لَکَ» (2)دلیل آخر علی هذا المعنی، وهذا ما یوضح أفضلیة الإنسان علی الملائکة.

ص:364


1- 1) بین المرحوم العلّامة المجلسی فی المجلد 68 من بحار الانوار [1]ص23 الحدیث المذکور عن النبی صلی الله علیه و آله ضمن شرحه لبعض الاحادیث.
2- 2) سورة البقرة/30. [2]

القسم الثالث: عالم الآخرة

اشارة

«سُبْحَانَکَ خِالِقاً" وَمَعْبُوداً! بِحُسْنِ بَلاَئِکَ عِنْدَ خَلْقِکَ. خَلَقْتَ دَاراً، وَجَعَلْتَ فِیهَا مَأْدُبَةً: مَشْرَباً وَمَطْعَماً، وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً، وَقُصُوراً، وَأَنْهَاراً، وَزُرُوعاً، وَثِمَاراً؛ ثُمَّ أرْسَلْتَ دَاعِیاً یَدْعُو اِلَیْهَا، فَلا الدَّاعِیَ أَجَابُوا، وَلاَ فِیَما رَغَّبْتَ رَغِبُوا، وَلاَ إِلَی مَا شَوَّقْتَ اِلَیْهِ اشْتَاقُوا. أَقْبَلُوا عَلَی جِیفَةٍ قَدْ افْتَضَحُوا بِأَکْلِهَا، وَاصْطَلَحُوا عَلَی حُبِّهَا، وَمَنْ عَشِقَ شَیْئاً أَعْشَی بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ یَنْظُرُ بِعَیْنٍ غَیْرِ صَحِیحَةٍ، وَیَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَیْرِ سَمِیعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وَأَماتَتِ الدُّنْیَا قَلْبَُه، وَوَلِهَتْ عَلَیْهَا نَفْسُهُ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا، وَلِمَنْ فِی یَدَیْهِ شَیْءٌ مِنْهَا، حَیْثُما زَالَتْ زَالَ إلَیْهَا، وَحَیْثُما أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَیْهَا؛ لاَ یَنْزَجِرُ مِنَ اللّهِ بِزَاجِرٍ، وَلاَ یَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ، وَهُوَ یَرَی الْمَأْخُوذِینَ عَلَی الْغِرَّةِ، حَیْثُ لاَ اِقَالَةَ وَلاَرَجْعَةَ، کَیْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا کَانُوا یَجْهَلُونَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْیَا مَا کَانُوا یَأْمَنُونَ، وَقِدِمُوا مِنَ الاخِرَةِ عَلَی مَا کَانُوا یُوعَدُوَنَ. فَغَیْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ» .

الشرح والتفسیر

تحدث الإمام علیه السلام هنا عن الدار الآخرة وخلق الجنّة وما تضمه من نعم جمة فقال علیه السلام: «سبحانک خالقاً ومعبوداً! بحسن بلائک عند خلقک» فقد خلقت تلک الدار العظیمة (الآخرة) وجعلت فیها مختلف النعم من مشارب ومطاعم وأزواج وخدمة وقصور وأنهار

ص:365

وزرع وثمار «وجعلت فیها مأدیة (1): مشرباً ومطعماً وأزواجاً وخدماً وقصوراً وأنهاراً وزروعاً وشماراً» .

قطعاً أنّ الهدف من بیان هذه الاُمور هو تطهیر الإنسان من الرذائل والادناس والذنوب والمعاصی وسوقه إلی القرب من اللّه سبحانک: وقد وفرها الحق جمیعا لعباده بصفتها تشجع الإنسان علی الثبات فی الطریق القویم ومواصلته.

ثم قال علیه السلام: «ثم أرسلت داعیاً یدعو إلیها، فلا الداعی أجابوا، ولا فیما رغبت رغبوا، ولا إلی ما شوقت إلیه اشتاقوا» .

فهم لم یکتفوا بعدم الرغبة بتلک النعم المطهرة الخالدة، بل اقبلوا علی جیفة نتنة افتضحوا بأکلها والعجیب فی الأمر أن کلمتهم اتفقت علی حبها: «أقبلوا علی جیفة (2)قد افتضحوا بأکلها، واصطلحوا علی حبّها» .

طبعاً مراد الإمام علیه السلام من ارسال الداعی هو بعث الأنبیاء ولاسیما نبی الإسلام صلی الله علیه و آله والمراد بعدم إجابة الدعوة لاتشمل جمیع الناس؛ بل الأغلبیة من أهل الدنیا المفارقین للآخرة من اتباع الهوی والشهوات.

ومن هنا فقد شبههم بالحیوانات المفترسة التی تنهال علی جیفة فتفضح نفسها؛ وذلک لأنّ الرائحة النتنة لتلک الجیفة تفوح من فمها ویدها.

وقوله علیه السلام: «واصطلحوا علی حبها» لا یعنی عدم وجود النزاع بین أهل الدنیا، بل هم دائماً کالحیوانات التی تجتمع حول جیفة نتنة وتهجم علیها لیتناول کل قطعة منها. والمراد أنّهم اتفقوا علی حبها.

وتشبیه الدنیا بالجیفة، هو تشبیه ورد فی بعض الروایات، وذلک للتعفن الکامن فی باطن

ص:366


1- 1) «المأدبة» بضم الدال وفتحها ما یصنع من الطعام للمدعوین فی عرس ونحوه، والمراد هنا نعیم الجنّة، من مادة أدب التی تعنی فی الأصل الدعوة.
2- 2) «جیفه» بمعنی المیتة، وأصلها من مادة «جَیَفَ» و «الأجیف» بمعنی الأنتن، ولذلک فان کل شیء فاسد ونتن یُشَبَهُ ب «الجیفة» ، ومن هنا فقد شَبهت الخطبة أعلاه الدنیا المادیة بانها «جیفة» .

الدنیا التی تختزن أنواع الظلم والذنب، أو لأنّ أصحاب الدنیا یهبون للتنازع والاقتتال بهدف سلبها من بعضهم البعض الآخر.

ثم بیّن الإمام علیه السلام نتیجة هذا الحب للدنیا بشکل قاعدة کلیة وعامة وهی: «ومن عشق (1)شیئاً أعشی (2)بصره، وأمرض قلبه، فهو ینظر بعین غیر صحیحة، ویسمع باذن غیر سمیعة» .

فقد رکز الإمام علیه السلام علی نقطة یکشف فیها عن حقیقة وهی أنّ حب الدنیا وعشق زخرفها وزبرجها وزینتها المادیة إنّما یسلب الإنسان اصدار الأحکام بصورة صحیحة، بحیث یحسب أنّ سعادته وموفقیته إنّما تتمثل بالوصول إلی هذه الدنیا المادیة، مهما کان وکیفما کان الطریق المؤدی الیها.

ومن الطبیعی أن یتعذر علی مثل هذا الفرد تشخیص الحق من الباطل والمصالح من المفاسد. فهو ینطلق بشکل جنونی نحو لذات الدنیا، فاذا أفاق رأی نفسه وقد فقد کل شیء.

وسنتحدث فی البحث القادم ان شاء اللّه عن حقیقة العشق وآثاره.

وتختتم هذا البحث بالحدیث النبوی الشریف: «من جعل الدنیا أکبر همه، فرق اللّه علیه همه، وجعل فقره بین عینیه» (3).

ثم قال علیه السلام: «قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنیا قلبه، وولهت علیها نفسه» .

فقد شبه الإمام علیه السلام العقل فی العبارة الاولی بالثوب، الذی یمکنه أن یحفظ الإنسان ویکون له زینة، أمّا الشهوة فهی تمزق ثوب العقل الجمیل. وفی العبارة الثانیة وصف غلبة الشهوات علی العقل بأنّه موت للعقل. کما أشار علیه السلام فی العبارة الثالثة إلی أنّ حب الدنیا والرغبة فیها قد أحاط بجمیع کیان أهل الدنیا وطلابها.

وعلیه فمثل هذا الإنسان عبد للدنیا، ولمن فی یده شیء من حطامها: «فهو عبد لها، ولمن یده شیء منها، حیثما زالت زال إلیها، وحیثما أقبلت أقبل علیها» .

ص:367


1- 1) «عَشَقَ» من مادة «عشق» علی وزن فکر بمعنی العلاقة الشدیدة بالشیء. و «عشقه» علی وزن ثمرة بمعنی الشجرة الخضراء الیانعة، والتی لا یمر علیها الا وقت قصیر فتصبح صفراء وذابلة. وبعضهم قال: ان العشق أشتق فی الأصل من هذه المادة، وذلک لان العاشق یصبح نحیفاً ذابلاً.
2- 2) «أعشی» من مادة «عشو» علی وزن «خشم» بمعنی ضعف النظر و عدم قدرة العین علی الابصار بصورةجیدة، و تأتی أحیانا بمعنی العمی اللیلی أو العشو لیلاً.
3- 3) شرح نهج البلاغة لابن میثم 3/63. [1]

فهو لاینزجر بأی زاجر ولا یکترث لأی ناهی، ولایتعظ بموعظة واعظ ولا یصغی إلی نصح ناصح، والحال یری بأم عینیه من یؤخذ بغتة لاصفح ولاعقو ولارجعة «لا ینزجر من اللّه بزاجر، ولا یتعظ منه بواعظ، وهو یری المأخوذین علی العزة (1)حیث لا إقالة (2)ولارجعة، کیف نزل بهم ما کانوا یجهلون، وجاءهم من فراق الدنیا ما کانوا یأمنون، وقدموا من الآخرة علی ما کانوا یوعدون، فغیر موصوف ما نزل بهم» .

نعم فمن یری بعینه کل یوم تقلب أحوال الدنیا وغدرها بأهلها لابدّ أنّ یکون یقظاً، یستمع إلی الوعظ والنصح وینتهی بنهی الآخرین، إلّاأنّ المؤسف له هو أنّ حب الدنیا والتکالب علیها والاغترار بزخارفها لیعمی عین الإنسان ویصم سمعه ویستحوذ علی فکره بحیث لایسمح له بأن یفیق إلی نفسه.

تأمّل: العشق المقدس والهجین

لقد أشار الإمام علیه السلام بعبارة قصیرة بلیغة إلی حقیقة مهمة، طالما استغرق فیها العلماء والعرفاء والشعراء والاُدباء.

فقد قال علیه السلام: «من عشق شیئاً أعشی بصره، وأمرض قلبه، فهو ینظر بعین غیر صحیحة، ویسمع باذن غیر سمیعة» ، وقد دفعتنا هذه العبارة لأن نتحدث عن العشق، المقدس منه الایجابی، والمستهجن السلبی. فقد قیل الکثیر فی العشق وعظمته وجنونه وأمراضه، ولعلها من الکلمات القل التی وردت بشأنها کل هذه التعبیرات والتعاریف المختلفة والمتناقضة. فقد سمی به بعض الکتاب إلی درجة جعلتهم یرونه بمثابة ضابط الحیاة والسعادة الأبدیة! أو أنّ العشق معمار عالم الوجود.

کما أنّ تحدثوا عن إعجازاته بالنسبة للإنسان حیث ینشط روح الإنسان ویملأ قلبه حیویة وحرکة، بل قیل بانعدام طعم الحیاة بدونه.

ص:368


1- 1) «غرة» بمعنی الغفلة من مادة «غرور» بمعنی الخداع، حیث یستغفل هذا الخداع الإنسان ویأخذه بغتة.
2- 2) «إقالة» من مادة «قیل» علی وزن سیل بمعنی فسخ المعاملة، وقیل معناها الأصلی انقاذ الإنسان من السقوط، ووردت فی الخطبة بمعنی العفوعن الذنوب.

وبالمقابل فهناک طائفة من الکتاب والفلاسفة الذین صعدوا من حملاتهم واتهاماتهم للعشق لیصوره کمرض مقیت یدعو إلی التقزز. فقد قال أحد الکتاب المعروفین: علینا أن نری العشق عبارة عن عصارة الأدمغة الخاویة إن لم نقل بأنّه نوع من الجنون.

وقال کاتب آخر: أنّ العشق کمرض السرطان والنقرس الذی ینبغی أنّ یفر منه الإنسان العاقل.

فالتفسیرات المتناقضة للعشق تشیر إلی أنّ العلماء والمفکرین لم یتحدثوا جمیعاً عن شیء واحد. فهناک من تکلم عن العشق المقدس الذی یضفی القدسیة والطهارة علی الإنسان، ویشده بقوته الفائقة نحو معشوقه الحقیقی خالق الوجود.

أمّا من ذمه منهم فانما قصد به ذلک العشق المادی والمفعم بالخطایا والرذائل والجنایات الذی یفضی غالباً إلی المرض والفضیحة والشقاء.

فالإنسان فی العشق المادی یقبل بجنون علی الشیء الذی یتعلق به ویعشقه، ویضحی بکل مالدیه من أجله. فالمراد بهذا العشق هو تلک القوة السحریة التی تقود الإنسان إلی المعصیة والذنب والخطیئة، وکل ما قیل فی ذمه فهو قلیل.

فهذه القوة الطاغیة تخرب العقل وتشل حرکته وفاعلیته بحیث یقدم الإنسان علی الأعمال الجنونیة الطائشة.

وتتمثل اولی مخاطر ذلک بتعظیمه العیوب والقبائح. فمثل هؤلاء العشاق یبتکرون أنواع التفاسیر المذهلة لأقبح العیوب.

فهم لایقبلون النصح ولا یصغون إلی الوعظ، بل یهبون أحیاناً للوقوف بشدة بوجه الناصحین والوعاظ.

والغریب فی الأمر أنّ الأشخاص الذین یعیشون مثل هذا العشق المادی الجنونی یشعرون أنّهم بلغوا إدراکاً حرم منه معظم الآخرین.

فهم یعیشون فی هالة من الأوهام والخیالات ولایفهمون سوی لغة العشق الطائش، فلا یفهمون لسان العلم والمنطق الذی یحدثهم به الآخرون.

وبالطبع فان جذبة هذا العشق غالباً ما تطفیء بالمجامعة!

ص:369

آنذاک تطرح الحجب فیلتفت إلی الواقع. وکان هذا العاشق قد نهض من سبات عمیق لیتبدل لدیه ذلک العشق إلی نفرة ومقت، وذلک لأنّه یری نفسه قد فقد کل شیء مقابل ذلک المعشوق؛ الأمر الذی یقود بالتالی إلی الفضیحة والخزی.

الفضیحة التی لایمکن تلافیها بعد الیقظة.

وبالطبع فانّ أغلب حالات الانفصال والانتحار إنّما تفرزه هذه الحالة من العشق لعمق الهوة بین الخیال والواقع.

ولا تقتصر هذه النتائج المریرة علی العشق الجنسی، بل تترتب نفسها علی عشق المال والمقام والجاه والجلال المادی.

ولعل هذا هو المعنی الذی أشار إلیه الإمام الصادق علیه السلام حین سأله أحد أصحابه فقال علیه السلام : «قلوب خلت عن ذکر اللّه، فأذاقها اللّه حب غیره» (1).

وورد فی حدیث عن علی علیه السلام فی عجز العاشق عن رؤیة الحقائق إذ قال: «عین المحب عمیة عن معایب المحبوب، وأذنه صماء عن قبح مساویه» (2).

وإلی هذا العشق المجازی أشار الحدیث النبوی الشریف: «من عشق فعف ثم مات، مات شهیداً» (3).

کما قال صلی الله علیه و آله: «من عشق وکتم وعف وصبر، غفر اللّه له، وأدخله الجنّة» (4).

وعلی العکس من ذلک فی العشق الحقیقی والمقدس فانّ روح الإنسان تعیش حالة من الصفاء والنور، فلا یری سوی معشوقه الحقیقی مظهر الکمال المطلق، فیتحمل فی سبیله کافة الشدائد. فقد ورد فی الحدیث القدسی: «إذا کان الغالب علی العبد الاشتغال بی جعلت بغیته ولذته فی ذکری، فاذا جعلت بغیته ولذته فی ذکری، عشقنی وعشقته، فاذا عشقنی رفعت الحجاب فیما بینی وبینه» (5).

ص:370


1- 1) بحار الانوار 70/158. [1]
2- 2) غرر الحکم، 6314. [2]
3- 3) کنز العمال، 6999.
4- 4) کنز العمال، 7002.
5- 5) کنز العمال 1/433، ح 1772.

وما مناجاة أمیر المؤمنین علیه السلام بالاسحار ودعاء الصباح ودعاء کمیل وتضرع الإمام الحسین علیه السلام فی یوم عرفة فی تلک الصحراء والمناجاة الخمس عشرة للإمام السجاد علیه السلام التی وردت فی الصحیفة السجادیة ودعاء الندبة الذی یلهج به لسان المنتظر لظهور إمام العصر والزمان علیه السلام الامعطیات وآثار هذا العشق الطاهر. وعلیه یتضح ممّا مر معنا أنّ الذم الذی أورده بعض العلماء لمفردة العشق وتلک الحساسیة التی ابدوها تجاهه إنّما مرادهم العشق الملوث المشوب بالخطیئة، وإلّا فالعشق المقدس من أعظم القوی المحرکة للإنسان والتی تدفع به نحو اللّه سبحانه والقیم والمثل الإنسانیة النبیلة، ویخطیء کل من یتصور خلو کلمات المعصومین علیهم السلام من هذه المفردة التی کثرت فی روایات النبی صلی الله علیه و آله وأئمة العصمة علیهم السلام.

ومن ذلک مارواه المرحوم الکلینی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها، وأحبها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرغ لها» (1).

وورد فی حدیث آخر بشأن الصحابی الجلیل سلمان: «إن الجنّة لأعشق لسلمان من سلمان للجنّة» (2).

قال العلامة المجلسی فی ذیل الحدیث الأول العشق یعنی الإفراط فی الحب و قد تصوروه یختص بالأمور الباطلة دون حب اللّه، بینما تفید هذه الروایة لیس الأمر کذلک، و إن إقتضی الإحتیاط أن لانستعمل مفردة العاشق و المعشوق علی اللّه.

عالم الآخرة

ص:371


1- 1) الکافی 2/83، ح 3، باب العبادة. [1]
2- 2) بحار الانوار 22/341. [2]

ص:372

القسم الرابع: سکرات الموت

اشارة

«اجْتَمَعَتْ عَلَیْهِمْ سَکْرَةُ الْمَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وَتَغَیَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِیهِمْ وُلُوجاً، فَحِیلَ بَیْنَ أَحَدِهِمْ وَبَیْنَ مَنْطِقِهِ، وَإِنَّهُ لَبَیْنَ أَهْلِهِ یَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَیَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَی صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ، وَبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ، یُفَکِّرُ فِیمَ أَفْنَی عُمْرَهُ، وَفِیمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ! وَیَتَذَکَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِی مَطَالِبِهَا، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّ حَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وَأَشْرَفَ عَلَی فِرَاقَهِا، تَبْقَی لِمَنْ وَرَاءَهُ یَنْعَمُونَ فِیهَا، وَیَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَیَکُونُ الْمَهْنَأُ لِغَیْرِهِ، وَالْعِبءُ عَلَی ظَهْرِهِ. وَالْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا، فَهُوَ یَعَضُّ یَدَهُ نَدَامَةً عَلَی مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَیَزْهُدُ فِیَما کَانَ یَرْغَبُ فِیهِ أَیَّامَ عُمُرِهِ، وَیَتَمَنَّی أَنَّ الَّذِی کَانَ یَغْبِطُهُ بِهَا وَیَحْسُدُهُ عَلَیْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ! فَلَمْ یَزَلِ الْمَوْتُ یُبَالِغُ فِی جَسَدِهِ حَتَّی خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ، فَصَارَ بَیْنَ أَهْلِهِ لاَیَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلاَ یَسْمَعُ بِسَمْعِهِ: یُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِی وجُوهِهِمْ، یَرَی حَرَکَاتِ ألْسِنَتِهِمْ، وَلاَیَسْمَعُ رَجْعَ کَلامِهِمْ. ثُمَّ ازْدَادَ زاد الْمَوْتُ الْتِیَاطاً بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ کَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِیفَةً بَیْنَ أَهْلِهِ، قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِه، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ. لاَ یُسْعِدُ بَاکِیاً، وَلاَ یُجِیبُ دَاعِیاً. ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَی مَخَطٍّ فِی الأَرْضِ، فَأَسْلَمُوهُ فیهِ اِلَی عَمَلِهِ، وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ» .

الشرح والتفسیر

تطرق الإمام علیه السلام هنا إلی سکرات الموت بعبارات تهز أعماق الإنسان وتلفت انتباهه إلی

ص:373

تلک الحقیقة: «اجتمعت علیهم سکرة الموت وحسرة الفوت» .

فالواقع هناک هجوم ثقیل علی الإنسان وهو علی أعتاب الموت: الأول هجوم سکرات الموت، وهو حالة تشبه السکر تحدث للإنسان حین یحل أجله، وقد تستولی أحیاناً علی عقله فتجعله یعیش حالة من الاضطراب والقلق العظیم.

والآخر حسرة فقد ان کل شیء کان قد أجهد نفسه عمراً طویلاً من أجل الحصول علیه وعانی فی سبیله الأمرین.

وهی اُمور تعلق وشغف بها وکأنّها أصبحت جزءاً من وجوده وکیانه، وإذا به یری الآن أنّه یودعها إلی غیر رجعة، وهذا ما یضاعف من قلقه واضطرابه ثم خاض علیه السلام فی شرح تفاصیل تلک السکرات، حیث تضعف حینها الأعضاء والجسد بعد أن یتغیر لونها، ثم یدب فیها الموت بالتدریج، فیفصلها عن اللسان، والحال هو جالس بین أهله یراهم بعینه ویسمع کلامهم باذنه، وهو علی سلامة من عقله: «ففترت لها أطرافهم، وتغیرت لها أطرافهم، ثم ازداد الموت فیهم ولوجاً، فحیل بین أحدهم وبین منطقه، وإنّه لبین أهله ینظر ببصره، ویسمع باذنه، علی صحة من عقله، وبقاء من لبه» .

فالذی یستفاد من هذه العبارات أنّ أول ما یتوقف عن العمل هو لسان الإنسان. اللسان الذی یعدّ أکبر سند للإنسان من أجل حل مشاکله، ویالها من حسرة وفاجعة أن یری الإنسان بعینه ویسمع باذنه وهو علی سلامة من عقله ولبه، لکنه لا یستطیع أن ینبس ببنت شفة فیلهج بما یرید. ذکر أحد شراح نهج البلاغة هنا مثالا من التوراة عن الموت حیث شبهته بالشجرة ذات الأشواک التی تغوص فی جمیع البدن، و یغرس کل شوکة فی عصب من عصبه فتمزقها جمیعاً و تقضی علیه.

ثم واصل علیه السلام کلامه بشأن من هجم علیه سکرة الموت فی أنّه فاق من غفلته واستغرق فی التفکیر فهو یفکر فیم أقضی عمره وذهب به أدراج الریاح وکیف أفنی دهره: «یفکر فیم أفنی عمره، وفیم أذهب دهره» .

یتذکر هنا الأموال والثروات التی جمعها وقد أغمض عینیه عن الکیفیة التی جمعت بها

ص:374

دون الاکتراث إلی الحلال والحرام والمحظور والممنوع: «ویتذکر أموالاً جمعها، أغمض (1)فی مطالبها، وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعها، وأشرف علی فراقها» .

نعم فهو یفیق إلی نفسه وأول کابوس یقض مضجعه ویهیمن علی کیانه هو کابوس أمواله؛ الأموال التی لم یفکر بالحلال والحرام فی جمعها بعد أن أعماه حبّ الدنیا، أو أنّه اعتمد بعض التوجیهات المشبوهة لیستحوذ علی بعض الأشیاء، والآن بعد أن رفع عنه الحجاب فهو یری العبیء الثقیل الذی طال عاتقه متمثلاً بحق اللّه وحق الناس، والأنکی من ذلک عدم وجود سبیل إلی الفرار. لیس له من لسان لبیان هذه المشکلة، وإن کان له من بیان، فلیس هنالک من یسمع! ولو سمعه من حوله من قرابته ووارثیه اکتفوا بالقول (أنّه لیهجر حیث فقد عقله وفکره) لیتمکنوا من مصادرة أمواله بسهولة.

وهذا هو البؤس الحقیقی فی أن یشقی الإنسان بجمع هذه الأموال وتبقی علیه تبعتها ومسؤولیتها، بینما یخلفها الآن إلی غیره ویفارقها إلی غیر رجعة.

ومن هنا قال علیه السلام: «تبقی لمن وراءه ینعمون فیها، ویتمتعون بها، فیکون المهنأ لغیره، والعب (2)علی ظهره، والمرء قد غلقت رهونه (3)بها» .

یالها من مصیبة! أن یری الإنسان کل هذه القصور الفخمة والأجهزة المتطورة والثیاب الفاخرة ووسائل الراحة الراقیة والأموال الوفیرة التی عانی ما عانی فی الدنیا من أجل الحصول علیها وهو یهبها الان لقمة سائغة لمن وراءه! والأدهی من ذلک ذهبت لذتها لغیره وبقیت تبعتها علیه.

ولیت شعری لیس له الآن سوی الحسرة والندم فلم تعد هناک من فرصة لتلافی ما فرط

ص:375


1- 1) «أغمض» من مادة «غمض» علی وزن نبض اطباق الجفن علی العین، ثم اطلق علی کل تساهل وغفلة.
2- 2) «العب» بمعنی الحمل والثقل.
3- 3) «رهون» جمع «رهن» حبس الشیء وهو عادة سند یسلم مقابل قرض لایعاد مالم یسدد «والمرء قد غلقت رهونه بها» استحقها مرتهنها وأعوزته القدرة علی تخلیصها، کنایة عن تعذر الخلاص.

منه وتدارک ما قصر فیه ولذلک قال علیه السلام: «فهو یعض یده ندامة علی ما أصحر له (1)عند الموت من أمره، ویزهد فیما کان یرغب فیه أیام عمره» .

وهنا یتذکر الحساد الذین واجهوه فی حیاته وحاولوا الاستیلاء علی أمواله وثرواته ویسلبوه ملکیتها، إلّاأنّه حال دونهم بفکره وشطارته ولم یدعهم ینیلون منها، إذ ذاک تمنی حین هجم علیه الموت ألا یکون قد أخذها، ولیتها صارت من نصیب من حسده وغبطه علیها: «ویتمنی أن الذی کان یغبطه بها ویحسده علیها قد حازها دونه» .

ثم خاض علیه السلام فی تفاصیل الموت بعبارات تهز النفس وتوقظ الضمیر، وکأنّه یعیش تلک الحالة ویوشک أن یودع الدنیا الفانیة: «فلم یزل الموت یبالغ فی جسده حتی خالط لسانه سمعه، فصار بین أهله لاینطق بلسانه، ولایسمع بسمعه» .

فأخذت الأعضاء تموت الواحد بعد الآخر ولم یبق له من لسان ناطق أو أذن سامعة: «یردد طرفه بالنظر فی وجوههم، یری حرکات ألسنتهم، ولایسمع رجع کلامهم» أنّهم یسعون لأنّ یرتبطوا به ولکن لم یعد هنالک من سبیل.

ثم قال علیه السلام: «ثم ازداد الموت التیاطاً (2)به، فقبض بصره کما قبض سمعه، وخرجت الروح من جسده، فصار جیفة بین أهله، قد أو حشوا من جانبه، وتباعدوا من قربه، لا یسعد باکیاً، ولا یجیب داعیاً» .

ثم بلغ مرحلته الأخیرة: «ثم حملوه إلی مخط (3)فی الأرض، فأسلموه إلی عمله، وانقطعوا عن زورته (4)» .

لقد ألفوه سنوات، کان یضحکون معه وربما لم یطیقوا بعده، أمّا الآن بعد أنّ حل الموت بساحته، فهم لم یعودوا یتحملوا الجلوس بقربه ولو لساعه، وکأنهم لم یألفوه وکانوا غرباء عنه.

تأمّل: سکرة الموت والاحتضار

لیست هناک من لحظة یتعرض فیها الإنسان لأعظم خطر طیلة حیاته أبلغ وأوجع من لحظة الاحتضاره فهی.

ص:376


1- 1) «أصحر» برز فی الصحراء، أی علی ما ظهر له وانکشف من أمره.
2- 2) «التیاط» من مادة «لیط» علی وزن لیل الالتصاق.
3- 3) «مخط» الحفرة وتطلق علی القبر، لأنّهم بحظون ثم یحفرون.
4- 4) «زوره» من مادة «الزیارة» وجاءت بهذا المعنی.

لحظة انتهاء الامال والأمانی.

لحظة الاغماض عن کافة وسائل الحیاة.

لحظة مفارقة الأهل والأقرباء والأصدقاء.

لحظة وداع الدنیا وما فیها.

وبالتالی لحظة الانتقال إلی عالم جدید ربما انطوی علی کثیر من المشاکل والمعضلات الخطیرة.

وقد صور الإمام علیه السلام هذه اللحظات بصورة دقیقة متابعا الموت مرحلة مرحلة تملأ القلب رعبا وخشیة إذا ما تمثلها علی حقیقتها.

فقد هدف الإمام علیه السلام إلی ایقاظ الإنسان من غفلته قبل أن یفیق فی اللحظة حین لا یجدیه نفعاً، فیستعد لها ویهیی الزاد اللازم لها.

وهنا لاینبغی أن ننسی بأنّ أولیاء اللّه والصالحین من العباد إنّما یستقبلون الموت برحابة صدر وطلاقة وجه؛ وذلک لأنّهم یرون الموت طفرة نحو السعادة والخلود والحیاة الابدیة، وبعبارة اُخری فانّ سکرات الموت إنّما تتوقف علی أعمال الإنسان، وعلیه فیمکن أن تکون من أخطر اللحظات وأصعبها، کما یمکن أن تکون من أجملها وأروعها.

ص:377

ص:378

القسم الخامس: قیامة الناس

«حَتَّی إِذَا بَلَغَ الْکِتَابُ أَجَلَهُ، وَالاَمْرُ مَقَادِیَرهُ، وَأُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ، وَجَاءَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ مَا یُرِیدُهُ مِنْ تَجْدِیدِ خَلْقِهِ، أَمَادَ السَّماءَ وَفَطَرَهَا، وَأَرَجَّ الأَرْضَ وَأَرْجَفَهَا، وَقَلَعَ جِبَالَها وَنَسَفَهَا، وَدَکَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَیْبَةِ جَلاَلَتِهِ وَمَخُوفِ سَطْوَتِهِ، وَأَخْرَجَ مَنْ فِیهَا، فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلاَقِهمْ، وَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ، ثُمَّ مَیَّزَهُمْ لِما یُریدُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَایَا الأَعْمَالِ وَخَبَایَا الاَفْعَالِ، وَجَعَلَهُمْ فَرِیقَیْنِ: أَنْعَمَ عَلَی هؤُلاَءِ وانْتَقَمَ مِنْ هؤُلاَءِ» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام علیه السلام فی مرحلة اُخری تواجه الإنسان، بعد أنّ أشار إلی دنیا الطالحین واللحظات المریرة التی یعیشونها آخر حیاتهم حین الاحتضار. فقد تطرق علیه السلام هنا إلی القیامة والحساب لیکمل بحث مصیر الإنسان ویکون عبرة للاخرین، بهدف الیقظة والابتعاد عن الانحراف وسلوک الصراط المستقیم.

فقال علیه السلام: «حتی إذا بلغ الکتاب أجله، والأمر مقادیره، وألحق آخر الخلق بأوله، وجاء من أمر اللّه ما یریده من تجدید خلقه» ، نعم فحیاة الإنسان فی هذه الدنیا لیست هدفاً غائیاً، بل هی مقدمة لتلک الحیاة الخالدة فی ذلک العالم الخالد.

«أماد (1)السماء و فطرها، و أرج (2)الأرض و أرجفها، (3)و قلع جبالها و نسفها، (4)

ص:379


1- 1) «أماد» من مادة «مید» الحرکة والاضطراب.
2- 2) «أرج» من مادة «رجّ» علی وزن «حجّ» ومعناها التحریک الشدید.
3- 3) «أرجف» من مادة «رجف» علی وزن «کشف» بمعنی الاضطراب والاهتزاز الشدید، ومن هنا یطلق علی الأخبار التی تثیر الفتنة ب «الأراجیف» والتی تسبب الاضطرابات فی المجتمع.
4- 4) «نسف» من مادة «نسف» علی وزن «حذف» بمعنی وضع الحبوب التی یستفاد منها کمادة غذائیة فی الغربال، وتحریکه أو یُذری فی الهواء من أجل فصل الحبوب عن القشور. وهنا تأتی بمعنی تحطیم وتلاشی الجبال و بشکل شدید.

ودک (1)بعضها بعضا من هیبة جلالته ومخوف سطوته» .

حیث یقع انفجار عظیم فی السموات والأرض فیضنی عالم المادة تماماً فیظهر علیه عالم جدید، کما أشار القرآن الکریم إلی ذلک العالم کونه العالم الذی تقام علیه القیامة والحساب: «یَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرضُ غَیْرَ الأَرضِ وَالسَّمواتُ وَبَرَزُوا لِلّهِ الواحِدِ القَهّارِ» . (2)

والواقع هو أنّ الإمام علیه السلام قد اقتبس هذه العبارة من الآیة الشریفة: «إِذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ * وَ إِذا الکَواکِبُ انْتَثَرَتْ» (3).

کما قال بشأن الأرض: «إِذا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الجِبالُ بَسّاً * فَکانَتْ هَباءً مُنْبَثّاً» (4).

وقال: «یَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ * تَتْبَعُها الرّادِفَةُ» (5)

ثم قال علیه السلام: «وأخرج من فیها، فجددهم بعد إخلاقهم جمعهم بعد تفرقهم» . (6)

وهذه بدایة قیامة الإنسان، حیث یعود إلی حیاة جدیده یرد بها المحشر.

والعبارة «جددهم» إشارة واضحة إلی المعاد الجسمانی واعادة بناء الإنسان وتکامله الجسمی فی المحشر.

والعبارة «وجمعهم بعد تفرقهم» ممکن أن تکون إشارة إلی تجمع الناس فی المحشر، أو جمع الذرات المتفرقة لکل إنسان من أجل تجدید حیاته، ولا مانع أن تکون العبارة إشارة إلی کلا المعنیین.

ثم قال علیه السلام: «ثم ممیزهم لما یریده من مسألتهم عن خفایا الأعمال، وخبایا الأفعال،

ص:380


1- 1) «دک» فی الاصل بمعنی تسویة الأرض، ومن هنا فان عملیة تسویة وتعدیل الارض الغیر المستویة یحتاج الی ان ندکها، ویستعمل هذا الاصطلاح فی موارد عدیدة بمعنی التحطیم الشدید.
2- 2) سورة ابراهیم/48. [1]
3- 3) سورة الانفطار/1-2. [2]
4- 4) سورة الواقعة/4-6. [3]
5- 5) سورة النازعات/6- 7. [4]
6- 6) «إخلاق» من مادة «خلق» علی وزن شفق البلی.

وجعلهم فریقین: أنعم علی هؤلاء وانتقم (1)من هؤلاء» .

والعبارة: «خبایا الأفعال، وخفایا الأعمال» یمکن أن یرادبها مطلب واحد، یعنی الأعمال الخفیة: کما یحتمل أن تکون «خفایا الاعمال» إشارة إلی الأعمال التی تتم فی الخفاء وان أتی بها وسط الناس، و «خبایا الأفعال» إشارة إلی الأعمال التی تتم فی الخلوات، لأنّ خبایا جمع خبیئة الشیء المخبوء.

علی کل حال لیس هنالک من عمل من أعمالنا بخفی علی اللّه، لأنّه حاضر فی کل مکان و العالم حاضر لدیه.

ص:381


1- 1) «انتقم» من مادة «نقمة» علی وزن نعمة تعنی فی الأصل الجزاء والعقاب، کما تأتی بمعنی الثأر المقرون بالعداء، الا انها وردت بالمعنی الأول فی الخطبة والاستعمالات القرآنیة.

ص:382

القسم السادس: الثواب والعقاب

اشارة

«فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابِهُمْ بِجِوَارِهِ، وَخَلَّدَهُمْ فِی دَارِهِ، حَیْثُ لاَیَظْعَنُ النُّزَّالُ، وَلاَتَتَغَیَّرُ بِهِمُ الْحَالُ، وَلاَ تَنُوبُهُمُ الاَفْزَاعُ، وَلاَتَنَالُهُمُ الاَْسقَامُ، وَلاَتَعْرِضُ لَهُمُ الاَخْطَارُ، وَلاَ تُشْخِصُهُمُ الاَسْفَارُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِیَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ، وَغَلَّ الأَیْدِیَ إِلَی الأَعْنَاقِ، وَقَرَنَ النَّوَاصِیَ بِالاَقْدَامِ، وَأَلْبَسَهُمْ سَرَابِیلَ الْقَطِرَانِ، وَمُقَطَّعَاتِ النِّیرَانِ، فِی عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ، وَبَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَی أَهْلِهِ، فِی نَارٍ لَهَا کَلَبٌ وَلَجَبٌ، وَلَهَبٌ سَاطِعٌ، وَقَصِیفٌ هَائِلٌ، لاَ یَظْعَنُ مُقِیمُهَا، وَلاَ یُفَادَی أَسِیرُهَا، وَلاَ تُفْصَمُ کُبُولُهَا. لاَ مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَی، وَلاَ أَجَلَ لِلْقَومِ فَیُقْضَی» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا الموضع من الخطبة - الذی یمثل فی الواقع آخر مرحلة سیر الإنسان - إلی جانب من ثواب المحسنین وعقاب المسیئین فقال: «فأما أهل الطاعة فأثابهم بجواره، وخلدهم فی داره» .

ثم تحدث علیه السلام عن خصائص تلک الدار بعبارات قصار بعیدة المعنی «حیث لایظعن (1)النزال، ولا تتغیر بهم الحال» . وإلی جانب ذلک فلا من خوف ولا مرض ولاخطر ولاسفر یخرج من الدیار «ولا تنوبهم الأفزاع (2)، ولا تنالهم الأسقام، ولا تعرض لهم الأخطار ولا تشخصهم (3)الأسفار» .

ص:383


1- 1) «یظعن» من مادة «ظعن» السفر.
2- 2) «أفزاع» جمع «فزع» الخوف.
3- 3) «تشخص» من مادة «إشخاص» الاخراج من منزل إلی آخر.

وعلیه فالحوادث المزعجة والعوارض المقلقة التی تصدع باستمرار هدوء الإنسان فی الحیاة الدنیا، لا وجود لها فی الآخرة، والإنسان فی راحة تامة هناک ینعم بالسکینة والاستقرار والحیاة المملوءة بالفرح والسرور، فلیس هنالک من خطر یهدده، ولامرض ولا عوامل طبیعیة مرعبة من قبیل السیول والزلازل والقحط وسائر الحوادث الاجتماعیة التی تدعوا إلی النزاع والحرب فتهدد أمنه.

والفارق بین العبارة «لایظعن النزال» والعبارة «ولا تشخصهم الأسفار» فی أنّ الاولی إشارة إلی السفر الاضطراری الذی قد یجبر علیه الإنسان فی الدنیا أحیاناً فیترک وطنه بالمرة، والثانیة إشارة إلی الأسفار التی یضطر لها الإنسان فی الدنیا بهدف تلبیة حاجاته ومتطلباته فیتحمل المشاق والمصاعب، ولیس هنالک أی من هذین السفرین فی الدار الآخرة.

نعم فالحیاة الدنیا مهما کانت مریحة مفعمة بالنعم إلّاأنّها لیست حلوة مرجوة بسبب تلک الآفات والعوارض؛ بینما حلوة هی الدار الآخرة لخلوها من هذه الآفات والعوارض.

وهنا قد یقتدح إلی الأذهان هذا السؤال اننا لندرک قیمة النعمة حین نفقدها والصحة والعافیة والسلامة حین السقم والمرض، وما لم نر ظلمة اللیل فلا نقف علی أهمیة شعاع الشمس فی النهار، أفلا یغیب عن الإنسان إدراک لذة تلک النعم إذا لم تطرأ علیها الحوادث المذکورة؟

وللاجابة علی هذا السؤال لابدّ من الالتفات إلی نقطتین: الاولی أنّ نعم الآخرة فی حالة تغییر، أی هناک نعمة تستبدل باُخری علی الدوام، وکل یوم یفاض علیهم نعم جدیدة، ومن شأن هذا التغییر أن یقضی علی حالة الرتابة. والثانیة ما یجعل نعم الدنیا مریرة هو أنّها محفوفة بالاخطار، والذی یؤرق الإنسان هو عدم انفکاکه عن التفکیر فی سلبها وزوالها، وقد أشار الإمام علیه السلام إلی عدم وجود هذه الاُمور فی نعم الآخرة.

فقد ورد علی لسان أهل الجنّة حین حمدهم للّه وثنائهم علیه: «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی أَذهَبَ عَنّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَکُورٌ * الَّذِی أَحَلَّنا دارَ المُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا یَمَسُّنا

ص:384

فِیها نَصَبٌ وَلا یَمَسُّنا فِیها لُغُوبٌ» (1).

ثم خاض علیه السلام فی تفاصیل أهل المعصیة وما یتعرضون له من مشقة «وأمّا أهل المعصیة فأنزلهم شر دار، وغل الایدی إلی الاعناق، وقرن النواصی بالأقدام» .

والعبارات إشارة إلی ما صرح به القرآن الکریم: «إِذِ الأَغْلالُ فِی أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ یُسْحَبُونَ * فِی الحَمِیمِ ثُمَّ فِی النّارِ یُسْجَرُونَ» (2).

ثم واصل علیه السلام کلامه قائلاً: «وألبسهم سرابیل القطران، ومقطعات النیران، فی عذاب قد اشتد حره، وباب قد أطبق علی أهله، فی نار لها کلب (3)ولجب (4)، ولهب ساطع، وقصیف (5)هائل» .

فالعبارات تفید شدة حرارة نار جهنم المحرقة، حیث تتصاعد السنتها إلی عنان السماء مصحوبة بالأصوات المرعبة.

ثم قال علیه السلام: «لایظعن مقیمها، ولا یفادی أسیرها، ولا تفصم (6)کبولها (7)لا مدة للدار فتفنی، ولا أجل للقوم فیقضی» .

ولو تصور الإنسان فی ذهنه لحظة هذا العذاب الشدید والمرعب، لما قارف الذنب، وهذا هو هدف الإمام علیه السلام من شرح هذا العذاب!

وقد أکدت الروایات الإسلامیة التمعن فی الآیات القرآنیة التی تتحدث عن الثواب، والتوقف عند تلک التی تتحدث عن العذاب.

ص:385


1- 1) سورة فاطر/34 - 35. [1]
2- 2) سورة غافر/71- 72. [2]
3- 3) «کلب» من مادة «کَلْب» علی وزن «جلب» وفی الاصل بمعنی الضغط علی الحصان بواسطة المهماز و ذلک لکی یُسرع فی عدوه، وهذا الاصطلاح یستعمل لأی نوع من أنواع الشدة.
4- 4) «لجب» له معنی المصدر واسم المصدر الصوت المرتفع.
5- 5) «قصیف» أشد الصوت.
6- 6) «تفصم» من مادة «فصم» علی وزن نظم کسر الشیء دون فصله، وتعنی القطع.
7- 7) «کبول» جمع «کبل» القید.

وهو ذات الأمر الذی أکده الإمام علیه السلام فی الخطبة 93 وهو یصف المتقین: «فاذا مروا بآیة فیها تشویق رکنوا إلیها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إلیها شوقاً، وظنوا أنّها نصب أعینهم، وإذا مروا بآیة فیها تخویف أصغوا إلیها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفیر جهنم وشهیقها فی أصول آذانهم» .

تأمّل: اُسلوب الهدایة

حقاً أنّه لاسلوب عظیم فی هدایة الإنسان ونجاته هذا الذی اعتمده الإمام علیه السلام بهذه العبارات التی تختزن الآثارة والتحذیر.

فقد الستهل الخطبة بالاشارة إلی صفات الجمال والجلال وقدرته العظیمة سبحانه وعلمه المطلق بکل شیء ممّا یصدر من العباد إلی جانب عظمة عالم الوجود.

ثم تحدث علیه السلام عن خلق أصناف الملائکة وعبادتها وطاعتها، لیبین زهادة عبادة الإنسان بالنسبة لتلک العبادة.

آنذاک تطرق علیه السلام إلی خلق الإنسان ونعمه الجمة سبحانه، ثم ذم بشدة طلاب الدنیا، محذراً إیّاهم من التعلق بهذه النعم الزائلة.

کما تحدث علیه السلام عن الموت وانتهاء الحیاة وسکرات الموت ومدعی الحسرة والندم التی یشعر بها الاثم علی أعتاب الموت، حتی رسم صورة یهتز لها القلب ویتیقظ لها الوجدان، وتفیق لها الأرواح المیتة.

وأخیراً إختتم علیه السلام الخطبة بالإشارة إلی الثواب الذی ینتظر الصالحین والعقاب الذی ینتظر المسیئین، لیلتفت کل إنسان إلی نفسه ویراقب عمله.

نعم فقد خط هذا الطبیب الروحی العظیم وصفة لمرضی القلوب لاتحمل لهم سوی العلاج إن إلتزموا بالعمل بها.

ص:386

القسم السابع: زهد النبی صلی الله علیه و آله

اشارة

ومنها فی ذکر النبی صلی الله علیه و آله

«قَدْ حَقَّرَ الدُّنْیَا وَصَغَّرَهَا وَأَهْوَنَ بِهَا وَهَوَّنَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللّهَ زَوَاهَا، عَنْهُ اخْتِیَاراً، وَبَسَطَهَا لِغَیْرِهِ احْتِقَاراً، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْیَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِکْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِیبَ زِینَتُهَا عَنْ عَیْنِهِ، لِکَیْلاَ یَتَّخِذَ مِنْهَا رِیَاشاً، أَوْ یَرْجُوَ فِیهَا مَقَاماً. بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً، وَنَصَحَ لاُمَّتِهِ مُنْذِراً، وَدَعَاَ اِلَی الْجَنِّةِ مُبَشِّراً، وَخَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً» .

الشرح والتفسیر

خاض الإمام علیه السلام هنا فی صفات النبی صلی الله علیه و آله ورغبته عن هذه الدنیا لتکون سیرته قدوة تامة للاُمّة، و لیبین کیف یستطیع الإنسان أن یعیش الأمان من أخطار الدنیا فی ظل الإیمان و العمل الصالح فقال علیه السلام: «قد حقر الدنیا وصغرها، وأهون بها وهونها» .

فالعبارة إشارة واضحة إلی زهده صلی الله علیه و آله: لأن من یحقر الدنیا ویوصی الاخرین باحتقارها، قطعا لیس له أدنی تعلق بها، وذلک لأنّ الشیء الحقیر والتافه لیس له قیمة فی استقطاب القلب والسیطرة علی العقل.

ثم أکد علیه السلام هذا المعنی بالقول: «وعلم أنّ اللّه زواها (1)عنه اختیاراً (2)، وبسطها لغیره احتقاراً» . والعبارة شبیه ماورد فی الآیة الشریفة من سورة الزخرف: «وَلَوْلا أَنْ یَکُونَ النّاسُ

ص:387


1- 1) «زوی» من مادة «زی» علی وزن طی الجمع والفیض والابعاد.
2- 2) «اختیار» بمعنی الانتخاب والاصطفاء والاعتزاز ضد «الاحتقار» .

أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ یَکْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُیُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَیْها یَظْهَرُونَ* وَلِبُیُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَیْها یَتَّکِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَ إِنْ کُلُّ ذ لِکَ لَمّا مَتاعُ الحَیاةِ الدُّنْیا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّکَ لِلْمُتَّقِینَ» . (1)

ثم واصل علیه السلام کلامه عن النبی صلی الله علیه و آله: «فأعرض عن الدنیا بقلبه، وأمات ذکرها عن نفسه، وأحب أن تغیب زینتها عن عینه، لکیلا یتخذ منها ریاشاً، أو یرجو فیها مقاماً» .

ورد الریاش بمعنی المفرد والجمع وهو اللباس الفاخر، وأصلها الریش، ویمکن أن یراد به جمیع زینة الدنیا ومنها اللباس الفاخر.

فأول مزیة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله عدم اغتراره بزخرف الدنیا وزینتها فلم یقع فی مخالبها قط.

المزیة الاُخری للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله تکمن فی وظیفته بتبلیغ الرسالة وایصال أوامر اللّه ونواهیه إلی جمیع العباد، وقد استفرغ وسعه فی هذا السبیل، حیث قال علیه السلام: «بلغ عن ربّه معذراً، ونصح لأمته منذراً، ودعا إلی الجنّة مبشراً، وخوف من النار محذراً» .

قطعاً لو فشل الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله فی المرحلة الاولی فی کیفیة التعامل مع الدنیا واغتر بنعمها ولذاتها، لما تمکن قط من القیام بالمرحلة الثانیة فی ابلاغ الرسالة السماویة، فأین إسارة النفس فی الدنیا من ابلاغ الرسالة.

ورد فی حدیث الإمام الصادق علیه السلام أنّ اللّه أوحی إلی موسی بن عمران علیه السلام: «یا موسی إنّ الدنیا دار عقوبة عاقبت فیها آدم عند خطیئته، وجعلتها ملعونة، ملعون ما فیها إلّاما کان لی. یا موسی إنّ عبادی الصالحین زهدوا فی الدنیا بقدر علمهم، وسائر الخلق رغبوا فیها بقدر جهلهم» . (2)

تأمّل: الشرط الاصلی فی الزعامة

إنّ أعظم مشکلة تهدد القادة والزعماء إنّما تمکن فی تهافتهم علی مادیات الدنیا؛ الأمر الذی یؤدی إلی تقدیمهم الأفراد السیئین علی الصالحین بدافع من حفظ منافعهم ومصالحهم المادیة،

ص:388


1- 1) سورة الزخرف/33 - 35. [1]
2- 2) الکافی 2/317 ح 9. [2]

إلی جانب ایثارهم للظلم والجور علی العدل والقسط لذات الهدف.

إنّهم یعتمدون المنافع المادیة کمعاییر فی تعاملهم مع کل شیء فیضحون بالمبادیء الإلهیة والعقلائیة والإنسانیة من أجل تحقیق منافعهم الدنیویة الرخیصة.

ومن هنا کان أول أمر أکده الإمام علیه السلام فی إطار وصفه للرسول الأکرم صلی الله علیه و آله هو عدم اعتنائه بالدنیا وتصغیرها وتحقیرها، ممّا جعله لا یکترث لجمیع ما فیها، ویمحوها من ذاکرته.

وقد صرح القرآن الکریم مراراً بشأن الأنبیاء ولاسیما نبی الرحمة صلی الله علیه و آله أنّهم لایسألون الناس أجراً علی ابلاغ الرسالة، وکانت معیشتهم فی الدنیا معیشة المستضعفین وهذا ما جعلهم یجرون الحق ویقیمون العدل بحق الجمیع ولا یخشون سطوة ظالم ولا یحسبون حساباً لاصحاب المال والثراء.

فضریبة الحیاة المرفهة با هضة لاتتأتی إلّامن خلال مماشاة أصحاب الثراء ومداهنتهم؛ الأمر الذی یهدد بالصمیم الحق والعدل والإدارة الصالحة الطاهرة.

وقد بلغ من زهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وانصرافه عن الدنیا أنّه کان یجلس علی الحصیر ویتوسد اللیف حتی أثر فی بدنه الطاهر، ولما قیل له هذا کسری وقیصر یجلسان علی الحریر والدیباج وانت تجلس علی الحصیر. ردّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «إنّما مثل الدنیا کمثل راکب مر علی شجرة ولها فیء فاستظل تحتها، فلما أن مال الظل عنها ارتحل فذهب وترکها» (1).

ص:389


1- 1) بحار الانوار 16/283. [1]

ص:390

القسم الثامن: أهل البیت علیهم السلام

«نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُّوةِ، وَمَحَطُّ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفُ الْمَلائِکَةِ، وَمَعَادِنُ الْعِلْمِ، وَیَنَابِیعُ الْحُکْمِ، نَاصِرُنا ومُحِبُّنَا یَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ وَعَدُوُّنا وَمُبْغِضُنَا یَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ» .

الشرح والتفسیر

اختتم الإمام علیه السلام خطبته بعد ذکر أوصاف النبی صلی الله علیه و آله بالحدیث عن صفات أهل البیت علیه السلام و قد بلغ بالفصاحة و البلاغة ذروتها بهذا الختام الحسن فقال: «نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف (1)الملائکة، ومعادن العلم، وینابیع الحکم» .

فالتعبیر بالشجرة یفید أنّ النبوة کالشجرة المثمرة التی لها فروع وأغصان مختلفة، جذرها وساقها النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، وأوراقها أولاده، وثمرتها هدایة الناس إلی اللّه.

وشبه علیه السلام أهل البیت فی العبارة الثانیة بالموضع الذی تهبط فیه الرسالة من جانب اللّه سبحانه، کما وصفهم فی العبارة الثالثة بالموضع الذی تختلف إلیه الملائکة فی صعودها ونزولها. علی علیه السلام وولده ممن تربوا فی هذه الاسرة لیستضیئوا بنور الوحی.

ولعل المراد بالملائکة هنا ملائکة الوحی (جبرئیل ومن معه) الذین کانوا یهبطون علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله، أو أنّها إشارة إلی المعنی الأعم فیشمل جمیع الملائکة الذین یختلفون علیهم للخدمة والبشارة وأمثال ذلک، علی کل حال فلیس المراد أنّ الوحی کان ینزل علی غیر رسول اللّه صلی الله علیه و آله.

ص:391


1- 1) «مختلف» من مادة «اختلاف» وتأتی هنا بمعنی الذهاب والإیاب، ومن هنا فان کلمة «مُختَلَف» تعنی هنا محل الذهاب والإیاب.

والفارق بین شجرة النبوة ومحط الرسالة أنّ للنبی صلی الله علیه و آله مقامان: مقام النبوة وهو الأخبار عن اللّه ومقام الرسالة وهو ابلاغها. وبعبارة اُخری فان النبی صلی الله علیه و آله مأمور بالابلاغ، والرسالة تقترن عادة بالإمامة والزعامة والإجراء.

والمراد بمعادن العلم أئمة أهل البیت علیهم السلام ورثة علوم النبی صلی الله علیه و آله وحفظة الکتاب والسنة.

فقد قیل فی سبب نزول الآیة الشریفة: «وَتَعِیَها أُذُنٌ واعِیَةٌ» (1).

إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: سألت ربّی أن یجعلها أذن علی. ثم قال علی علیه السلام: «ما سمعت من رسول اللّه شیئا فنسیته» (2).

وکذلک الحدیث: «علی مع القرآن، والقرآن مع علی» (3).

والحدیث: «أنا مدینة العلم وعلی بابها» (4).

وهکذا سائر الأحادیث المعروفة التی روتها کتب الفریقین، تفید بأجمعها کون أهل البیت معادن العلم والحکمة.

والفارق بین معادن وینابیع هو أنّ المعدن الشیء الذی یقصده الناس وینتفعون به، أمّا الینابیع ما یفیض علی الناس.

ثم إختتم علیه السلام کلامه بالقول: «ناصرنا ومحبنا ینتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ینتظر السطوة» (5).

طبعاً لا تعنی هذه العبارة أنّ لهم حقا مثل هذا الانتظار، بل تعنی أنّهم لابدّ أن ینتظروا مثل هذه العاقبة المشؤومة، فالواقع أنّه نوع من التهدید بالعذاب الإلهی فی الدنیا والآخرة.

ص:392


1- 1) سورة الحاقة/12. [1]
2- 2) راجع نفحات القرآن 9/359؛ [2]بحار الانوار 35/326-331. [3]
3- 3) الغدیر 3/178 و180.
4- 4) الغدیر 6/61-80.
5- 5) «سطوة» الوثوب علی الشخص وقهره، ولما کان من لوازم ذلک العقاب، فقد وردت بهذا المعنی فی العبارة.

الخطبة المأة و عشر

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

فی أرکان الدین

نظرة إلی الخطبة

تتألف هذه الخطبة فی الواقع من قسمین: القسم الأول: الذی تطرق فیه الإمام علیه السلام إلی أفضل ما تقرب به العباد إلی اللّه من قبیل الإیمان والجهاد والاخلاص والصلاة والزکاة، ثم ذکر فلسفة کل شعیرة من هذه الشعائر بعبارة قصیرة عمیقة المعنی.

القسم الثانی: بیان الأبعاد العملیة للایمان وطرق بلوغها والوصیة بذکر اللّه والاقتداء بهدی النبی صلی الله علیه و آله واتباع سنته والاهتمام بتعلم القرآن وفهم آیاته.

ثم اختتم علیه السلام الخطبة بالذم الشدید للعالم بلا عمل وشدة عقابة.

ص:393


1- 1) سند الخطبة: قال صاحب مصادر نهج البلاغة بدایة الخطبة «الحمد للّه فاطر الخلق وخالق الأشباح» وهی خطبة معروفة مشهورة تعرف بخطبة الدیباج. رواها قبل السید الرضی (ره) المرحوم الصدوق فی کتاب من لایحضره الفقیه (1/131) بتفاوت وفی علل الشرایع، کما وردت فی تحف العقول وفی کتاب المحاسن (مصادر نهج البلاغة 2/238) إلّاأنّ الخطبة فی تحف العقول بدأت «الحمد للّه فاطر الخلق، وخالق الاصباح» ثم اورد الخطبة وذکرانها تعرف بخطبة الدیباج. (تحف العقول، /104 - 107) .

ص:394

القسم الأول: فرائض الإسلام

اشارة

«إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ اِلَی اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی، الإِیمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَالْجِهادُ فِی سَبِیِلهِ، فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الإِسْلامِ؛ وَکَلِمةُ الإِخْلاَصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ؛ وَإِقاَمُ الْصَلاةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ؛ وَإِیتَاءُ الزَّکاةِ فَإِنَّهَا فَرِیضَةٌ وَاجِبَةٌ؛ وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةُ مِنَ الْعِقَابِ؛ وَحَجُّ الْبَیْتِ وَاعْتَِمارُهُ فَإِنَّهُمَا یَنْفِیَانِ ألْفَقْرَ وَیَرْحَضَانِ الذَّنْبَ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِی الْمالِ، وَمَنْسَأَةٌ فِی الأَجَلِ؛ وَصَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُکَفِّرُ الْخَطِیئَةَ؛ وَصَدَقَةُ الْعَلانِیَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِیتَهَ السُّوءِ؛ وَصَنَائِعُ الْمَعرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِی مَصَارِعَ الْهَوَانِ» .

الشرح والتفسیر

تحدث الإمام علیه السلام هنا عن أفضل الأعمال التی یؤدیها سالکی طریق العبودیة ودعاة الحق للتقرب إلی اللّه فقال علیه السلام: «إنّ أفضل ما توسل به المتوسلون (1)إلی اللّه سبحانه وتعالی، الإیمان به وبرسوله» .

وکان هذه العبارة إشارة إلی الآیة الشریفة: «یا أَیُّها الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَیْهِ الوَسِیلَةَ» (2). إلی جانب شرحها و تفسیرها، فقد أمر اللّه سبحانه فی هذه الآیة بالتقوی ومن ثم انتخاب الوسیلة إلی اللّه.

وعلی هذا فالمراد بالوسیلة الإیمان والجهاد وسائر الاُمور الواردة فی هذه الخطبة ولیس

ص:395


1- 1) «متوسلون» من مادة «وسیلة» بلوغ الشیء مع المیل والرغبة.
2- 2) سورة المائدة/35. [1]

هناک من منافاة بین هذا الکلام والتفسیر الآخر الذی عنی الوسیلة هنا بشفاعة أولیاء اللّه؛ لأنّ کل هذه الوسائل یمکن جمعها فی الآیة الشریفة.

علی کل حال فانّ الوسیلة الاولی التی ذکرت هی الإیمان؛ الإیمان باللّه والنبی، لأنّ الإیمان أساس الحرکة البناءة والفاعلة.

الطریف فی کلام الإمام علیه السلام أنّه تطرق فی کل نقطة دلیلها بصیغة تعلیل وفلسفة لکافة الواجبات العشر الواردة فی العبارة، سوی مسألة الإیمان باللّه والنبی. وذلک لأنّ هذه المسألة غنیة عن ذکر الدلیل، وبعبارة اُخری فانّ أساس الصالحات والخیرات واعمال البر إنّما یکمن فی الإیمان، وبدونه لیس هنالک من حرکة نحو الفرائض الإلهیة والواجبات الدینیة. فالأمر علی درجة من الوضوح بحیث لایحتاج إلی دلیل.

ثم أشار علیه السلام إلی الواجب الثانی: «والجهاد فی سبیله، فانه ذروة (1)الإسلام» وللجهاد هنا معنی واسع یشمل الجهاد العلمی والإعلامی والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وکافة الجهود والمساعی البناءة من أجل النهوض بالاهداف الإسلامیة وحتی جهاد النفس، إلی جانب الجهاد العسکری والمقاومة ضد العدو.

والعبارة «ذروة الإسلام» تفید عدم جدوی الجهاد ما لم یکن عاماً شاملاً. وقد قال الإمام علیه السلام فی موضع آخر من نهج البلاغة بشأن فلسفة الأحکام ومنها الجهاد: «والجهاد عن للإسلام» (2).

ورغم سعی إعداء الإسلام إلی استغلال مفردة الجهاد الإسلامی واساءة تفسیرها من خلال وصفها بالعنف إلّاأنّهم یغفلون عن المعنی الواقعی للجهاد والذی یتمثل بالصمود من أجل الحیاة ومقاومة العناصر الهدامة؛ وهو الأمر الذی أودع طبیعة کل إنسان.

فالحق أنّ الحیاة لتتعذر علینا ولو ضعفت الخلایا لیوم واحد کتلک التی رکبت فی بدن الإنسان وتقوم بوظیفتها فی الدفاع عنه ومهاجمة المکروبات والجراثیم التی تحاول اختراق البدن، وما المرض الخطیر الذی یصطلح علیه بالایدز إلّااختلال القوی الدفاعیة للبدن. فالمجتمع الذی یتخلی عن الجهاد إنّما یکون کهذا المریض المصاب بالایدز، فیصبح مسرحاً

ص:396


1- 1) «ذروة» علی وزن قبلة أعلی الشیء.
2- 2) نهج البلاغة، الحکمة 252. [1]

لهجوم أنواع المشاکل والمعضلات.

وبالطبع أن أولئک الذین صوبوا سهام حقدهم نحو الجهاد الإسلامی، لیعلمون جیداً أنّ التسلط علی المسلمین متعذر مادام هذا الأصل المتمثل بالجهاد نابض بالحیاة، فلو حذف الجهاد بحجة العنف، لم تعد هنالک من مشکلة أمام تسلط الاعداء.

علی کل حال فان ذکر الإمام علیه السلام للجهاد کواجب بعد الإیمان باللّه والنبی یفید موت الدین فی حالة غیاب هذا الواجب.

فقد ورد فی حدیث عن علی علیه السلام: «واللّه ما صلحت دنیا ولا دین إلّابه» (1).

ثم ذکر علیه السلام الواجب الثالث «وکلمة الاخلاص فانها الفطرة» .

والمراد بکلمة الاخلاص «لا إله إلّااللّه» التی تتضمن الشهادة للّه بالوحدانیة والعبودیة ونفی الشرک والوثنیة.

وتفید بعض الروایات أنّ للاخلاص بعد عملی یتمثل بالاقبال علی الحق سبحانه والأغماض عما سواه إلی جانب التحفظ عن ارتکاب الذنب والمعصیة. فقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «من قال لا إلّااللّه عما حرم اللّه» (2).

ومن الواضح أنّ من یقارف الذنوب أو ینقاد للشیطان أو الأهواء فانّه مشرک فی عمله، وهذا ما یتناقض وحقیقة الأخلاص.

ثم قال علیه السلام: «واقام الصلاة فانّها الملة» ، والملة هنا تعنی الدین، أمّا أنّ الصلاة لم تعد جزءاً من الدین بل الدین کله، وذلک لأنّ الصلاة الدعامة الأساسیة للدین. فقد جاء فی الحدیث النبوی المعروف أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «الصلاة عماد الدین، فمن ترک صلاته متعمداً فقد هدم دینه» (3).

کما ورد عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «مثل الصلاة مثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود ثبتت الأطناب والأوتاد والغشاء، وإذا انکسر العمود لم ینفع طنب، ولا وتد ولا غشاء» (4).

ثم قال علیه السلام: «وایتاء الزکاة فانها فریضة واجبة» .

ص:397


1- 1) وسائل الشیعة 1/9.
2- 2) بحار الانوار 8/359. [1]
3- 3) جامع الأخبار ( [2]طبق نقل بحار الانوار 79/202) . [3]
4- 4) منهاج البراعة 7/398 وبحار الانوار 79/218. [4]

تطلق الفریضة عادة علی الواجب، وبناءاً علی فانّ ذکر الواجبة بعدها للتأکید، إلّاأنّ للفریضة معنی آخر أنسب لموضع بحثنا، وهو قطع وفصل الشیء، وهنا قسم من المال الذی یفصل لهدف.

أو بعبارة اُخری الضریبة التی فرضت لمساعدة الضعفاء فی المجتمع وتأمین بعض تکالیف الحکومة الإسلامیة.

وقد ورد فی القرآن بشأن أسهم الإرث: . «نَصِیباً مَفْرُوضاً» (1).

ومن هنا عبر العلماء الاعلام فی مباحث الإرث بکتاب الفرائض بدلاً من کتاب الارث.

علی کل حال فانّ مسألة الزکاة من أهم أرکان الإسلام بعد الصلاة.

وقد جاء فی حدیث عن الإمام الباقر علیه السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان فی مسجده فنادی خمسة أشخاص وقال: «لاتصلوا فیه وانتم لا تزکون» (2).

ثم قال علیه السلام: «وصوم شهر رمضان فانّه جنّة من العقاب» .

ورد التعبیر هنا «جنّة من العقاب» بینما وردت العبارة فی الحدیث المعروف «جنّة من النار» (3).

ویکفی فی فضل الصوم أنّه یخرج الإنسان من البهیمیة إلی عالم الملائکة ویجلسه علی بساط القرب الإلهی.

ثم بین الرکن السابع من أرکان الإسلام فقال: «وحج البیت واعتماره فانّهما ینفیان الفقر ویرحضان (4)الذنب» .

لاشک أنّ لزیارة بیت اللّه برکات مادیة واُخری معنویة وروحانیة، وقد أشیر إلیهما هنا، وقد وردت خلاصة ذلک فی الآیة الشریفة 28 من سورةالحج: «لِیَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» وقد ورد فی الحدیث «یخرج من ذنوبه کهیئة یوم ولدته أمه» (5)أما تأثیره فی ازالة الفقر - علاوة علی برکاته المعنویة - فذلک أنّ المسلمین یستطیعون أن یقیموا الاسواق الاقتصادیة إلی

ص:398


1- 1) سورة النساء/7. [1]
2- 2) شرح نهج البلاغة للمرحوم الشوشتری 13/102. [2]
3- 3) الکافی 4/62 ح 1.
4- 4) «یرحضان» من مادة «رحض» علی وزن محض الغسل، إشارة إلی أنّ الحج والعمرة یغسلان الذنوب.
5- 5) بحار الانوار 69/26. [3]

جانب مراسم الحج من أجل ممارسة الانشطة والمبادلات التجاریة بحیث بدیرون نوعاً من التجارة العالمیة فیما بینهم، فقد کان هناک مثل هذه الأسواق البدائیة علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله.

ولو جد المسلمون الیوم فی تقویة بناهم الاقتصادیة لتمکنوا حقاً من سد حاجات الفقراء والمعوزین. ومن هنا ورد فی حدیث الإمام الصادق علیه السلام: «ما رأیت شیئا أسرع عنی ولا أنفی للفقر من إدمان حج البیت» (1).

ثم قال علیه السلام فی بیان الرکن الثامن: «وصلة الرحم فانّها مثراة (2)فی المال ومنسأة (3)فی الأجل» .

فصلة الرحم واضافة إلی تأثیرها فی ازدیاد المال تؤدی إلی نماء العمر وزیادته، ولعل ذلک لدعاء الأرحام بعضهم لبعض، إلی جانب معونة بعضهم البعض فی الأمراض؛ الأمر الذی یؤدی إلی طول العمر، ناهیک عن تقلیلها من الهم والغم والحزن.

فقد جاء عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «صلة الأرحام تزکی الأعمال، وتنمی الأموال، وتدفع البلوی، وتیسر الحساب، وتنسیء فی الأجل» (4).

ثم قال علیه السلام فی الرکن التاسع من أرکان الإسلام: «وصدقة السر فانّها تکفر الخطیئة، وصدقة العلانیة فانّها تدفع میتة السوء» ، المراد بصدقة السر المساعدات التی یقدمها الإنسان إلی الأفراد المحتاجین والمحترمین بدافع من نیة خالصة إلی جانب السعی لحفظ ماء وجههم، ومن هنا کانت برکاتها جمة، والعبارة تشمل الصدقات الواجبة کالکفارات والنذورات والصدقات المتجة والانفاقات. والمراد بصدقة العلانیة، المعونة الظاهرة ومن برکاتها تشجیع الاخرین علی أفعال الخیر. والعبارة اقتباس من الآیة الشریفة: «الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّیْلِ وَالنَّهارِ سِرّاً وَعَلانِیَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلا هُمْ یَحْزَنُونَ» (5).

ص:399


1- 1) بحار الانوار 66/406. [1]
2- 2) «مثراة» من مادة «ثری» و «ثروة» وتعنی الزیادة، وعلی هذا الاساس، یقال للمال الکثیر «الثروة» و «مثراة» مصدر میمی بمعنی اسم فاعل و یعنی سبب الزیادة.
3- 3) «منسأة» من مادة «نسأ» علی وزن نسخ بمعنی التأخیر، ومنسأة: مصدر میمی بمعنی اسم فاعل یعنی سبب التأخیر. ویقال للعصا «المنسأة» لانها تستعمل لازالة الاشیاء الضارة التی تعترضنا أثناء السیر.
4- 4) الکافی 2/150. [2]
5- 5) سورة البقرة/274. [3]

وتفید روایات الفریقین أنّها نزلت فی علی علیه السلام حین کان له أربعة دراهم انفق واحد منها فی النهار وآخر فی اللیل وآخر سراً وآخر علانیة. (1)

طبعا تطلق الصدقة فی الفقه الإسلامی علی ما یعطی للفقراء بقصد القربی إلی اللّه، إلّا أنّ للصدقة مفهوم واسع یشمل کل عمل خیر اجتماعی کبناء المساجد والمدارس والطریق والمستشفیات والأعمال الثقافیة، ومن هنا جاء فی روایة الإمام الکاظم علیه السلام: «عونک للضعیف من أفضل الصدقة» (2)ولاشک أنّ بناء المستشفیات والمدارس وأمثال ذلک مصداق لعون الضعیف. وورد فی الحدیث النبوی: «کل معروف صدقة» (3).

وورد عنه صلی الله علیه و آله أیضاً: «الکلمة الطیبة صدقة» (4).

وقال الصادق علیه السلام: «إسماع الاصم من غیر تزجر صدقة هنئة» (5).

ونختتم هذا الکلام بحدیث عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی أنّه قال: علی المسلم أن یتصدق کل یوم. فقال رجل: لانقدر کلنا علی ذلک.

فقال صلی الله علیه و آله: «إماطتک الاذی عن الطریق صدقة، وإرشادک الرجل إلی الطریق صدقة، وعیادتک المریض صدقة، وأمرک بالمعروف صدقة، ونهیک عن المنکر صدقة» (6).

والمراد بمیتة السوء، الموت تحت التعذیب والالام، کالاحتراق فی النار، أو أثر الاصابة بمرض خطیر شاق وحوادث الطریق.

ثم قال فی الرکن العاشر من أرکان الإسلام: «وصنائع (7)المعروف فانّها تقی مصارع (8)الهوان» .

ص:400


1- 1) احقاق الحق 3/246-251. [1]
2- 2) تحف العقول، الکلمات القصار للإمام الکاظم علیه السلام.
3- 3) الخصال 1/134.
4- 4) بحار الانوار 80/369. [2]
5- 5) بحار الانوار 71/388. [3]
6- 6) بحار الانوار 72/50 ح 4. [4]
7- 7) «صنائع» من مادة «صنع» علی وزن «قفل» بمعنی صناعة الشیء وابداعه. وفی لغة العرب یقال للاعمال الجیدة والحسنة «الصنائع» وهو جمع «صنیعة» . «نقل من المعجم الوسیط» .
8- 8) «مصارع» جمع «مصرع» بمعنی السقوط علی الارض، ویطلق لمحل القتل بالمصرع، ویقال للصراع بین طرفین «المصارعة» لان کل طرف من هذین الطرفین یحاول أن یطرح الآخر أرضاً.

والعبارة بصنائع المعروف تشمل کل عمل صالح، من قبیل ذکر العام بعد الخاص، کما یحتمل أن یکون المراد بصنائع المعروف مساعدة عباد اللّه.

وقد وردت عن الائمة علیه السلام عدة روایات أکدت مسألة صنایع المعروف، منها ماورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «أول من یدخل الجنّة أهل المعروف» (1)، وقال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام : «علیک بصنائع المعروف فانها نعم الزاد إلی المعاد» (2).

کما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه کان یحث أصحابه علی صنائع المعروف ویقول: إنّ للجنّة باب اسمه المعروف لا یدخله إلّامن کان یصنع المعروف فی الدنیا، ثم قال: «إنّ العبد لیمشی فی حاجة أخیه المؤمن، فیوکل علی اللّه عزوجل به ملکین واحداً عن یمینه، وواحدا عن شماله، یستغفرون له ربّه ویدعوان بقضاء حاجته» (3).

فلسفة الأحکام

غالبا ما یعمد الاطباء المهرة إلی تنبیه مرضاهم إلی الآثار المهمة للأدویة والأطعمة المقویة التی تسرع فی شفاء حالتهم المرضیة؛ لکی یتحملوا مرارة الدواء برغبة ولهفة ویلتزموا بارشادات الطبیب. ولعل الأطباء الروحیین یسیرون علی هذا النهج فیبینون فلسفة تشریع الأحکام ومعطیات البرامج الدینیة للناس، لیثیروا فیهم الشعور والدافع نحو هذه البرامج ویرسخوا عزمهم فی تنفیذها.

وقد راینا فموذج ذلک - بیان فلسفة الأحکام - فی هذه الخطبة، حیث ینطوی هذا البیان علی عدة فوائد، إلی جانب کونه یحث الناس علی التفاعل مع الوظائف الدینیة وممارستها بکل شوق ورغبة ویهون علیهم تحمل بعضی المشاق التی تشتمل علیها بعض الوظائف الدینیة. ومن الفوائد التی یمکن ذکرها هنا:

1- تحدد للناس الاسلوب الصحیح الذی ینبغی أن تؤدی فیه الفریضته، مثلاً حین تبیّن فلسفة الحج «فرض اللّه الحج تشییدا للدین» (4)، فمفهوم ذلک إقامة مراسم الحج بکل عظمة

ص:401


1- 1) میزان الحکمة 2/1931 ح 12611. [1]
2- 2) غرر الحکم، 6166. [2]
3- 3) الکافی 2/195 ح 10. [3]
4- 4) خطبة الزهراء علیها السلام، احتجاج الطبرسی 1/258، طبع اسوة، وورد مثل هذا المعنی فی الکلمات القصار،252.

لتحقیق هذا الهدف ولا یکتفون بآدابه الصوریة الظاهریة.

2- أنّ یعلموا أنّ آثار وبرکات هذه الأعمال تعود علینا، فلیس هناک من منّة علی اللّه، بل اللّه یمن علینا، الأمر الذی صرح به القرآن الکریم بشأن الإسلام والإیمان: «یَمُنُّونَ عَلَیْکَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَیَّ إِسْلامَکُمْ بَلِ اللّهُ یَمُنُّ عَلَیْکُمْ أَنْ هَداکُمْ لِلْإِیمانِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ» (1).

3- یمکننا تقییم أعمالنا من خلال الالتفات إلی فلسفة الأحکام، لنری مدی قبولها عند اللّه، مثلاً حین یقال: «وفرض علیکم الصوم للتقوی والصلاة نهیاً عن الفحشاء والمنکر» فانّ علینا أن نری هل حصلت لدینا ملکة التقوی بعد القیام بالصوم والصلاة أم لا؟ وهکذا نقف علی قیمة عباداتنا وأعمالنا.

نعم اننا نعلم بأنّ اللّه حکیم، وحکمته تقتضی ألایشرع شیئاً دون أن یبیّن هدفه ونتیجته، ویا لهم من جهال أولئک الذین یزعمون أنّ أفعال اللّه لیست معلله بغرض؛ أی لیس هناک من هدف فی تشریعاته وأعماله! أنّهم لیسیئون بهذا الکلام إلی کونه حکیماً سبحانه، وهم یزعمون أنّهم اقتربوا من حقیقة التوحید، والحال أنّهم مصداق لهذه الآیة الشریفة: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُکُمْ بِالأَخْسَرِینَ أَعْمالاً* الَّذِینَ ضَلَّ سَعْیُهُمْ فِی الحَیاةِ الدُّنْیا وَهُمْ یَحْسَبُونَ أَ نَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً» (2).

نعم أفعال اللّه لیست معللة بأغراض، أی لیس هناک من هدف یعود إلیه، لأنّه غنی عن کل شیء وعن کل موجود؛ إلّاأنّ المؤسف له أنّ هؤلاء الجهال لایقولون ذلک، بل یزعمون أن لاضرورة لأنّ تعود نتیجة أفعال اللّه وأوامره علی العباد، وهذا منتهی الجهل! !

علی کل حال فانّ الإمام علیه السلام بین فلسفة الأحکام فی هذه الخطبة، بحیث یتأجج الشوق فی أعماق من یتمعنها لأن یؤدی وظائفه علی أکمل وجه دون أن یشعر بالتعب والملل.

ص:402


1- 1) سورة الحجرات/17. [1]
2- 2) سورة الکهف/103- 104. [2]

القسم الثانی: القرآن والسنة

اشارة

«أَفِیضُوا فِی ذِکْرِ اللّهِ فَانَّهُ أَحْسَنُ الذِّکْرِ. وَارغَبُوا فِیَما وَعَدَ المُتَقِینَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ الْوَعْدِ. وَاقْتَدُوا بِهَدْی نَبِیِّکُمْ فَاِنَّهُ أَفْضَلُ الْهَدْیِ. وَاسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أهْدَی السُّنَنِ. وَتَعَلَّمُوا الْقُرآن فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِیثِ، وَتَفَقَّهُوا فِیهِ فَإِنَّهُ رَبِیِعُ الْقُلُوبِ، وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَص، وَإِنَّ الْعَالِمَ بِغَیْرِ عِلْمِهِ کَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِی لاَ یَسْتَفِیقُ مِنْ جَهْلِهِ؛ بَلِ الْحُجَّةُ عَلَیْهِ أَعْظَمُ، وَالحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ، وَهُوَ عِنْدَ اللّهِ أَلْوَمُ» .

الشرح والتفسیر

بعد أن فرغ الإمام علیه السلام من بیان أرکان الإسلام وذکر فلسفة الأحکام، دعا الناس إلی امتثال الأحکام والعمل بالوظائف فقال علیه السلام: «أفیضوا فی ذکر اللّه فانّه أحسن الذکر» .

فالعبارة «أفیضوا» تفید کثرة ذکر اللّه سبحانه والتوجه إلیه.

والعبارة «أحسن الذکری» لأنّ ذکر اللّه سبحانه مصدر وأساس کافة البرکات المادیة والمعنویة.

فقد جاء فی الحدیث النبوی: «لیس عمل أحب إلی اللّه تعالی، ولا أنجی لعبد من کل سیئة فی الدنیا والآخرة، من ذکر اللّه. قیل: ولا القتال فی سبیل اللّه؟ قال: لولا ذکر اللّه لم یؤمر بالقتال» (1).

ص:403


1- 1) کنز العمال، 3931.

ثم قال علیه السلام: «وارغبوا فیما وعد المتقین فانّ وعده أصدق الوعد، واقتدوا بهدی نبیّکم فانّه أفضل الهدی، واستنوا بسنته فانّها أهدی السنن» .

لاشک أنّ الوعود الإلهیة للمطیعین والمؤمنین الصالحین لهی أصدق الوعود، لأنّ من یتخلف عن الوعد إمّا عاجز، أو بخیل أو جاهل، حیث یعد دون علم، ثم لایفی بوعده. أمّا من کان مطلق فی علمه وقدرته فخلف الوعد محال علیه.

المراد بالهدی (علی وزن منع) السبیل والاسلوب والطریقة.

والسنة تعنی ما یصدر من الأوامر فی مختلف المجالات، ولما کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله هو خاتم الأنبیاء، فمن الطبیعی أن تکون سنة أهدی السنن.

ثم أکد الإمام علیه السلام علی القرآن فقال: «وتعلموا القرآن فانّه أحسن الحدیث، وتفقهوا فیه، فانّه ربیع القلوب، واستشفوا بنوره فانه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فانّه أنفع القصص» .

فقد ذکر الإمام علیه السلام أربع مراحل مختلفة تتقدم کل واحدة منها بصورة طبیعیة علی الاُخری.

فی المرحلة الاولی أوصی علیه السلام بتعلم القرآن علی أنّه أحسن الحدیث؛ وذلک لاشتماله علی أکمل أسس سعادة الإنسان.

المرحلة الثانیة أوصی علیه السلام بالتفکیر والتدبر فیه وسبر غوره والوقوف علی معناه ومضمونه، بفضله ربیع القلوب، فکما تتفتح البراعم فی فصل الربیع وتورق الأشجار وتنبت الأوراد والزهور وتنتشر رائحتها العطرة فی کل مکان، فببرکة القرآن الکریم تظهر علی القلب زهور فضائل الأخلاق وبراعم المعارف الإلهیة، فمن لم یکتسب منه الحیاة الإنسانیة، کان کالشجرة الیابسة التی لاتهتز وتتحرک فی فصل الربیع.

المرحلة الثالثة الأمر بالعمل والقول: علیکم بالاستشفاء بنور آیات اللّه، علی غرار نور الشمس التی یستشفی فی ظلها المرضی، فقد قیل أشعة الشمس قد تغنی عن حضور الطبیب. والمرحلة الرابعة: «أحسنوا تلاوته» لتغوص القلوب فیه وتطبع بطابعه فتبلغه إلی الآخرین.

وهکذا یکون الإمام علیه السلام قد حدد وظیفة الأفراد تجاه القرآن الکریم. ولیت الأفراد لم یکتفوا بالاقتصار علی حسن تلاوة القرآن وتجویده والترکیز علی جمالیة الصوت، والتفتوا إلی سائر

ص:404

المراحل التی تشکل الدف الأصلی للقرآن. وقد عبرت العبارة الاولی عن القرآن علی أنّه أحسن الحدیث، والعبارة الأخیرة أنفع القصص. فالحدیث ما یصدر من المتحدث من کلام (لأنّ الحدیث من مادة حدوث ویطلق علی الکلام الحدیث لأنّه حادث باستمرار) فالمفهوم أنّ القرآن أفضل کلام بین الناس، من حیث الفصاحة والبلاغة، ومن حیث المحتوی والمضمون، والواقع هو أنّ العبارة إشارة إلی الآیة الشریفة: «اللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِیثِ کِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِیَ» (1).

أمّا أحسن القصص فقد ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بها المجموعة القرآنیة بما فیها الآثار والنتائج العلمیة للقرآن التی تتحصل فی ظل اجراء الأحکام والتعالیم القرآنیة.

ومن هنا وردت الإشارة فی آخر الخطبة إلی نقطة مهمّة بالنسبة للعالم الذی لاعمل له، واولئک الذین یتلون القرآن ولایعملون به، إذ قال علیه السلام: «إنّ العالم بغیر علمه کالجاهل الحائر الذی لایستفیق (2)من جهله، بل الحجة علیه أعظم، والحسرة ألزم، وهو عند اللّه ألوم (3)» .

فالعبارة تشتمل علی تشبیه رائع للعالم بلا عمل (أو بتعبیر الإمام علیه السلام العالم الذی لایعمل بعلمه) یفید أنّ مثل هذا العالم أقل درجة فی الواقع من الجاهل العادی. بل هو کالجاهل الحائر الذی لایفیق من جهله قط، فلیس هنالک من أمل فی هدایته؛ وذلک لأنّه یسیر عن علم علی الطریق الاعوج، ومن هنا فان اللّه سبحانه یسلبه توفیق الهدایة فیفقد صوابه فی هذه الحیرة ولایصل ساحل النجاة أبدا فیسقط فی الهاویة.

ثم أشار علیه السلام إلی مدی بؤس مثل هذه العالم السادر فی غیه فقال علیه السلام أولاً بأنّ الحجة علیه أعظم، فقد یتذرع الجاهل بجهله (إن یکن الجهل عذراً) ولکن ما عذر العالم بلا عمل.

والثانی حسرته لازمة، فقد تخلف عن السعادة وکانت کافة أسبابها لدیه فتاه حائراً فی صحراء الحیاة.

ص:405


1- 1) سورة الزمر/17. [1]
2- 2) «یستفیق» من مادة «استفاقة» بمعنی تحسن الحالة الصحیة بعد المرض والوعی بعد السکر والیقظة من النوم وجاءت هذه الکلمة فی هذه الخطبة بالمعنی الثالث أی الیقظة من النوم.
3- 3) «ألوم» من مادة «لوم» علی وزن قوم بمعنی العتب، ومع الأخذ بنظر الاعتبار بان «ألوم» هی صیغه أفعل تفضیل، وهنا تعنی الملامة، وهو الأنسب.

والثالث أنّه أکثر لوماً عند اللّه من الجاهل الحائر، لأنّ الحجة علیه أتم من غیره. ومن هنا ورد فی الروایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «یغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن یغفر للعالم ذنب واحد» (1). بل یتعذر قبول توبة هذا العالم الذی لاعمل له. فقد صرح القرآن الکریم قائلاً: «إِنَّما التَّوْبَةُ عَلی اللّهِ لِلَّذِینَ یَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ. . .» (2).

تأمّل: عاقبة العالم غیر العامل

الناس علی أربع: عالم، جاهل مقصر، جاهل مقصر بسیط وجاهل مرکب. فالعالم من یعلم المطلب علی نحو الاجمال أو التفصیل؛ أی قد یکون له أحیاناً علم اجمالی بالشیء، وقد یکون له أحیاناً اُخری علم تفصیلی. فهو یعلم مثلا علی نحو الإجمال أنّ المسکر حرام وله أضرار علی جسم الإنسان وروحه. أو أنّه رأی علی نحو التفصیل أدلة حرمة المسکر وقد درس الآثار الضارة له علی کل عضو من أعضاء البدن.

والجاهل القاصر من لایعلم، ولیس له من سبیل إلی العلم، وربّما کان بعیداً عن مراکز العلم فانغمس فی الغفلة والسهو.

والجاهل المقصر من له سبیل إلی العلم، إلّاأنّ الکسل والإهمال لم یدعه یتجه إلی العلم، فیبقی فی جهله، مع ذلک فهو یعلم بجهله!

أی یدری أنّه لایدری.

وأمّا الجهل المرکب فهو من جهل ولایدری أنّه فی جهل. بل بالعکس یظن أنّه عالم وما یفهمه من الاُمور هو عین الواقع، وبعبارة اُخری فهو: لایدری أنّه لایدری.

ویبدو أنّ الخطر والمسؤولیته التی تتوجه إلی الجاهل القاصر أقل من غیرها بالنسبة للطوائف الأربع، ویأتی بعده الجاهل المقصر ثم الجاهل المرکب؛ الذی قد یدفعه جهله المرکب لایجاد بعض المشاکل لنفسه والآخرین. إلّاأنّ الأخطر من الجمیع هو العالم.

ص:406


1- 1) الکافی 1/47 ح 1. [1]
2- 2) سورة النساء/17. [2]

الذی لا عمل له. وإلی هذه الطائفة تعزی جمیع الکوارث التی تکبدتها البشریة طیلة التأریخ بما فیها النزاعات والحروب فی الماضی والحاضر.

فهم الذین یصنعون أخطر أسلحة الدمار الشامل التی تهدف إلی القضاء علی الأبریاء من المجتمع البشری. وهم الذین یشعلون فتیل الحرب من أجل تحقیق مآربهم واطماعهم.

وأخیراً هؤلاء هم الذین یستحوذون علی المواقع المتقدمة والمراکز الحساسة فی الأجهزة الإعلامیة ووسائل الدعایة لیمارسوا أوسع عملیة تضلیل لیشوهوا الحقائق فیسوقوا الجهال إلی نیران فتنهم ویقضوا علی حیاتهم. وقد شبههم القرآن الکریم بالکلاب إذ قال: «فَمَثَلُهُ کَمَثَلِ الکَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَیْهِ یَلْهَثْ» (1).

والسؤال الذی یطرح نفسه هنا: تری ما سر هذا التضاد بین العمل والعلم أولم یکن حریاً بهذا العالم أن یتجه إلی الصواب ویقود الناس إلیه؟

ویبدو الجواب واضحاً علی هذا السؤال وهو أن أسس ودعائم إیمان هذا العالم إنّما هی فی الواقع ضعیفة خاویة، وإن انتحل الإسلام والعلم ظاهراً، إلّاأنّ لسانه الباطنی «یقولون إن اللّه خالق جنّة ونار وتعذیب وغل یدین» (2).

کما قد یکون مؤمنا باللّه إلّاأنّه منقاد لهوی نفسه الذی یتغلب علی إیمانه.

ونختتم هذا الکلام بحدیث عن علی علیه السلام فی أنّ التوارة قد اختتمت بخمس عبارات هی (3).

الأول: العالم الذی لا یعمل بعلمه فهو وابلیس سواء.

والثانی: سلطان لایعدل برعیته فهو وفرعون سواء.

والثالث: فقیر یتذلل لغنی طمعاً فی ماله فهو والکلب سواء.

والرابع: غنی لاینتفع بماله فهو والاجیر سواء.

والخامس: إمرأة تخرج من بیتها بغیر ضرورة فهی والاُمّة سواء.

ص:407


1- 1) سورة الأعراف/176. [1]
2- 2) ورد ذلک عن عمر بن سعد حین اقترح علیه قتال الحسین علیه السلام فی کربلاء، واعطائه ملک الری، ففکر فی الأمر ثم انشد شعرا، زعم فیه أن یقتل الحسین علیه السلام ویفوز بملک الری ثم یتوب اله اللّه سبحانه. ألا لعنة اللّه علی الظالمین.
3- 3) الاثنی عشریة /206. [2]

اللّهم نسألک العمل بما نعلم من العلم الذی أفضته علینا فی ظل قبسات وعلوم نهج البلاغة لأمیرالمؤمنین علی علیه السلام، اللّهم ولاتقرنا مع الشیطان أبداً، اللّهم نسألک حسن العاقبة وأن تختم لنا بالخیر.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمین.

تم بعون اللّه المجلد الرابع من شرح نهج البلاغة

فی 17 شوال. عام 1422 ه ویلیه المجلد الخامس ان شاء اللّه.

ص:408

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.